غير أن هذه الحالات لم تعرف بتفصيلاتها وعوارضها التي تميزت بها قبل شيوع الدراسات النفسانية على منهج العلم الحديث، ومنذ أواخر القرن الثامن عشر بدأت هذه الدراسات كأنها دراسة واحدة ترتبط بموضوع واحد، ثم تفرعت على هذا الأصل الواسع فتخصصت منها دراسة لكل ضرب من ضروب الخلل والشذوذ، وانفصلت كل علة بأعراضها وأسبابها فهي لا تتشابه في عشرات من الشخصيات وإن شملتها كلمة الخبل أو كلمة الانحراف.
وأعرف العارفين بدخائل العلل النفسية اليوم هم الذين يستطيعون أن يراقبوا العلل في مظهريها المختلفين : مظهر الشخصية المريضة، ومظهر الإنسان الصحيح الذي يصاب بلوثة من الخبل والانحراف؛ فتشاهد آثارها في توجيه أفكاره وأعماله.
وهذان مظهران مختلفان، فإن الشخصية المريضة وحدة مشتبكة ترتبط فيها بعض الأعراض ويتلازم فيها بعض البواعث، وتكاد الشخصية المصابة بعلة من العلل أن تنفرد بلوازمها وأعراضها فلا تصلح لدراسة علة غير علتها ولا يصلح لها العلاج الذي تعالج به العلل الأخرى، فمريض العظمة غير مريض السوداء، وكلاهما لا يشبه مريض الإجرام في جملة أعراضه وبواعثه، بل يختلف أحيانا مرضى الإجرام فلا يتشابه مريض القتل والإيذاء، ومريض السرقة والاختلاس.
أما الشخصية التي تعتريها لوثة من لوثات الخبل والانحراف، فقد ينحرف مسلكها فيما يتصل بهذه اللوثة وقد يبدو الخبل فيها كأنه بقعة طارئة، يجوز أن تصبغها كلها بصبغتها ويجوز أن تلابسها بلون غير لونها، ولكنها على هذا وذاك بقعة طارئة وليست من مزاج الشخصية وتركيبها.
فإذا ملك الطبيب النفساني زمام علمه فقصاراه أن يدرك صورة الشخصية المعتلة فلا يخلط بين بواعثها وأعمالها وبين البواعث والأعمال التي تتميز بها شخصية مصابة بعلة أخرى، وقصاراه في أمر العلة الطارئة أن يدرك موقعها من النفس وعلاقتها بالأعمال والبواعث التي تعرضت لتأثيرها.
منذ بدأت الدراسات النفسية في أواخر القرن الثامن عشر - نشأت في عالم الأدب مدرسة النقد التحليلي التي جعلت قوامها تحليل الأدب والأدباء من الناحية النفسية، واتخذت صدق التعبير عن النفس معيارا لملكات الأديب، كما اتخذت أمانته للطبيعة معيارا لقدرته على حسن الأداء.
ولم يكن اصطلاح العقل الباطن معروفا في أواخر القرن الثامن عشر، ولكن الناقد المحلل وليام هوايتر ذكره باسم البواعث والنيات الخفية أو العميقة في كتابه الذي ألفه سنة 1794 وسماه نموذجا من التعقيب على شكسبير، فكان مداره على النوازع الكامنة وراء أعمال الأبطال والبطلات وأقوالهم التي ينساق إليها الأحياء بدافع من دوافع الشعور، يطيعونه وقل أن يدركوه.
3
ومضى بعد كتاب هوايتر قرن كامل في أشباه هذه البحوث والدراسات امتلأت فيه الأذهان بأصداء الحديث عن النفس ودخائلها وأسرارها وعلامات السلامة والمرض فيها، ووقر في روع الجيل كله أن العالم الحديث مصاب بداء الانحلال والاضمحلال، فشاعت على الألسنة كلمة «آخر زمن»
Fin de sicéle ، وطفق المتكلمون يرددونها كلما سمعوا عن خبر من أخبار الغرائب والبدوات التي يحسبونها من علامات الانحلال والاضمحلال، كأنهم يحسبون أيضا أن ختام السنوات في القرن يوافق ختام الزمن أو ختام العالم، وظهر في هذه الفترة كتاب «الانحلال والاضمحلال
अज्ञात पृष्ठ