قائلا: إن التعديل في إحدى النظريات يحدث بوسائل مختلفة، ويتناول أجزاء مختلفة أو يجري على مستويات متباينة. مستوى المعنى الفيزيقي، أو مستوى الأداة الرياضية، أو مستوى الأساس المنطقي، أو مستوى التفسير الفلسفي. ثم إنه لا بد من النظر في طبيعة التحول؛ فقد تكون النظرية الجديدة استيعابا للقديمة وأكثر منها شمولا بحيث تغدو حالة خاصة بالنسبة إليها. إنها لا تثبت زيف القديمة بل تضيف .. وإن الانتقال إلى مستوى أعمق يقضي بأن ندرس الاختلافات بين مفهومين ونعتبره اختلافا جوهريا إذا ما انصب على الفكرة الرئيسية والمبدأ الأساسي أو المسلمة، والنسق المفاهيمي والمشكلات والمناهج؛ أي عندما نعيد النظر في الأسس الفيزيقية والمنطقية والفلسفية لمفهوم ما، ويفضي بنا هذا إلى تغيير في أداة الاستقراء مع نتائج أو تفسيرات جديدة ومن ثم نظرية مغايرة.
هذا نزر يسير من اعتراضات كثيرة انصبت على كتاب «توماس كون» «بنية الثورات العلمية» وهي اعتراضات لم تهدمه ولكنها اتخذته منطلقا لإضافات غنية ولأبحاث أكثر ثراء.
جيدنز: سيرة فكر في سياق كوكبي
«بعيدا عن اليسار واليمين» و«الطريق الثالث» و«الوسطية» .. إلخ، عبارات تواترت تاريخيا مثلما تواترت في عالمنا المعاصر على مدى القرن العشرين بين مختلف التيارات الفكرية والأيديولوجية. وجاءت الصيغ المتباينة إجمالا دعوة أو إعلان البراءة من التطرف أو يأسا من المواقف الحادة أو القاطعة وتوخيا للاعتدال. وواقع الحال أن دعاتها إما أنهم يتخذون من مقولتهم قناعا يخفي النوايا، ويدعون الناس إلى التخلي عن مواقف محددة أو انحيازات هنا أو هناك ومن ثم يسهل، بحكم عنصرة القوة، توجيههم إلى حيث يشاء الداعية، وقد تأتي الدعوة تعبيرا عن أزمة في الفكر ووسائل الإنجاز، وتجسيدا لحيرة يعانيها أهل الرأي خاصة حين تجف ينابيع الرصيد الفكري، ويتغير الواقع، ولا تجد أحداث الحاضر في الأطر الفكرية الجاهزة أو التقليدية تفسيرا وحلولا لمشكلات طارئة وملحة؛ أي حين تكون البشرية - واقعا وفكرا - على أعتاب تحول جذري جديد، وبحاجة إلى إطار فكري جديد تعمل على هديه.
ويمثل فكر «أنطوني جيدنز» تجسيدا لهذا الوضع المأزوم. وتأتي مؤلفاته التي تجاوزت الثلاثين كتابا، وكذا ندواته ومحاضراته تعبيرا عن تنويعات على لحن واحد: دعوة إلى الانصراف عن اليمين وعن اليسار، التماسا لطريق ثالث. وحري النظر إلى فكر جيدنز في إطار السياق الذي أنبت هذا الفكر، لنعرف العدو الحقيقي الذي يهاجمه، ونستكشف الوجهة التي يدفع الناس إليها، وعناصر القوة أو الضعف أو التناقض أو التردد. ونلتمس هذا في سياقين أو بعدين: سياق كوكبي وسياق محلي بريطاني.
