وينظر إلى الواقع الجديد نظرة شك: ويرى المستقبل أكثر إثارة للشك في النفس؛ إذ يقول: «نحن في مستهل زلزلة للمجتمع العالمي من أساسه .. ونحن لا نعرف إلى أين سيمضي بنا»؛ ولهذا يرى في ضوء هذه الأزمة وحالة الشك والغموض الحاجة إلى إنشاء موقع وسط راديكالي مبني على الاعتراف بأن الحاضر في حالة فيض وعملية دفق، وأن نشرع في إعادة تجميع الاهتمامات التقليدية التي يمكن للوسط الراديكالي أن يحفزها ويحركها.»
ويمهد الأرض لمشروع الطريق الثالث بانتقاد اليسار-التقليد، ويصفه ب «الشبح الذي ثار قلقه وقلق الغرب، وهو الاشتراكية بكل ألوان طيفها، وقد عاد إلى عالمه السفلي واختفى ..» وفي عبارة أخرى متكررة يقول: «إن الاشتراكية التي طننت أنها ستدفن الرأسمالية دفنتها الرأسمالية .. التي أصبحت هي المطلق ولا بديل عنها.» ويقول في تبرير ذلك: «لا يسع أي امرئ إلا أن يخلص إلى نتيجة مفادها أن العالم في آخر القرن العشرين لم يتحول على نحو ما تنبأ له مؤسسو الاشتراكية وقتما التمسوا توجيه حركة التاريخ .. لقد اعتقدوا أننا كبشرية كلما زادت معرفتنا بالواقع الاجتماعي والمادي، زادت قدرتنا على التحكم فيهما وفاء لمصالحنا .. ويمكن للبشر أن يصبحوا سادة مصيرهم ولكن جاءت الأحداث غير مصدقة لهذا.»
وينتقد اليسار الذي يقرر أن القوى العاملة المطحونة هي القوة المحركة للتاريخ نحو غاية مرسومة، فيقول: «ينبغي التخلي عن فكرة أن ثمة قوى منوط بها إنجاز أهداف مرسومة للتاريخ بما في ذلك الفكرة الميتافيزيقية التي تزعم أن التاريخ صنعة المعوزون.» بيد أننا إذا أبدلنا كلمة «المعوزون» بعبارة «المنتجون المظلومون أصحاب المصالح المهضومة» سوف يتغير المعنى ويتجلى تناقضه حين يقرر في حديثه عن أسباب العنف الاجتماعي: «إن العنف ينشأ ببساطة في أغلب الأحيان من صدام المصالح والصراع من أجل السلطة. ومن ثم نرى أن هناك كثيرا من الأوضاع المادية التي يتعين تغييرها بكل صرامة، والنضال ضدها والحد منها.» وطبيعي حين يدور الصراع سوف تتعدد الرؤى ومناهج العمل ويظهر يسار ويمين.
ونحن لا يسعنا إلا أن نقرر أنه على حق؛ إذ ينتقد نظم الحكم الاشتراكية ويصفها بالبيروقراطية، وينتقد المفكرين الاشتراكيين لهذه النظم بالجمود، وأن الواقع وقضاياه تجاوز الأطر الفكرية لليسار ولليمين «التقليديين». ولكن لنا أن نتساءل، هل سقوط النظم الإدارية أو نظم الحكم يعني سقوط التوجه الفكري جملة نحو عدالة اجتماعية أو تغيير علاقات المجتمع؟ وهل نقده لرؤية الاشتراكيين عن أن المعرفة ستجعل البشرية سيدة مصيرها .. هل هذا النقد منصب على المعرفة واستخدامها وتوظيفها بشكل مطلق أم على قوى صاحبة مصالح تستثمر المعارف تحقيقا لمصالحها من دون بقية المجتمع؟ وهذا من شأنه أن يولد صراعا وحراكا اجتماعيا تتباين وتتصارع بشأنه الرؤى والأفكار يمينا ويسارا.. أو محافظون وراديكاليون دعاة تغيير.
