الشحاذ
الشحاذ
الشحاذ
الشحاذ
تأليف
نجيب محفوظ
الشحاذ
1
سحائب ناصعة البياض تسبح في محيط أزرق، تظلل خضرة تغطي سطح الأرض في استواء وامتداد، وأبقار ترعى تعكس أعينها طمأنينة راسخة، ولا علامة تدل على وطن من الأوطان، وفي أسفل طفل يمتطي جوادا خشبيا، ويتطلع إلى الأفق عارضا جانب وجهه الأيسر، وفي عينيه شبه بسمة غامضة. لمن اللوحة الكبيرة يا ترى؟ ولم يكن بحجرة الانتظار أحد سواه. وعما قريب يأزف ميعاد الطبيب الذي ارتبط به منذ عشرة أيام. وفوق المنضدة في وسط الحجرة جرائد ومجلات مبعثرة، وتدلت من الحافة صورة المرأة المتهمة بسرقة الأطفال. رجع يتسلى بلوحة المرعى؛ الطفل، والأبقار، والأفق، رغم أنها صورة زينة رخيصة القيمة، ولا وزن إلا لإطارها المذهب المزخرف بتهاويل بارزة. وأحب الطفل اللاعب المستطلع، والأبقار المطمئنة، ولكن ازدادت شكواه من ثقل جفونه، وتكاسل دقات قلبه. وها هو الطفل ينظر إلى الأفق، وها هو الأفق ينطبق على الأرض. دائما ينطبق على الأرض من أي موقف ترصده، فيا له من سجن لا نهائي! وما شأن هذا الجواد الخشبي؟ ولم تمتلئ الأبقار بالطمأنينة؟ ولفت سمعه في الخارج حركة أقدام ثابتة، ثم ظهر التمرجي عند الباب قائلا: تفضل.
ترى، هل يتذكره رغم مرور ربع قرن من الزمان؟ ها هي حجرة استقبال الطبيب الخطير، وها هو يقف وسط حجرته باسما، بقامته المتوسطة النحيلة، والوجه الغامق السمرة، والعينين البراقتين، والشعر القصير المفلفل. لم يكد يتغير عما كان في حوش المدرسة. وما زالت زاوية فمه تنحرف في سخرية مذكرة بمرحه المطبوع الذي كان يضاهي تفوقه الحاسم. - أهلا عمر، تغيرت حقا، ولكن إلى أحسن. - حسبتك لن تذكرني! (وتصافحا بحرارة.) - ولكنك عملاق بكل معنى الكلمة. كنت طويلا جدا، وبالامتلاء صرت عملاقا.
अज्ञात पृष्ठ
وكان يرفع رأسه إليه وهو يحادثه، فابتسم عمر في سرور وردد: حسبتك لن تذكرني! - أنا لا أنسى أحدا، فكيف أنساك أنت؟!
تحية كريمة من طبيب خطير. وكثيرون يسمعون عن الطبيب الناجح، ولكن هل يعرف المحامي الفذ إلا أصحاب القضايا؟
وضحك الطبيب وهو يتفحصه، وقال: لكنك سمنت جدا، كأنك مدير شركة من العهد الخالي، ولا ينقصك إلا السيجار.
ضحكت أسارير الوجه الأسمر المستطيل الممتلئ، وفي شيء من الارتباك ثبت نظارته فوق عينيه، وهو يرفع حاجبيه الكثيفين. - إني سعيد بلقياك يا دكتور. - وأنا كذلك، وإن تكن مناسبة رؤيتي ليست بالسارة عادة.
وتقهقر إلى مكتبه المختفي تحت أطلال من الكتب، والأوراق، والأدوات المكتبية النفيسة، ثم جلس وهو يشير إليه بالجلوس: فلنؤجل حديث الذكريات، حتى نطمئن عليك.
وفتح دفترا، وأمسك بالقلم: الاسم: عمر الحمزاوي، محام، والسن؟
وضحك الطبيب عاليا، وهو يقول مستدركا: لا تخف، الحال من بعضه. - 45 عاما. - على أيام المدرسة كان الشهر يعتبر فارقا في العمر له خطورته، أما الآن؛ فيا قلبي لا تحزن. هل من أمراض خاصة في الأسرة؟ - كلا، إلا إذا اعتبرت الضغط بعد الستين مرضا خاصا.
وشبك الطبيب ذراعيه، وقال بجدية: هات ما عندك.
مسح عمر على شعره الغزير الأسود الذي لا ترى شعيرات سوالفه البيضاء إلا بحد البصر، وقال: لا أعتقد أني مريض بالمعنى المألوف.
