وجدير بالذكر أن الصراع بين التقليد والتجديد امتد طويلا باسم المقدس في أوروبا قبل النهضة وما بعدها. ومن ذلك مثلا الصراع حول استثمار المال بالوكالة؛ أي حق إيداع مال بفائدة الاستثمار لصالح صاحبه، وهي الفائدة التي اصطلح فقهاء المسيحية على أنها ربا وأن الربا حرام. وهذه قضية تشبه تماما الصراع السجالي داخل المجتمعات الإسلامية على مدى أكثر من قرنين دون حسم. أصر كبار رجال الكنيسة في تحالف مع رجال الإقطاع وملاك الأراضي في أوروبا على تحريم استثمار المال بالوكالة مقابل فائدة باعتبارها ربا. وحدث هذا وقت ذروة النشاط التجاري بين آسيا وأوروبا عبر المنطقة الإسلامية. ونشط اليهود وأصبحوا هم ملوك الصيارفة واستثمروا التحريم المسيحي واستحوذوا على الأموال والتمويل. وأحس نشطاء المسيحيين بالخطر، وأن موقف الحرفيين الجامدين من فقهاء الكنيسة ورجال الإقطاع إنما يستهدف مصالحهم هم المالية ويعيق أوروبا عن التقدم على طريق النهضة البازغة. وانبثق عن الصراع ورواد العلمانية رجال دين تطهيريون هم قادة المذهب البروتستانتي، وتقدموا بتأويل جديد يجيز استثمار المال بالوكالة وقرنوا ذلك بتفسيرات جديدة عن علاقة المال بالعمل والزمن مما يبيح لصاحب المال حق الاستثمار بفائدة. ومن عجب أنهم اعتمدوا هنا على تفسير إسلامي سبق أن قدمه ابن رشد في الأندلس في فصل «القراض» من كتابه «بداية المجتهد»؛ بما يعني أن العلمانية التي قرنها بعض الإسلامويين خطأ بالكفر إنما عادت على أيدي رجال دين تطهريين متشددين وأن مرجعيتها إسلامية.
وشهدت اليابان كما شهدت الصين من بعدها صراعا وسجالا نظريا، كاد أن يصل إلى حد الاقتتال بين التقليد والتجديد. وحفز إليه في كل مرة، مثلما حدث في أوروبا، توفر مقتضيات تطوير المجتمع على طريق الرأسمالية الصناعية. وصل الصراع إلى حد تكفير من يخالف النص في أبسط شئون الحياة الدنيا؛ كأن يتناول طعامه بغير العصى التقليدية.
وظهر من قال: «لقد جفت ينابيع التقليد.» وقال المصلح الاجتماعي «طاي تشن» في القرن 18 في الصين مثلا: «كتب التقليد لا طائل منها ما لم تعالج أمراض المجتمع.» وراج تساؤل: «أيهما أحب إليك، كونفوشيوس أم الحقيقة؟» واصطلحوا أخيرا على إجابة مشتركة: «كان كونفوشيوس محبا للحقيقة ساعيا إليها؛ ومن ثم حيث الحقيقة يكون كونفوشيوس.» وأعادوا إلى الحياة مقولة كونفوشيوس: «اعرف حكمة القدماء وعايش العصر، بذا تغدو حكيما.» وأخذت اليابان - كما أخذت الصين - سبيلها إلى النهوض في إطار تجديد للفكر التقليدي، وظهرت تأويلات جديدة مناسبة للعصر ودافعة لحركة التقدم.
وطبيعي أننا لسنا استثناء من القاعدة، فإن الحوار بين التقليد والتجديد مستمر أبدا يجري عنيفا صاخبا حينا خاصة في فترات عقد العزم على النهوض؛ ونراه يصمت أحيانا أو تخرسه قوى التقليد بحكم سطوة تحالف السياسة والموروث معا وغياب العقل النقدي قرين قوة الدفع الاجتماعي للنهوض. وتدافع قوى التقليد عن مكانها ومكانتها بإدانة محاولات النهوض محتمية زيفا بعباءة النص والإجماع والتزام الأصولية ورفض الآخر .. تعلن قدسية النص ووجوب الالتزام بما اصطلح على تسميته إجماع الفقهاء.
