والنماذج الإرشادية غير قياسية؛ إذ ثمة انقطاع أو قطيعة بين المفاهيم النظرية الأساسية المختلفة في العلم. ومن ثم فإن حركة العلم، أو لنقل النظريات العلمية أو النماذج الإرشادية الجديدة، ليست نتيجة منطقية ولا تجريبية للنظريات السابقة عليها.. إنها لا قياسية وحقائقها نسبية، وفي كل حقبة علمية أو مع كل ثورة علمية تكون السيادة لنموذج إرشادي له الغلبة. والنماذج الإرشادية في تاريخ العلم الواحد مختلفة عن بعضها اختلافا أساسيا، وتحل محل بعضها البعض على مدى مسار التطور التاريخي للمعرفة العلمية.
ويرفض «كون» رأي الوضعية المنطقية في اعتبار بنية النظريات العلمية نسقا من العلاقات الشكلية الخالصة لأبنية لغوية؛ إذ يرى أن نسق النظرية غارق أو منغمس في مخططات معرفية هادفة تحدد كلا من طابع ومسارات كل تطور جديد للنظرية، وكذا أسلوب تحديد التجارب وتفسيرها. وهو هنا متأثر بفكر وفلسفة «وورف» الذي استخلص بالاشتراك مع «إدوار سابير» من نتائج دراساتهما للغات ، مجموعة من القوانين على أساس عرقي، وانتهيا إلى ما يعرف باسم فرض النسبية اللغوية.
وحسب هذا الفرض فإن العالم الذي ندركه ونفسره قائم لاشعوريا على أساس معايير لغوية محددة. ونحن نحلل أو نجزئ الواقع إلى عناصر وفقا لقواعد تصنيف «وهي قواعد مجسدة في وحدات قاموسية أي مفردات اللغة» ووفقا للأبنية النحوية الأصيلة في اللغة موضوع البحث. وحيث إنه لا توجد لغتان متماثلتان فإن بالإمكان القول إن المجتمعات المختلفة موجودة في عوالم مختلفة. فنحن نحلل الطبيعة وفق خطوط حددتها لنا لغتنا الوطنية وهو ما يعني أساسا أن تنظيمها يتم على أساس أنساق اللغة الموجودة في الأذهان. وهكذا ندخل في مبدأ جديد من النسبية يقضي بأن جميع المشاهدين لا يسترشدون بنفس الدلائل أو الشواهد الفيزيقية وصولا إلى نفس صورة الكون ما لم تكن خلفياتهم اللغوية متماثلة. وحسب فرض النسبية اللغوية فإن الصور اللغوية المختلفة عن العالم يمكن أن تصنع أبنية فئوية مختلفة؛ ومن ثم تؤثر على معايير التفكير، كما تؤثر بالوساطة على معايير سلوك مجتمع معين.
ولقد استطاع «كون» أن يلفت الأنظار في دراسته عن نظرية العلم وتاريخه ومناهج بحثه إلى سلسلة كاملة من المشكلات التي كانت في الظل، ولكنها واقعية وجوهرية لفهم بنية ووظائف المعرفة العلمية التاريخية الفعلية لتطوير العلم.
ولكن «كون» بقدر ما أثار من اهتمام ودوي، أثار شكوكا وانتقادات. وانصب اتهامه بالذاتية أو النسبية الذاتية بسبب مشكلة الانتقال من نموذج إرشادي إلى آخر؛ أي الثورة العلمية التي تعني في رأيه الانتقال إلى عالم مغاير إدراكيا ومفاهيميا غير العالم الذي يعمل فيه الباحث. لقد تغير العالم لمجرد إبدال النموذج الإرشادي. إن الباحث العلمي عقب إبدال النموذج الإرشادي؛ أي عقب الثورة العلمية، يرى العالم في صورة مختلفة؛ بل إن ما كان بديهيا لم يعد جزءا من خبرته حتى وإن استخدم ذات المصطلحات القديمة. ذلك أن الصيغ والقواعد والمصطلحات تأخذ معنى كيفيا جديدا في إطار الصورة الكلية الجديدة ذات الدلالة المغايرة. معنى هذا أن الإبدال أو التحول أو الثورة ليست لها أسباب منطقية أو تجريبية. ويرى «كون» في هذا دليلا على وجود عناصر لا عقلية في تاريخ العلم.
وإذا كانت الانتقادات تركزت أساسا على مفهوم «كون» لمعنى الثورة العلمية؛ أي الانتقال من إطار فكري أو نموذج إرشادي إلى آخر، وما ينطوي عليه هذا الفهم من إيحاء بوجود عناصر لاعقلية ونفي للارتقاء الحضاري العلمي على نحو متتابع، فإننا سنجد من بين منتقديه من يحاول أن يدفع بهذا الجانب اللاعقلي إلى أبعد مما ذهب إليه «كون».
