أمين متحفه تواريخ زيارات الفرق التمثيلية لقرية ستراتفورد منذ طفولة الشاعر؛ فتبين له من التنقيب في دفاتر القرية ودفاتر المسارح أن ستراتفورد كانت من القرى المقصودة لتمثيل الروايات القديمة والحديثة في القرن السادس عشر، وأن أهلها كانوا على خلاف أبناء الريف في القرى الأخرى يرحبون بالفرق التمثيلية ولا يتحرجون من شهود الروايات المتنوعة على سنة المتطهرين ومن اتبع سنتهم من المعارضين لمذهب الإنسانيين، ويؤخذ من بيان فريب أن الفرق الكبرى زارت ستراتفورد أكثر من عشرين زيارة بين سنة 1569 التي بلغ فيها شكسبير سنته الخامسة أو السادسة إلى أن فارق القرية حوالي سنة 1587، ومن هذه الفرق الكبرى فرقة ليسستر التي عمل شكسبير في مسرحها وكتب لها كثيرا من رواياته.
ففي سنة 1569 زارت القرية فرقة الملكة وفرقة ورسستر في سنة 1573 زارتها فرقة ليسستر في سنة 1575 زارتها فرقة وارويك وفرقة ورسستر، وفي سنة 1576 زارتها مرة أخرى فرقة ليسستر وفرقة ورسستر، وفي سنة 1579 زارتها فرقة سترانج، وفي سنة 1580 زارتها فرقة دربي، وفي سنة 1581 زارتها للمرة الرابعة فرقة ورسستر وفرقة بركلي، وفي سنة 1582 عادت فرقة ورسستر فزارتها للمرة الخامسة، وفرقة بركلي فزارتها للمرة الثانية، وفي سنة 1583 زارتها هذه الفرقة للمرة الثالثة، وزارتها كذلك فرقة شاندوز، وفي سنة 1584 زارتها فرقة أكسفورد وفرقة ورسستر للمرة السادسة وفرقة أسيكس معها، وفي سنة 1586 زارتها فرقة غير مذكورة باسمها، وفي سنة 1587 زارتها فرقة الملكة للمرة الثانية، وفرقة أسيكس للمرة الثالثة وفرقة ليسستر كذلك للمرة الثالثة وفرقة غير معروفة وفرقة ستافورد، وفيها ممثلون اشتركوا في فرق شتى.
وتبين لأمين المتحف من تنقيباته المتلاحقة أن الممثلين تارلتون وكيمب أقدر الممثلين الهزليين في ذلك العصر زارا الإقليم مع فرقة الملكة صيف سنة 1587 وكانا زميلين بعد ذلك لشكسبير في تلك الفرقة.
وكان جون شكسبير - والد وليام - يستقبل تلك الفرق ويشرف على تصديق الرخص والطلبات التي تفرض على الفرق التمثيلية في رحلاتها خارج العاصمة بحكم وظيفته في المجلس ورقابته على المعاهد والأندية الخاضعة لإشرافه، فإن لم يكن في مقدمة النظارة من وجهاء القرية فهو - بحكم الوظيفة - وثيق الصلة بالمسرح في الشؤون التي تعني النظارة وغير النظارة من أبناء قريته، وقد كان من عادة القوم يومئذ أن يصطحبوا أبناءهم إلى معاهد التمثيل وبخاصة في القرى المتوسطة التي تتشوف إلى ملاهي الحاضرة وترحب بمقدمها؛ لأنها فرجة نادرة وفرصة حسنة للتنافس بين المتفرجين في المظاهر الاجتماعية، فلا بد أن يكون شكسبير الصغير قد شهد التمثيل من طفولته إلى شبابه، وحضر في أكثر الفرق رواية من رواياتها المتنوعة، إن لم يكن قد حضر جميع رواياتها ونظر إلى جميع ممثليها في أشهر الأدوار يحذقونها.