فازداد اهتمام الطبيب، وهو ينعم فيه النظر باستمرار: أعني أني لا أشكو عرضا من الأعراض المرضية المألوفة. - نعم. - ولكني أشعر بخمود غريب. - أهذا كل ما هنالك؟ - أظن هذا. - لعله من الإجهاد المستمر. - ربما، ولكني غير مقتنع تماما. - طبعا؛ وإلا ما شرفتني. - الحق أنه نتيجة لذلك الخمود؛ ماتت رغبتي في العمل بحال لا تصدق. - استمر. - ليس تعبا بالمعنى المألوف، يخيل إلي أني ما زلت قادرا على العمل، ولكني لا أرغب فيه، لم تعد لي رغبة فيه على الإطلاق، تركته للمحاسب المساعد في مكتبي، وكل القضايا تؤجل عندي منذ شهر. - ألم تفكر في القيام بإجازة؟
अज्ञात पृष्ठ
فواصل حديثه، وكأنه لم يسمعه: وكثيرا ما أضيق بالدنيا، بالناس، بالأسرة نفسها؛ فاقتنعت بأن الحال أخطر من أن أسكت عنها. - إذن فالمسألة ليست ... - المسألة خطيرة مائة في المائة، لا أريد أن أفكر، أو أن أشعر، أو أن أتحرك. كل شيء يتمزق ويموت، فخطر لي على سبيل الأمل أنني سأجد لذلك سببا عضويا.
قال الطبيب باسما: ما أجمل أن تحل مشاكلنا الخطيرة بحبة بعد الأكل، أو ملعقة قبل النوم!
مضى به إلى حجرة الكشف، وأخذت عينة من البول، ثم خلع عمر ملابسه، ورقد على السرير الطبي. وتتابعت الأوامر؛ فأبرز لسانه، وفتح بشد الجفنين عينيه، ونقرت الأصابع الرشيقة على مواضع في الصدر والظهر، وضغطت بشدة على أماكن في البطن، واستعملت السماعة ومقياس الضغط. وتنفس بعمق، وسعل، وهتف: «آه!» من الحلق مرة، ومن الأعماق مرة أخرى. وجعل يختلس النظرات إلى وجهه، ولكنه لم يقرأ شيئا. وفرغ الرجل من كشفه فسبقه إلى مكتبه، وما لبث أن لحق به. واطلع الطبيب على نتيجة التحليل، ثم فرك يديه، وابتسم ابتسامة عريضة، وقال: عزيزي المحامي الكبير، لا شيء ألبتة.
تحرك جناحا أنفه الطويل الحاد، وازداد وجهه توردا: ألبتة؟ - ألبتة!
ولكنه سرعان ما قال بحذر: أخشى أن يكون الأمر أخطر مما تتصور!
فقال الدكتور ضاحكا: ليست قضية أهولها لمضاعفة الأجر.
فضحك عمر، وهو يرمقه بأمل. فأكد الآخر قائلا: حسن، إذن فاعلم أنه لا شيء.
فتساءل عمر في قلق: هل يقضى علي بأن أسجن في عيادات الطب النفسي؟ - لا نفسي، ولا دياولو. - حقا؟ - أجل، إنه مرض برجوازي إن جاز لي أن أستعير اصطلاحا حديثا مما يستعمل في جرائدنا، ليس بك من مرض.
ثم بتمهل: ولكني أرى في الأعماق مقدمات لأكثر من مرض، والحق أنك جئت في الوقت المناسب، متى ألح عليك الخمود؟ - منذ شهرين، وربما أكثر قليلا، ولكن الشهر الأخير كان محزنا حقا. - دعني أصف لك حياتك كما أستنبطها من الكشف، أنت رجل ناجح ثري، نسيت المشي أو كدت، تأكل فاخر الطعام، وتشرب الخمور الجيدة، وترهق نفسك بالعمل لحد الإرهاق، ودماغك دائما مشغول بقضايا الناس وأملاكك، وأخذ القلق يساورك على مستقبل عملك، ومصير أموالك.
ضحك عمر بفتور، وقال: صورة صادقة في جملتها، ولكني لم أعد أهتم بشيء. - حسن، لا شيء بك، ولكن العدو رابض على الحدود. - كإسرائيل؟ - وعند الإهمال سيدهمنا الخطر الحقيقي. - دخلنا في الجد! - اعتدل في الطعام ... قلل من الشراب ... التزم برياضة منتظمة كالمشي ... فلن تلقى ما تخشاه.