وناقش كتاب كثيرون المشكلات الفلسفية لفكرة تغيير النماذج الإرشادية، ودلالة ذلك بالنسبة لجدوى الحوار بين المجتمعات العلمية التي تلتزم بنماذج إرشادية متباينة، وأيضا إمكانية فهمنا نحن المعاصرين للمجتمعات البدائية. وعني هؤلاء المفكرون أساسا بفكرة «النسبية» المترتبة على رأي «كون» من أن النماذج الإرشادية يمكن النظر إليها باعتبارها تستجيب إلى عوالم مختلفة ومن ثم يتعذر التفاهم بينهم، ويستحيل حسم الخلاف باللجوء إلى أية لغة خارج النموذج الإرشادي، بمعنى أن الحوار بين الثقافات هو حوار طرشان.
يلزم عن هذا أن لا سبيل للوقوف خارج الحوار بين أنصار نموذجين إرشاديين والاهتداء إلى حجج «عقلانية» ومعايير برهانية تجريبية تكشف عن صواب صورة ما للعالم وخطأ الأخرى؛ إذ لكي يكون الحوار مجديا بين طرفين لا بد وأن يدور داخل ذات الإطار بلغته ومفاهيمه. وواقع الحال أننا مع إيماننا بالدور الحاكم للإطار الفكري في الحياة العامة إلا أنه ليس دورا حاكما أبديا داخل الحياة العلمية، وليس قدرا إلا إذا كان ذلك استنادا إلى أحكام قيمية على نحو ما نجد في ظل الجمود العقائدي الذي يخرجنا من دائرة العلم. وإذا كان الخلاف ينشب داخل المجموعة العلمية إزاء ظواهر معينة تشذ عن الإطار الحاكم، فإنها ظواهر طبيعية أو واقعية ليست مبتدعة ولا مصطنعة، ومصدرها العالم أو الطبيعة؛ ومن ثم فإنه لا بد - استطرادا مع نظرية «كون»، ولكن التزاما بنهج مغاير - أن يكون المرجع والحكم هنا الإشارة إلى العالم الخارجي، مصدر الظاهرة، وإقامة البرهان التجريبي لحسم الخلاف.
ولكن هذا لا يمنع أن نشاهد في الحياة العامة من يرفض الإقرار بالظاهرة الجديدة، ويستعصي عليه بحثها، ويسعى إلى تطويعها قسرا لإطار فكري موروث أو قياس انعقد عليه الإجماع، حسب ما يرى «كون»، بيد أن الأمر هنا لا يتعلق بظاهرة طبيعية يختص ببحثها العلم الطبيعي بمنهجه البرهاني التجريبي، بل ظاهرة إنسانية اجتماعية أو ثقافية لها منطق متميز. وهذا لا يعني أيضا الاحتفاظ بالإطار الفكري أو النموذج الإرشادي القديم له ذات القدر من الصواب والإنتاجية أو الفعالية العلمية بشأن النموذج الإرشادي الجديد .. ذلك أن من شاء أن يظل على إيمانه بأن الأرض مسطحة له حقه في هذا، ولكن اعتقاده لن يكون ندا ولا كفؤا لنظرية كروية الأرض. ثم إن الأمر هنا ليس اعتسافا، ولا اختيارا إراديا بل رهن بمرجع تحتكم إليه وتدعمه أجهزة البحث التي هي جزء لا يتجزأ من عناصر البرهان التجريبي.
ولهذا نقول إن نظرية «كون» كانت مؤثرة، ولها صداها في مجال العلوم الاجتماعية الثقافية، على عكس الحال بالنسبة للعلوم الطبيعية. فإن زاوية رؤية الإنسان للعالم من حوله نتاج ثقافي اجتماعي موروث. وتظل هذه الرؤية باقية في جوار مع رؤية علمية مغايرة. وتتألف هذه الرؤية في شمولها من عناصر تضم اللغة وقواعدها ودورها في صياغة صورة العالم وبنيته، ولبنات هذه البنية؛ ولهذا أثار بعض النقاد موضوع العلاقة بين لغة الحياة اليومية ولغة العلم في الحياه وتجاور الاثنين معا. ويقرر هؤلاء أن إطار ما نشهده في التجربة العلمية يحدده محتوى النظرية، غير أن أبنية الإدراك الأساسية مثل تفسير العالم في ضوء اللغة الطبيعية للحياة اليومية، تتشكل عند المستوى قبل العلمي. فالإنسان العام لا يزال من الوجهة الاجتماعية هو الإنسان بمكوناته الإدراكية ووسائل تعبيره؛ إذ لا يزال يدرك حسيا أن الشمس تدور حوله، ولا يزال يقول، وتفرض عليه لغته قول: أشرقت الشمس، وإن كانت لغة العلم وصورة العالم في العلم غير ذلك. وهذا من شأنه أن يثير قضية التواصل بين العلم ولغة العلم والعلماء وبين الحياة اليومية واللغة الطبيعية والإنسان العام أو الحس المشترك .. أو حدود التواصل بين العلمي في الحياة العامة.
अज्ञात पृष्ठ