ليس لشكسبير صورة مرسومة في أيام حياته، وكل ما يرى اليوم من الصور والتماثيل التي تختلف فيها الملامح والأوضاع فهو نسخ منقولة من تمثاله النصفي على ضريحه أو من صورة صنعت له بعد موته بسنوات، وهي صورة دروشوت
Droeshout
التي ظهرت في الطبعة الأولى من مجموعة رواياته وقصائده.
وصانع هذه الصورة مارتن دروشوت (1601-1650) مهندس فلمنكي نزل بلندن مع أبويه ولم تكن سنه تزيد على خمس عشرة سنة حين مات شكسبير في سنة 1616، ومضت ست سنوات بعد موته حين صنع الصورة في أواخر سنة 1622 قبيل ظهور الطبعة الأولى من المجموعة.
والمفهوم أنه استعان في استحضار ملامح الصورة برسم تخطيطي تممه بما وعته ذاكرته وراجعه فيه زملاء الشاعر وعارفوه، وجاءت الصورة على ما يظهر مطابقة لقسمات الوجه وتركيب الجسم غاية المستطاع؛ لأن بن جونسون الشاعر - أعرف الناس بشكسبير - كان يرتضيها ويلمح فيها صفات صاحبه وزميله، وقد كتب تحتها أسطرا منظومة قال فيها يخاطب القارئ: «إن هذا الرسم الماثل أمامك يحكي فيه الرسام صورة شكسبير الرضي الوديع، وإنه ليجتهد اجتهاده أن يباري الطبيعة في صنيعها، ولكنه لو استطاع أن يرسم ذكاءه كما رسم طلعته لفاقت الصورة الكتاب، فأما وهو غير مستطيع فهاك صورة ذكائه فانظر إليها في حروف هذه الصفحات ...»
وقد حاول الرسام جهده أن يودع صورته لمحات من صفات النفس كما تنم عليها ملامح الوجوه، فوضحت فيها صفات اللطف والوداعة التي قدمها بن جونسون على سائر صفاته، وبدا فيها مع سماحة الطباع شيء من الجنوح إلى العزوف والاحتجاز في غير جهامة، وشيء من الاعتزاز في غير صلف أو مناجزة، كأنها تنبيه خافت يهمس ولا يجهر، ولكنه لا يهمل ولا يأذن للناظر إليه أن ينساه.
ولا بد أن يكون شكسبير رضي الخلق حقا ليذكره بن جونسون بهذه الخصلة قبل سواها من عامة خصاله، فإن بن جونسون لم يكن بالرجل الذي يرضيه ما يرضي غيره من شمائل الطيبة والوداعة، وقد غضب مرة من أحد الممثلين فدعاه إلى المبارزة فقتله وأوشك أن يؤخذ به على أعواد المشنقة لولا سابقة له في الحرب ودالة له على بعض العظماء، وكان يلوم من يحسب إصابته بالمرض خبرا دون أخبار الزلازل وكوارث الطبيعة، وبينه وبين شكسبير منافسة قوية تثيره عليه ولا ترضيه عنه لو لم تكن سجية السماحة والمودة فيه أقوى من دوافع المنافسة والعداء، بل لا بد أن تكون المودة فيه قوة لا تقهر ولا يسهل نكرانها أو إغفالها في معترك الخصومة والمزاحمة بين أهل الفن وأصحاب المسارح ونظراء الأدب والوجاهة في العاصمة والريف، وقد ارتفع في شهرته إلى الذروة التي تغري بالحسد والغيرة في مجاله وفي غير مجاله، ولكنه لم يدع لأحد من منافسيه ذريعة للتجني عليه، ولم يستدرجه أحد قط إلى مقابلة الخصومة بالخصومة ومجاوبة الذم بالذم والوقيعة بالوقيعة، وخرج من حرب الشهرة الزبون بعدو واحد متهم في عداوته وصداقته، هاجمه عند زملائه وبالغ في إغرائهم بتصديق مثالبه وإقناعهم برأي في الرجل مثل رأيه، فلم يكن لحملته صدى غير الإعراض.
ويشاء القدر الساخر أن تبقى هذه الحملة العنيفة بعد ثلاثة قرون ليرجع إليها طلاب الشهادة لفضل الشاعر وكفايته وصدق دعواه، فهي اليوم حجة من الحجج المقنعة التي تقوم عليها سمعة شكسبير وتنتفي بها عنه شبهات الادعاء والانتحال، وتجد من ثمة مكانها في سيرته بين كفتي الثناء والانتقاص، لترجح بها كفة الثناء.
في الفصل الثالث من رواية هنري السادس التي ألفها شكسبير كلمة يتحدث فيها عن قلب نمر في إهاب امرأة، وهذه هي الكلمة التي استعارها روبرت جرين - منافس شكسبير في التأليف المسرحي - ليقول إن قلب النمر إنما هو ذلك القلب الذي يكمن في إهاب ممثل يظن أنه الوحيد الذي «يهز الستار»، ويومئ بذلك إلى اسم شكسبير الذي يتألف - كما تقدم - من كلمتين بمعنى «هزاز الرمح» ... ثم يحذر «جرين» زملاءه الشعراء من هذا الدعي الذي داخله الغرور؛ فخيل إليه أنه ينظم الشعر المرسل كأقدرهم وأبرعهم في صناعة القصيد.
ولم تكن هذه الحملة أولى الحملات التي شنها جرين على الممثلين الذين يرفضون رواياته أو يقبلونها ولا يحفلون بآرائه في تمثيلها وإخراجها وتقدير حقوقها، فإنه أطال الحملة عليهم في جملتهم وأفرد أناسا منهم بأسمائهم، وختم هذه الحملات المتواترة عليهم بحملته الأخيرة قبيل وفاته (1592) على شكسبير.
अज्ञात पृष्ठ