अज्ञात पृष्ठ
وانتظر وهو يفكر، ولكن الدكتور لم يحرك ساكنا، فسأله: ألن تكتب لي دواء؟ - كلا، لست قرويا لأقنعك بأهميتي بدواء لا يضر ولا يفيد، الدواء الحقيقي بيدك أنت وحدك. - وهل أعود كما كنت؟ - وأحسن، أنا رغم إرهاقي بالعمل ما بين الكلية، والمستشفى، والعيادة، أمشي كل يوم نصف ساعة على الأقل، وأتبع نظاما مناسبا في الغذاء. - لم أشعر يوما أني تقدمت في السن. - الكبر مرض، ولن تشعر به ما دمت تدفعه بحسن السلوك، هنالك شبان فوق الستين، المهم أن نفهم حياتنا. - أن نفهم حياتنا؟! - أنا لا أتفلسف طبعا. - ولكنك تداويني بنوع من الفلسفة، ألم يخطر لك يوما أن تتساءل عن معنى حياتك؟
فضحك الدكتور عاليا، ثم قال: لا وقت عندي لذلك، وما دمت أؤدي خدمة كل ساعة لإنسان هو في حاجة ماسة إليها، فما يكون معنى السؤال؟
ثم بجدية ودود: قم في إجازة. - إجازتي متقطعة عادة، كأنها ويك إند يستمر طيلة شهور الصيف. - لا، خذ إجازة طويلة بالمعنى، ومارس نظام معيشتك الجديدة، وسوف تبدأ بعد ذلك متجددا. - هذا ممكن. - توكل على الله، ليس بك إلا نذير من الطبيعة، فاستمع إليه، وعليك أن تنقص وزنك عشرين كيلو، ولكن على مهل، ودون عنف.
ضرب على ركبتيه، وانحنى انحناءة خفيفة تؤذن بالتأهب للقيام، ولكن الدكتور بادره: مهلا، أنت آخر زوار اليوم؛ فلنجلس قليلا معا.
اعتدل في جلسته باسما: دكتور حامد صبري، إني أعرف ما تريد، تريد طي ربع قرن من الزمان، وأن تضحك من أعماق قلبك مرة أخرى. - ما أجمل أيام زمان! - الحقيقة، يا دكتور، ما أجمل كل زمان باستثناء «الآن»! - صدقت، التذكر شيء، والمعاناة شيء آخر. - ثم يتبدد كل شيء بلا معنى. - لكننا نحب الحياة. هذا هو المعنى. - شد ما كرهتها في الأيام الأخيرة. - وها أنت تبحث عن الحب المفقود! خبرني، أما زلت تذكر أيام السياسة، والإضراب، والمدينة الفاضلة؟ - طبعا، وقد ولت جميعا، ولم يبق إلا سوء السمعة. - ومع ذلك؛ فقد تحقق حلم كبير، أعني الدولة الاشتراكية. - نعم.
الدكتور وهو يبتسم: وكنت تظهر لنا بأكثر من وجه، الاشتراكي المتطرف، المحامي الكبير. ولكن وجها منك رسخ في ذاكرتك أقوى من أي سواه، هو عمر الشاعر.
ابتسم ابتسامة عصبية ليداري امتعاضا مباغتا، وتمتم: يا لسوء الحظ! - هجرت الشعر؟ - طبعا. - ولكنك طبعت ديوانا فيما أذكر.
فخفض عينيه؛ حتى لا يقرأ فيهما توتره وضيقه، وقال: عبث طفولة لا أكثر ولا أقل. - بعض زملائي من الأطباء الشعراء يضحون بالطب في سبيل الشعر.
ذكرى غبراء كالطقس المنحوس، فمتى يسكت عنها؟
وواصل الدكتور: وأذكر من أقراننا القدامى مصطفى المنياوي، ماذا كنا نطلق عليه؟ - الأصلع الصغير! ما زلنا أصدقاء لا نكاد نفترق، وهو اليوم صحفي نابه، ومؤلف إذاعي تلفزيوني. - زوجتي مغرمة به جدا، وقد كان متحمسا مثلك، ولكن رأس الحماس كان عثمان خليل بلا جدال.
अज्ञात पृष्ठ
تجهم وجه عمر. لطمته الذكرى بقبضة من حديد، ثم غمغم: إنه في السجن. - نعم، عمر طويل في السجن، أظنه كان زميلك في كلية الحقوق؟ - تخرجنا في عام واحد، أنا ومصطفى وعثمان. الحق أني لا أحب الماضي.
فقال بنبرة ختامية: فلتحب المستقبل.
ثم وهو ينظر في ساعته: من الآن فصاعدا أنت أنت الطبيب.
في حجرة الانتظار رفع عينيه مرة أخيرة إلى الصورة. لم يزل الطفل ممتطيا جواده الخشبي متطلعا إلى الأفق. وهذه البسمة الغامضة في عينيه أهي للأفق؟ وما زال الأفق منطبقا على الأرض، فماذا يرى الشعاع الذي يجري ملايين السنين الضوئية؟ وثمة أسئلة بلا جواب، فأين طبيبها؟
وفي الخارج أمام العمارة بميدان سليمان باشا، ركب الكاديلاك السوداء، فتحركت به كباخرة عروس النيل.