وينبري بين الحين والآخر من يتحدث باسم الإسلام كأن يقول: أنت تسأل والإسلام يجيب. ونسي هؤلاء أو تناسوا: أولا، ليس من حق أحد أبدا أن يقول: «أنا الإسلام»؛ ذلك أن الوحيد صاحب هذا الحق تاريخيا كان الرسول. ولتكن لهؤلاء أسوة في «علي بن أبي طالب» الذي قال: «القرآن حمال أوجه.» لذلك أحرى بهم أن يقول كل منهم «أفهم الإسلام هكذا».
والفهم له قواعده وقوانينه وحدوده وملابساته .. وحيث المصلحة مصلحة المجتمع، فثم شرع الله .. والمصالح متباينة ومتطورة. ثانيا، حجة الإجماع صحيحة في زمانها ومكانها. إن الإجماع إجماع بشر هم فقهاء عصرهم، لهم قضاياهم ومشكلاتهم، اجتهدوا لها سواء أصابوا أم أخطئوا. وليس صحيحا أبدا أن ينسحب إجماع زمان ما أو مكان ما ليفرض صدقه زيفا على كل زمان ومكان؛ فهذا نقيض منطق الحياة. وأحرى بنا أن نقول: «نحن فقهاء عصرنا». إن الاحتماء بالمقدس دفاعا عن مصالح أنانية لطائفة أو شريحة دون المجتمع ظلم للدين وللمجتمع. ومثل هؤلاء يتحملون وزر إعاقة حركة تطوير المجتمع وتعطيل قدرته على التحدي. وإن واقع حياتنا شاهد على ذلك.
الدين وحق المجتمع في التطوير
نحن نؤمن بأن الأديان نشأت لخير البشرية، بمعنى تنظيم المجتمعات في عصرها تأسيسا على قيم تشكل قاعدة ثقافية للسلوك الإنساني على نحو يكفل تماسك النسيج الاجتماعي ويؤمن حركة المجتمع واطراد بقائه. ونؤمن كذلك بأن النص الديني، كما يقول الفقهاء، نص متناه، وأن نص الحياة، أو لنقل نهر أحداث ووقائع الحياة، غير متناه؛ فهناك الجديد والمتنوع والمتعدد دائما الذي يقتضي وجوبا إعمال العقل العصري فيما يختص بشئون الدنيا دون إخلال بقيم إنسانية راسخة ومتعارف عليها بين جميع الأديان.
ويتجلى هذا الجديد المتنوع والمتعدد في العلاقات والتنظيمات الاجتماعية وفي المؤسسات ومحتوى وشروط ونطاق مصطلحات متطورة مثل العدالة والحكم والولاية والسلطة والمرجعية الحاكمة والإنسان ودوره، وطبيعة التنظيم الاقتصادي والسياسي والعلمي .. إلخ، وأن هذا الجديد كله يلتقي مع الأديان في الهدف تأسيسا على القيم الإنسانية، وهي خير الناس وخير المجتمع؛ مما يكفل لهم - حسب منطق كل عصر - إمكانية الترقي والنهضة والانتصار على التحديات وبناء مجتمع عادل تنتفي فيه المظالم.
والنص الديني لا يصادر حق المجتمع في تطوير نفسه وإبداع إطاره الفكري، وانتخاب آلياته ، واختيار الشكل الأمثل والأنسب لتنظيم العلاقات بين الناس وتحديد معنى الإنسان وهويته ودوره، وهي معان وأدوار متغيرة متطورة دوما.
अज्ञात पृष्ठ