108

جاءت في رواية الحب الضائع تهكما بالمتشدقين المولعين بالكلمات الطويلة، فعالجوا حروفها الكثيرة ضما وتفريقا ليستخرجوا منها اسم المؤلف المفروض، وأيا كان اسمه فمن المحقق أن اشتراك الحروف لا يصدق في وقت واحد في الإيحاء باسم باكون، واسم روتلاند، واسم أكسفورد، واسم مارلو، ومن عسى أن يذكر من أسماء النبلاء والأدباء. •••

ولسنا نعلم أن أحدا من علماء اللغة وخبراء الأدب أقام وزنا لقرينة من قرائن الجفر والرموز، وإنما يلهج بهذه القرائن جمهرة المتطلعين وطلاب الأفانين، أما علماء اللغة وخبراء الأدب والنقد فوسيلة التحقيق عندهم أن يقابلوا بين الأساليب والموضوعات، وهي أدنى إلى الجد وسداد النظر في هذه الدراسات، وأكثرهم يرى بعد المقارنات الطويلة أن تشابه العبارات لا يثبت شيئا خاصا بشكسبير أو بأديب من أدباء عصره؛ لأنه قد يثبت المستحيل وهو أن يكون باكون مؤلفا لكتب العصر كله من منظوم ومنثور؛ إذ كانت العبارات المتشابهة غير قليلة بين أدباء العصر على الإجمال، وعندهم أن لوازم العصر قد تشيع على تعبيرات الأقلام كما تشيع في أحاديث الألسنة في كل حقبة على نهجها ووتيرتها، وبخاصة في عصور التطريق والتعبيد على مثال العصر الذي كتب فيه شكسبير وباكون؛ لأنه كان بمثابة مفترق الطريق بين الكتابة باللاتينية والإغريقية والإقبال على الكتابة باللغة الإنجليزية الحديثة، وفي أمثال هذه العصور تتولد الصيغ والقوالب ويكثر التشابه في الأنماط والعبارات، ويكاد الكتاب جميعا أن يصدروا عن نمط واحد وسليقة واحدة؛ لأنهم لا يبلغون من كثرة العدد أن تتسع بينهم شقة الخلاف، ولا يبلغون من تنوع الأساليب أن تكون فيهم مدرسة مستقلة لكل أسلوب.

ومما يذكر في جانب شكسبير أنه كان ينقل الخطب والأحاديث بنصوصها من تراجم بلوتارك كما نقلت إلى اللغة الإنجليزية، وأنه كان يستطيع ذلك دون أن يحتاج إلى أقلام باكون أو روتلاند أو أكسفورد أو مارلو أو غيرهم من علماء عصره؛ لأنهم أحرى أن يرجعوا إلى المصادر الأولى إذا احتاجوا إلى التأليف.

على أن اتفاق النقاد على تشابه الألفاظ وتناقل العبارات بين كتاب العصر - يقابله اتفاق يكاد أن ينعقد انعقاد الإجماع - على تباعد «الروح» بين كتابة باكون وكتابة شكسبير، وتباعد «الروح» بين شكسبير وسائر معاصريه، وليس هذا الفارق الواضح بالفارق الضعيف الذي يجوز إهماله في هذا المقام، ولكنه على وضوحه فارق عسير الثبوت بالبرهان المتفق عليه، كما يعسر ثبوت الفارق بين ملامح الوجهين مع يقين الناظر بوجود هذا الفارق أمام عينيه، وقصارى هذه الفوارق الجلية الخفية، أن تقوم في الروع وتحول دون الجزم بوحدة التأليف.