وبداية أقرر أن كتاباته تعبير عن هم غربي لن يجد فيها القارئ العربي صدى لهمومه وقضاياه، هذا على عكس ما روج له المثقفون العرب من أنهم والبشرية جمعاء وجدوا سبيل الخلاص في «طريقه الثالث» كأنه تضمن حلولا لمشكلات الجنوب، أو أنه الطريق الثالث الأوحد والوحيد، على الرغم من أن الطرق الثالثة كثيرة الآن في الجنوب والشمال: بل يوجد في بريطانيا ذاتها «حزب الطريق الثالث» الذي أسس عام 1990م وهو بطبيعة الحال غير حزب العمال الذي يعمل له جيدنز مفكرا ومنظرا. ولكن أهمية كتاباته تأتي من كونه كتابا كاشفا عن واقع حال الفكر الغربي: التاريخ التطور - الأزمة - الخصائص. وتتمثل قيمتها بالنسبة إلى القارئ العربي - الذي عاش ردحا طويلا من الزمن أسير الإطار الفكري الغربي، ويراه مسلمة وحقا وحقيقة - في أنه يكشف أن الحقيقة ليست هذا الفكر، وأن الفكر الغربي شأن كل الأطر الفكرية في حقيقة مطلقة، بل وجه لواقع نسبي في الزمان والمكان. وتكشف كذلك عن خاصية ذات وجهين، سلبي وإيجابي، في فكر الغرب: الوجه الإيجابي هو فعل التداول والحوار الحر المنتج بشأن قضايا المجتمع بين أهل الرأي. والجانب السلبي هو أن الغرب يعيش أزمة فكر، ولكنها أزمة تضعه على طريق تحول جذري، أو هي مخاض ميلاد الجديد .. وتتهيأ إمكانات التحول وتجاوز الأزمة لتشملنا.
ولكن هذا لا ينفي خصوصية مشكلاتنا وخصوصية فعلنا الغائب أيضا، ومن ثم ليس علينا أن نكون مجرد صدى، بل فعلا إبداعيا نشطا أصيلا نفكر لأنفسنا في سياقين محلي وكوكبي، ونهتدي إلى طريقنا، وإن اشترك في بعض عناصره مع طرق أخرى.
السياق الكوكبي إلى الجذور
النصف الثاني من القرن العشرين حقبة درامية بكل أبعادها، مؤلفة من فصلين، الحركة والتحول فيهما بين نقيضين تامي التناقض في الفكر والطموحات والآليات والسياسيات. وامتد أثر هذا إلى الجذور عمقا، وتجاوز الحدود القومية إلى آفاق كوكبية.
المشهد الأول بعد الحرب العالمية الثانية، قطبان أيديولوجيان يبسطان هيمنتهما وبينهما صراع ومنافسة أو حرب صامتة وصفت بالباردة، بعد أن خمد أوار حرب ساخنة مأسوية النتائج والدلالة. والمشهد الثاني في العقد الأخير، قطب واحد أوحد جبار متكبر له المشيئة، إلى حين. البداية فكر متماسك ويقين هنا وهناك أمل في التحرر وإصلاح ما فسد ومراجعة إنجازات العقل. والنهاية شك وسيولة فكرية وافتراس شرس بالمستضعفين من البشرية. البداية تجديد العهد في الاحتكام إلى العقل الذي اهتز عرشه إثر حربين عالميتين وتجديد الثقة بالنظرية. والنهاية سقوط الإيمان باليقين والعقل وبالأنساق الفكرية المطلقة. البداية جهد للتنمية والإعمار وإعادة البناء في إطار نظريتين متصارعتين: معها النظم الحاكمة باسم الاشتراكية، مثلما سقطت الاشتراكية ومجتمع المساواة، والليبرالية ومجتمع الرفاه. والنهاية أزمة هنا وهناك؛ سقطت الليبرالية وارتدت أو تحولت إلى ما يسمى بالليبرالية الجديدة ودولة الحد الأدنى من حيث الرعاية أو الرفاه الاجتماعية، ودولة الحد الأدنى أيضا من حيث القوانين المنظمة لحركة ودور ونشاط رأس المال. البداية عالم يثق في النظم والقوانين على الصعيدين المحلي والدولي، والنهاية عالم شارد مغترب مضطرب أو كما يصفه جيدنز «عالم منفلت».
अज्ञात पृष्ठ