2
الوجوه تتطلع إليك مستفسرة، حتى قبل أن ترد تحيتك. حنان رقيق مخلص، ولكن ما أفظع الضجر! الحموضة التي تفسد العواطف الباقية. ولاحت من ورائهم الشرفة الكبيرة المطلة على النيل من الدور الرابع. وتبدى عنق زوجك من طاقة فستانها الأبيض غليظا متين الأساس، واكتظت وجنتاها بالدهن، وقفت كتمثال ضخم مليء بالثقة والمبادئ، وضاقت عيناها الخضراوان تحت ضغط اللحم المطوق لهما. أما ابتسامتها؛ فما زالت تحتفظ ببراءة رائقة، ومحبة صافية. - قلبي يحدثني بأن كل شيء طيب.
إلى جانبها وقف مصطفى المنياوي في بدلته الشركسكين، رافعا نحوك وجهه البيضاوي الشاحب، وعينيه الذابلتين، وصلعته التاريخية، وقد بدا ضئيلا في نحافته إلى جانب الزوجة المحكمة البناء. - حدثنا عن زميل المدرسة، ماذا قال؟ وهل عرفك؟
واعتمدت بثينة بكوعها على كتف تمثال برنزي لامرأة باسطة الذراعين في هيئة مرحبة، وتطلعت إلى أبيها في تشوف بعينيها الخضراوين، وهي تكرر صورة أمها عندما كانت في الرابعة عشرة، بقامتها الرشيقة، ولكن يبدو أنها لن تتعملق مع الأيام، ولن تسمح للدهن بأن يغطي على صفائها. تساءلت بنظرة كما تتفاهم معك كثيرا دون كلام، أما جميلة - أختها الصغيرة - فعكفت على دبتها بين مقعدين كبيرين، ولم تهتم بالقادم.
وجلسوا جميعا، ثم قال بهدوء: لا شيء.
अज्ञात पृष्ठ
هتفت زينب بنبرة جامدة: الحمد لله، طالما قلت إنك بحاجة إلى الراحة.
فأحنقه انتصارها بلا سبب، وخاطب مصطفى، مشيرا إلى زوجته، قائلا: هي المسئولة أولا وأخيرا.
ولما فرغ من تلخيص رأي الدكتور، عاد يؤكد رأيه: هي، هي المسئولة.
فقال مصطفى بحبور: يا له من علاج هو باللعب أشبه!
ثم مستدركا في أسف: لكن الطعام والشراب! ... اللعنة على الزمن.
لم تلعن وأنت لم تصب بسوء؟ ماذا يفعل المقبل على رحلة غامضة؟ الحائر بين الحب والضجر، الذي لم يحدث نفسه بعد بطريقة شافية! وقال لمصطفى: الدكتور حامد سأل عن الأصلع الصغير.
ثم بعد أن سكتت عاصفة الضحك: وهنيئا لك إعجاب زوجته!
ابتسم مصطفى في سرور صبياني لمعت به أسنانه الناصعة البياض: أصبحت بفضل الإذاعة والتلفزيون كالوباء، ولا بد أن أصيب ضعيفي المناعة.
وذكر الآخر في السجن، حتى حساسية الضمير يدركها الضجر، يوم احترقت بلهيب الخطر. لكنه لم يعترف، رغم الأهوال لم يعترف، وذاب في الظلمات كأن لم يكن، وأنت تمرض في الترف. وتنهض الزوجة رمزا للمطبخ والبنك. فسل نفسك: ألا يضجر النيل تحتنا؟ - بابا، هل نستعد للسفر؟ - سنمرح كثيرا، وسوف أعلم أختك السباحة كما علمتك فيما مضى. - حتى البراميل!
ها هي أمك تحاكي البرميل، والأفق يحاكي السجن، والحرية استكنت وراء الأفق ، ولم يبق من أمل إلا الضمير المعذب. وقال مصطفى: زوجي تفضل رأس البر للأسف، ومثلي لن يظفر بإجازة شهر كامل إلا إذا أصيب بسرطان ممتاز.
अज्ञात पृष्ठ
وتساءلت جميلة رافعة رأسها عن الدبة: متى نسافر يا بابا؟
ولاح له مصطفى كنصب تذكاري للحب والزواج. كان المشير، والمعين، والشاهد، وكل يوم يؤكد صداقته له وللأسرة. ولم يدر شيئا بعد عن المياه التي تجرف قاع النهر. - وذكرني الدكتور بأيام الشعر.
فضحك مصطفى قائلا: الظاهر أنه لم يسمع عن روائعي الدرامية الحالية؟ - وددت لو أحكي له قصتك مع الفن. - ترى، هل يؤمن النطاسي الكبير بالفن؟ - زوجته مغرمة بك، ألا تقنع بذلك؟ - إذن فهي مغرمة باللب والفشار.