وندع هنا أسئلة السائلين عن العلة التي تدعو باكون أو روتلاند أو أكسفورد إلى تأليف كل هذه الروايات من وراء ستار، وعن العلة التي تفسر لنا خفاء الأمر في رواية بعد رواية وفي بيئة المسرح وبيئة العلية وبيئة اللغط الاجتماعي التي تحيط بكل قصر من قصور النبلاء وكل أديب من أعلام الأدباء، وكل ممثل ملحوظ المكانة بين الزملاء والنظارة ورواد الفن من خلف الستار أو أمام الستار، وحسبنا أن نقول إن كل سؤال من هذه الأسئلة يجاب عليه بأقوال متضاربة ليس منها قول واحد يقطع الجدل ويوجب الإقناع، ومن أمثلتها أن صناعة المسرح كانت يومئذ من الصناعات المرذولة في عرف المتطهرين، وأن المؤلفين النبلاء كانوا يتخذون الرواية المسرحية أداة لإبداء الآراء التي يكتمونها في شؤون السياسة، وأن هواية المسرح لزمت بعض النبلاء من أيام تلمذتهم في الجامعات؛ لأنهم درسوا فيها ومثلوا بين جدرانها روايات اليونان والرومان، وعاشوا بعد ذلك ينظمون الشعر، ويعرضون المواقف المسرحية في سهرات القصور، وكل هذه الأجوبة من مطارح الظن تقال ويبقى بعدها متسع للسؤال.

إلا أن المقارنة بين الأساليب قد أسفرت عن نتيجة لا يسكت عنها في صدد الكلام على تحقيق أصالة الشاعر بهذه الوسيلة، وربما اختلف النظر إلى النتيجة التي أسفرت عنها المقارنات الطويلة بين مجموعة شكسبير وغيرها ثم بين الروايات والقصائد التي احتوتها مجموعة شكسبير، ولكن الرأي الغالب عند جلة النقاد أن شكسبير لم يكتب كل ما في المجموعة من نظم ونثر، وأن هناك أقلاما شتى تنم عليها بعض الفصول أحيانا وبعض المناظر أحيانا أخرى.

فإذا صحت هذه الآراء فهي أدعى إلى الاستغراب من خفاء أمر المؤلفين المتسترين، ولا بد من سؤال يضاف إلى تلك الأسئلة وهو: لماذا يحتاج النبيل المتخفي إلى ترقيع كتابته بكلام أديب آخر دون طبقته في الأدب وفي المنزلة الاجتماعية فضلا عن اطلاعه على السر الذي يخفيه؟ ولماذا يستعير من المؤلفات المهجورة إذا كانت شهوة التأليف باعثه الوحيد إلى الكتابة؟

إذا كان شكسبير هو صاحب التأليف وهو المسئول عن إعداد المسرحيات للتمثيل فقد تزول الغرابة بإحالتها إلى ضرورات المسرح أو إلى طبع المجموعة بعد وفاته، ولكنها تلجئنا إلى تفسيرات غير مفهومة إذا كانت المجموعة من عمل نبيل يهوى الكتابة ولا يحترف التمثيل. •••

وصفوة القول في بحث خصائص الكتابة أن المقارنة بين أسلوب شكسبير وأسلوبي باكون ومارلو لم تنته إلى بينة معقولة تزعزع أصالة شكسبير، ولم تجر مقارنة تذكر بين أسلوبه وأسلوبي كروتلاند وأكسفورد؛ لأن المحفوظ من آثارهما لا يكفي لترجيح رأي من الآراء.

ولقد أشرنا من قبل إلى النزعة الاجتماعية أو السياسية التي قيل إنها أوحت بإنكار شكسبير وإسناد أعماله إلى أولئك النبلاء، فلا يفوتنا أن نشير هنا إلى الموافقات الأدبية التي تكمن وراء كل نوع من أنواع القرائن والشبهات يستدلون به على ظنون المتشككين في أصالة شكسبير، فإنها أحق بالملاحظة في دراستنا الأدبية وأوضح منها علاقة بأسبابها، فقد كان الاستدلال برموز الجفر والحروف يشيع في الزمن الذي راجت فيه قصص الشرطة وأسرار المغامرات، وكان الاستدلال بخصائص الأساليب يشيع في إبان الإقبال على تحليل الشخصيات واستخراج طبيعة الكاتب من الكتابة على ديدن القائلين بأن الأسلوب هو الرجل، أو على ديدن الرواد الأوائل من النقاد النفسانيين.

अज्ञात पृष्ठ