وربما شهد الطفل الصغير رواية واحدة تتكرر أمامه سنة بعد سنة، وينمو في أيامه فينمو في فهمها والإحساس بمعانيها ومناظرها على مراحل العمر من السادسة إلى الحادية أو الثانية والعشرين.
وربما تسنى له أن يشهد الدور الواحد يمثله نخبة من أقطاب المسرح كل منهم على طريقته ووفاقا لمذهبه في إخراجه وإلقائه، فاستطاع أن يختار له طريقة من تلك الطرق يخصها بإعجابه، واستطاع أن يعرف للإعجاب أسبابا تلائم ذوقه وتفكيره، ثم خرج من ذلك كله بخطة يتبعها فيما يحاوله من اقتدائه وابتكاره.
وربما قرأ المنظر في مختاراته المدرسية ورآه على المسرح معروضا بأزياء المسرح وهيئات الإخراج والتحضير، فأدرك الفوارق الخفية بين المطالعة في المدرسة والأداء على المسرح، وتعود أن يقرأ لنفسه ويمثل لنفسه وهو يقلب صفحات الكتاب ويستوعب قصائد الغناء والإنشاد.
وربما احتوته جمهرة من النظارة بعد جمهرة تشاكلها حينا وتخالفها حينا، فلمح على وجوهها دخائل نفوسها، وفطن من أطوارها لمكامن أهوائها ومواطن التجاوب بينها وبين المسرح، وبين المسرح وبينها، وانساق معها تارة وانعزل عنها برأيه وشعوره تارة أخرى، وسمع من تعليقاتها في البيوت والمجالس ما يقره وما لا يقره وما يتعلم منه وما ينكره لسخفه وسذاجته؛ فاستفاد من طول التجربة خبرة بطوائف النظارة تنفعه عندها وتنفعه في فنه، وتغريه بمراس ذلك الفن الذي طالما بهج به وأحس القدرة عليه.
ولا حاجة في القرن السادس عشر إلى تلمذة للمسرح أتم من هذه التلمذة ولا أطول منها في أمدها وأوفر منها في تنويعها؛ إذ كانت التلمذة كلها في ذلك القرن تلمذة إعداد بالمحاكاة والاقتباس، وكان زاد الفن من بقايا القرون الوسطى قليلا من القواعد العامة منقولة على السماع من أصول الخطابة والبلاغة عند قدماء اليونان والرومان، أو منقولة بالدراسة في معاهد العلم من أقوال أرسطو وخلفائه، وقلما وصلت على صحتها إلى أسماع الممثلين ومديري المسارح المحترفين، ولعل شكسبير قد جمع القواعد النظرية التي كانت شائعة يومئذ فيما قاله على لسان هملت من حديثه مع الممثلين أو مناجاته لنفسه، وهي تتلخص في صدق المحاكاة للملامح وترك التكلف في الأداء واجتناب التهويل بالصياح والجلبة وضرب القدم والتلويح باليد ، وما إلى ذلك من الوصايا التي لا ينتفع بها من يغفل عنها ويحتاج فيها إلى وصية معادة.
والمعلوم عن ممثلي ذلك العصر أنهم كانوا يخلقون فنهم على أيديهم، وأنهم كانوا يفتتحون طريقهم غير مسبوقين إليه؛ لأنهم كانوا يمثلون على مسرح جديد في بنائه وتبديل مناظره، ويخاطبون جمهورا لم يخاطبه الممثلون من قبلهم في عهد اليونان أو عهد الرومان، ويرتبون المواقف والمناظر - بل الأدوار والأقوال أحيانا - على وفاق الحركة المستطاعة فوق المسرح وفي مواعيد التمثيل، ولا مناص للممثل على ذلك المسرح من استخدام الكلام والحركة للدلالة على المواقيت والمواقع وتعويض النقص في أدوات المسرح بحماسة الشعر أو حماسة الحوار أو بالإكثار من الجمل المعترضة التي توحي إلى النظارة ما يستوحونه اليوم بنظرة عاجلة في غير جهد من الممثلين.
अज्ञात पृष्ठ