وكانت زينب تراقب السفرجي من خلال الديكور المقوس، وما لبثت أن قالت: هلموا إلى العشاء.
وأعلن عمر أنه سيكتفي بشريحة من صدر الدجاج، وفاكهة، وكأس واحدة من الويسكي. فتساءل مصطفى: والبطارخ على سبيل المثال، هل ألتهمها وحدي؟
وراح مصطفى يتحدث عن إفطار مستر تشرشل الذي نوهت به إحدى الصحف في أثناء زيارته لقبرص. وقد تردد قليلا عند بدء الطعام، ثم ما لبث أن أكل وشرب بلا حساب. ولم تستطع زينب كذلك أن تقاوم الإغراء، وشربت زجاجة من البيرة، وواظبت بثينة على اعتدالها التي تعتده أمها نوعا من الاعوجاج. وقال مصطفى: الطعام أجدر من الجنس بتفسير السلوك البشري.
فنسي عمر نفسه، وقال بمرح لأول مرة: يخيل إلي أنك مصاب بعقدة الدجاج.
وعقب العشاء لم يجتمع شملهم أكثر من نصف ساعة، نامت بعدها جميلة، ومضت الأم وبثينة إلى زيارة في نفس العمارة، فخلا عمر إلى مصطفى في الشرفة الكبيرة، حيث استقرت بينهما زجاجة ويسكي، ووعاء ثلج فوق منضدة زجاجية السطح. ولم تند عن الأشجار حركة واحدة، وانتشرت حول المصابيح غلالة ترابية. وبدا النيل من ثغرات أعالي الشجر ساكنا، هامدا، شاحبا، معدوم المرح والمعنى، وشرب مصطفى وحده، وتمتم باستياء: يد واحدة لا تصفق.
فأشعل عمر سيجارة وهو يقول: ما أفظع الجو! لم أعد أحب شيئا حبا خالصا.
فقال مصطفى ضاحكا: أذكر أنك كرهتني يوما ما.
अज्ञात पृष्ठ
فقال دون توقف عند قوله: أخشى أن يتكرر موقفي تجاه العمل إلى ما لا نهاية. - عليك بالرجيم والرياضة. ولن يهون عليك أن تخون بثينة، وتقع في اليأس. - سوف أشرب كأسا أخرى. - لا بأس، ولكن كن أكثر حزما في الإسكندرية. - تقول إنني كرهتك يوما ما، أنت كاذب كأكثر أهل صناعتك. - كنت تضيق بي على عهد إيماني الشديد بالفن. - كنت وقتذاك أعاني نزعه من نفسي. - أجل، كنت تقاتل حبه الكامن فيك، وتهجره بقسوة، وكنت أنا في ذلك الوقت وجها من وجوهه جديرا بإثارة الشجون. - ولكني لم أكرهك، وجدتك فقط ضميرا معذبا. - وقد احترمت أزمتك بعقل متسامح، وصممت على الاحتفاظ بك وبالفن معا.
ثم وهو يضحك: ولعلي أرحتك كثيرا عندما قررت نبذ الفن بقوة مذهلة، وها أنا أبيع اللب والفشار عن طريق الصحف، والإذاعة، والتلفزيون، على حين تنهض أنت قمة من قمم المحاماة في ميدان الأزهار.
ذكريات معادة، كالقيظ والغبار، دورات محكمة الإغلاق. والطفل الباسم يتوهم أنه يمتطي جوادا حقيقيا. - ضجر، يضجر، اضجر، فهو ضجر، وهي ضجرة، والجمع ضجرون، وضجرات. - الرجيم والرياضة! - يا لك من مضحك! - هي رسالتي في الحياة، التسلية، والجمع تسليات. قديما كان للفن معنى حتى أزعجه العلم من الطريق؛ فأفقده كل معنى. - أما أنا فقد نبذته دون تأثر بالعلم. - إذن لماذا نبذته؟
ماكر كالقيظ، وهذا الليل لا شخصية له، وضجيج الطريق ولا طرب. الماكر يسأل وهو يعلم. - دعني أسألك أنت عن السبب؟ - قلت وقتذاك إنك تريد أن تعيش، وأن تنجح. - إذن لماذا طرحت السؤال؟
ها هي نظرة اعتراف تقلق في عينيه الذابلتين من رمد قديم. - أنت نفسك لم تنبذه بسبب العلم وحده! - زدني علما. - عجزت عن أن تحتفظ له بمكانة محترمة على مستوى العلم.