والجدير ملاحظته أنه في نقده للاشتراكية والإعراب عن سعادته بعودة الشبح إلى عالمه السفلي يرى أن الاشتراكية غرست قيما وأفكارا تجسد أماني ومعاني ترسخت في وجدان الناس. لذلك يتعين - حسب رأيه - مع محاولة إعادة هيكلة فكر الغرب ونهجه في الحياة؛ أن يضفي الطريق الثالث معاني جديدة على تلك القيم والأفكار حتى يتحرك الناس معه؛ أي ينتحل القيم التي غرستها الاشتراكية. وهذه هي إحدى المهام الأساسية في كتابات جيدنز.
ولكن جيدنز بقدر وضوحه وقسوته الشديدين في نقده لليسار بكل صوره ومشاربه نجده غامضا في نقده لليمين، ليس اليمين عنده هو الليبرالية الجديدة، ولا العولمة بمعنى السوق الكوكبية للمضاربات والحدود المفتوحة للشركات متعدية القومية، ولا العنف الموجه ضد الشعوب الرافضة للهيمنة، ولكن اليمين موضوع النقد والهجوم هو دولة الرفاه الكينزية التقليدية، ثم بعض أساليب الحداثة الغربية في الإنتاج؛ إذ تراه - عن حق - يرفض ما اصطلح على تسميته النزعة الإنتاجية
، والتي تعني أنانية المصالح في السعي إلى أقصى قدر من الربح من خلال المزيد من الإنتاج من دون اعتبار لتدمير الطبيعة. أي إنه يرفض هنا الإنتاجية لأسباب أيكولوجية وليس لأسباب إضافية تتعلق بالاستقرار والعدالة الاجتماعية. ويطالب بديلا عن ذلك بالإنتاجية
؛ أي الإنتاج في مصالحة مع الطبيعة. ويفيض في نقده وهجومه ضد دولة الرفاه، التي تمثل عنده التقليد الكينزي حيث يطالب اليمين - أي الليبرالية الجديدة - بتغييرها، بينما يطالب اليسار - الاشتراكي الديمقراطي - بالمحافظة عليها.
وهكذا تحول اليمين إلى راديكالي يدعو إلى التغير، بينما تحول اليسار إلى محافظ. ويقرر أن الليبرالية الجديدة تولد وتنشط عمليات راديكالية من أجل التغيير تحفزها عمليات التوسع الدءوب لأسواق دون توقف. ويقول: «الليبرالية الجديدة إحدى القوى الرئيسية التي اكتسحت التقليد ..» ويؤكد مرارا في كتاب «الطريق الثالث» أننا نعيش في عالم «لا بديل فيه عن الرأسمالية .. أي الليبرالية الجديدة .. النموذج الأمريكي.» ويدعو إلى «الإفادة من ثقافة مقاولي المشروعات لما تتصف به من دينامية في السوق ومخاطرة في العمل وروح المسئولية لمشروعات الأعمال.»
ويقرر كذلك أن دولة الرفاه خلقت مجتمع متعطلين متواكلين على الإعانات الاجتماعية، والمطلوب اقتصاديات دينامية «رأسمالية» وأشخاص يتحلون بروح المخاطرة وإعادة التأهيل، وكأنه يقول للمتعطل «لا تبتئس من البطالة وإنما كن نشطا مخاطرا لإعادة تأهيل نفسك، وإن لم تفعل فلا تلومن إلا نفسك، إنها الداروينية الاجتماعية الجديدة التي أسلفنا الحديث عنها بلغة مارجريت تاتشر، ولكن بلغة جديدة، أو لنقل إنها الليبرالية الجديدة وراء قناع إنساني.» ونراه يقول صراحة في كتابه «الطريق الثالث ومنتقدوه»: «يسلم كتاب الطريق الثالث بإطار العمل السياسي لليبرالية الجديدة، خاصة ما يتعلق منه بالسوق الكوكبية؛ إذ إن الطريق الثالث يأخذ العولمة مأخذ التسليم. وأن الشيء المؤكد أنه أغفل الصراع ضد مظاهرة التفاوت في الدخل والثروة والسلطة.»
अज्ञात पृष्ठ