فضحك مصطفى بصفاء مغسول بالويسكي، وقال: لا تخلو حركة هروبية من فشل، ولكن صدقني أن العلم لم يبق شيئا للفن، ستجد في العلم لذة الشعر، ونشوة الدين، وطموح الفلسفة. صدقني أنه لم يبق للفن إلا التسلية، وسينتهي يوما بأن يصير حلية نسائية مما يستعمل في شهر العسل. - ما أجمل أن أسمع ذلك، انتقاما من الفن لا حبا في العلم. - اقرأ أي كتاب في الفلك، أو في الطبيعة، أو في أي علم من العلوم، وتذكر ما تشاء من المسرحيات، أو دواوين الشعر، ثم اختبر بدقة إحساس الخجل الذي سيجتاحك. - ما أشبه هذا الشعور بما ينتابني عندما أفكر في القضايا والقانون. - هذا الشعور المخجل لا يعانيه إلا الفنان المنبوذ من الزمن.
فتثاءب عمر، ثم قال: اللعنة، إني أشم في الجو شيئا خطيرا، ويرعبني إحساس حركي داخلي بأن بناء قائما سيتهدم.
ملأ مصطفى كأسا جديدة، وقال: لن نترك بناء كي يتهدم.
فمال نحوه مقطبا، وسأله: ماذا تظن بي؟ - الإجهاد، والتكرار، والزمن. - وهل في الرجيم والرياضة الكفاية؟ - كل الكفاية، اعتقد ذلك من كل قلبك.
3
अज्ञात पृष्ठ
من الآن فصاعدا أنت الطبيب؛ فأنت حر، والفعل الصادر عن الحرية نوع من الخلق. حتى ولو يكن مقاومة مستمرة لشهوات البطن. ولنقل: إن الإنسان لم يخلق ليكتظ بالأطعمة، وبتحرر المعدة تتحرر الروح كذلك وتحلق. لذلك ترق السحب، وترنم عواصف أغسطس الصاخبة. ولكن ما أشد الزحام، والرطوبة، ورائحة العرق! وأجهدك المشي، وناءت به قدماك، كأنما تتعلمه لأول مرة. والأعين ترمق العملاق وهو يوسع الخطى حتى ينال منه التعب؛ فيجلس على أول أريكة تصادفه على طريق الكورنيش. وعيناك ترمقان الناس بعد عمى ربع قرن. هكذا شهد الشاطئ مولد آدم وحواء، ولكن لا يدري أحد من سيخرج من الجنة. وقديما قطع الشاب الطويل النحيل ابن الموظف الصغير القاهرة طولا وعرضا على قدميه دون تذمر. وسلسلة طويلة من آبائه وأجداده تهرأت أقدامهم من معاندة الأرض، ثم تساقطوا من الإعياء، وقريبا سيخرج الماضي من السجن؛ فيتضاعف عذاب الوجود. - عثمان، لماذا تنظر إلي هكذا؟ - ألا تريد أن تلعب الكرة؟ - أنا لا أحب الرياضة. - لا شيء غير الشعر؟!
وأين المهرب من نظرتك الثاقبة؟ وما الجدوى من مجادلتك؟ وأنت تعلم أن الشعر هو حياتي، وأن تزاوج شطرين ينجب نغمة ترقص لها أجنحة السماوات. - أليس كذلك يا مصطفى؟
وهتف المراهق الأصلع: هذا الوجود من حولنا ليس إلا تكوينا فنيا.
ويوما هتف عثمان في حال من التجلي: عثرت على الحل السحري لجميع المشاكل.
واندفعنا برعشة حماسية إلى أعماق المدينة الفاضلة، واختلت أوزان الشعر بتفجيرات مزلزلة. واتفقنا على ألا قيمة ألبتة لأرواحنا، واقترحنا جاذبية جديدة غير جاذبية نيوتن، يدور حولها الأحياء والأموات في توازن خيالي لا أن يتطاير البعض، ويتهاوى الآخرون. وعندما اعترضتنا دورة فلكية معاكسة انتقلنا من خلال الحزن والفشل إلى المقاعد الوثيرة، وارتقى العملاق بسرعة فائقة من الفورد إلى الباكار حتى استقر أخيرا في الكاديلاك، ثم أوشك أن يغرق في مستنقع من المواد الدهنية.
وها هي الشماسي تترامى ملتصقة الشراريب، فتكون قبة هائلة دانية مختلطة الألوان، تستلقي تحتها الأبدان شبه العارية. وتنتشر في الجو رائحة آدمية عميقة الأثر في الحواس مذابة في رائحة البحر المتحدية تحت شمس تخلت عن بطشها. ووقفت بثينة بقدها الممشوق، مبللة الجسد، محمرة الذراعين والساقين، مدسوسة الشعر في غطاء أزرق من النايلون، مفترة الثغر لفرحة الشاطئ. وأنت شبه عار، مغطى الصدر بدغل من الشعر الكثيف الأسود، وقد استكنت بين ساقيك جميلة وهي تبني هرما من الرمال. واضطجعت زينب على مقعد جلدي طويل، وراحت تطرز أفواف وردة على رقعة كانفاه، متباهية بتضخم صحي، فلم تعدم نظرات مراهقة بلهاء تحوم حول صدرها الناهض.
عزيزي مصطفى، قرأت تعليقاتك الفنية الأسبوعية. بديعة، ولاذعة، وموحية. تقول إنك بائع لب وفشار؟ مهلا، لكنك من أصل كريم، وصاحب قلم تمرس طويلا بالنقد الجدي والمسرحي، فحتى تسلياتك لها نكهة خاصة. أشكرك على سؤالك عنا، ولكن خطابك جاء موجزا لدرجة مزعجة، ولعلك اعتبرته تكملة شكلية لمقالاتك، ولكني في مسيس الحاجة إلى ثرثرة لا نهائية. زينب عال، وهي تقرئك السلام، وتذكرك بالدواء الذي رجتك أن تحصل عليه من الخارج بواسطة أي من زملائك الرحل. متاعب مصرانها هينة في رأيي، ولكنها مغرمة بالدواء كما تعلم. بثينة سعيدة، وكم أود أن أتسلل إلى عقلها، ولكن أسعدنا بغير جدال هي جميلة التي لا تفهم شيئا بعد. ولو أنك رأيتني لدهشت للتقدم الذي أحرزته؛ فقد نقصت ثمانية كيلو، ومشيت آلاف الكيلومترات، وضحيت بأطنان من اللحوم، والبطارخ، والزبد، والبيض. وعرفت الاشتياق إلى الطعام بعد شبع طويل لدرجة الموت. ولأنك بعيد؛ فإنني لا أجد من أحادثه كما أحب، ولذلك كثيرا ما أحدث نفسي. كلام زينب أعقل مما يجب. لماذا يثيرني الكلام العاقل في هذه الأيام؟ الشخص الوحيد الذي أعجبني حديثه رجل مجنون، يرفع يده بالتحية على طريقة الزعماء طوال الطريق، ويلقي خطبا عجيبة. وقد التقيت به فيما وراء شاطئ جليم بكيلو على الأقل، فبادرني: ألم أقل لك؟
فأجبته باهتمام: فعلا. - ولكن ما الفائدة؟ ... ستمتلئ المدينة غدا بسمك موسى، ولن تجد موضعا لقدم. - على البلدية أن ...
لكنه قاطعني بحدة: لن تفعل البلدية شيئا، سوف ترحب به تشجيعا للسياحة، وسوف يتكاثر بصورة مذهلة حتى يضطر السكان الأصليون للهجرة؛ فيمتلئ الطريق الزراعي بطوابير المهاجرين. ورغم ذلك كله سيواصل ثمن السمك صعوده.
وتمنيت أن أتسلل إلى رأسه أيضا. لغته لا تقل غرابة عن لغة العلماء الأفذاذ أصحاب المعادلات، وما أضيعنا نحن العقلاء بين الاثنين! نحن الذين نعيش في السماجة المجسمة، لا نعرف لذة الجنون، ولا أعاجيب المعادلات. رغم ذلك فأنا رب أسرة سعيدة. تعال وشاهدني وأنا أناجي بثينة على حين تهاجمنا جميلة بالرمال. وبيتنا في جليم مريح جدا، وحنيني إلى الويسكي يشتد بصورة ملحوظة. وأمس ونحن في الكابينة مساء ترامى إلينا صوت جارنا، وهو يتحدث قائلا: العمارات ستؤمم.
अज्ञात पृष्ठ
اصفر وجه زينب، وحدجتني بنظرة استغاثة، فقلت لها: لدينا من المال الشيء الكثير.
فتساءلت: وهل تنجو الأموال؟ - لقد تحصنا ضد القدر بتأمينات شتى.
فراحت تتساءل في قلق: ومن أدرانا أ...
فقاطعتها: بالله خبريني، كيف سمنت إذن لهذا الحد؟
فهتفت بي: كنت في شبابك مثلهم لا تتكلم إلا عن الاشتراكية، وهي ما زالت في دمك.
ثم كررت علي أن أذكرك بالدواء. مصطفى، أنا لا يهمني شيء، لا يهمني شيء صدقني. لا أدري ماذا حصل لي، لن يهمني شيء، المهم عندي أن نلتقي لنستأنف هذرنا، ومناقشاتنا الجميلة التي لا معنى لها. وقد رمت لي الصدفة بحديث غرامي في الظلام دون أن يفطن لوجودي أصحاب الشأن، قال الرجل: عزيزتي نحن منحدرون إلى خطر مؤكد.
فقالت المرأة: هذا يعني أنك لا تحبني. - لكنك تعلمين تماما أنني أحبك. - إذا تكلمت بعقل؛ فهذا يعني أنك لم تعد تحبني. - ألا ترين أنني مسئول، وأنني جاوزت الشباب؟ - قل إنك لم تعد تحبني. - سوف نهلك معا، ونخرب بيتنا. - ألا تكف عن المواعظ؟ - لك زوجك وبناتك، ولي زوجتي وأبنائي. - ألم أقل إنك لم تعد تحبني؟! - ولكنني أحبك. - إذن، فلا تذكرني بغير الحب.
وابتعدت وأنا أتخيل الدراما الممتعة الفاضحة، وأضحك لجرأة المرأة وتهافت الرجل. ولكنهما ذكراني بصديق قديم اسمه الحب. يا إلهي ما أطول العمر الذي مضى دون حب! وماذا بقي لنا منه عدا ذكريات محنطة؟ كم أتمنى أن أتسلل إلى قلب عاشق! وأنا كما تعلم لم أحب في حياتي سوى زينب، ولكن كان ذلك منذ عشرين عاما. وما أذكره من ذلك التاريخ حركات ومواقف، لا مشاعر وانفعالات. وأذكر أنني قلت لك يوما: عيناها تصعقانني. وأذكر أنك لم تتخل عني أبدا، وأن حالتي كانت جنونية، ولكن ذكرى الجنون غير الجنون نفسه. كنت محموم الفكر، بركاني القلب، ساهر الليل. ورفعني العذاب إلى الشعر، وسحت من عيني دموع، وتوثقت أسبابي بالسماء. ولكن كل أولئك ذكريات محنطة، وها أنا اليوم أكافح للتملص من المواد الدهنية، ولا أرى في زينب العزيزة إلا تمثالا لوحدة الأسرة، والبناء، والعمل. وثق من أنه لا يهمني شيء؛ فليأخذوا العمارات الثلاث، والأموال السائلة. ولن أزعم أنني أستهين بذلك بتأثير من المبادئ التي أوشكت يوما أن تقذف بنا جميعا إلى السجن مع عثمان، فأيام الجهاد نفسها لم تعد إلا ذكريات محنطة، ولكنني لا أدري ماذا حل بي؟ أو ماذا غيرني؟ فأبشر يا عزيزي بأنني أتقدم نحو شفاء جسماني واضح، ولكني أقترب في الوقت نفسه من جنون طريف، والعقبى لك. - لا تنس أن تكتب له عن الدواء. - فعلت يا عزيزتي.
ما ألطفك يا بثينة! براعم صدرك تشهد للدنيا بحسن الذوق. ولعلي من جيل محافظ نوعا، فماذا أعدت أمك؟ من المحزن أنك لم تعرفي من الدنيا شيئا، وأنني صنتك كالكنار؛ فلم تتجاوزي سيارة المدرسة. وهذه النظرة الحالمة ماذا وراءها؟ ألم تضني علي بحلم رغم الصراحة التي تبارك أحاديثنا؟! وكيف تؤثر فيك رائحة الأبدان العارية والغزل المتطاير بين الأمواج؟ يا إلهي، ادفع المجتمع إلى مجاراة أفكارها وفعالها حتى لا تتعرض لسوء. وقال لها، وهي تمد ساقيها العاريتين تحت مقعده المغروس في الرمل: لم نهنأ ببعضنا هكذا من قبل. - الحق عليك. - لم أبق في المكتب طيلة العمر إلا من أجلكم.
فانطرحت على كوعيها معرضة بطنها وصدرها للشمس المتألقة في سماء صافية، على حين تهادت فوق منحنى الخليج سحابة بيضاء وحيدة. وقالت الأم، دون أن ترفع رأسها عن الكانفاه: قولي له إن صحته اليوم أهم من أي شيء. - حتى من تأميم العمارات؟
अज्ञात पृष्ठ
فأجابت متحدية مقطبة: حتى من تأميم العمارات.
فقال بنبرة تقريرية مستسلمة: ما أجمل أن نتكيف مع مجتمعنا!
ولم تنبس بكلمة. ومرت أمام المجلس حسناء معجبة بنفسها؛ فخطف منها نظرة أشاعت في حواسه بهجة ياسمينية. - عندما أعود إلى حالتي الطبيعية، سأحاول أن أفهم الحياة فهما جديدا يقرنها بالسعادة الحقيقية. - لنسأل الله أن يحفظنا من كل سوء. - الله يحب أن نسأله الخير للناس جميعا.
واسترق إليها نظرة ماكرة، ثم قال ضاحكا: ولكن كيف يستجيب الله للدعاء في هذه الحال؟
وأدركت ما يعنيه، ولكنها لم تعلق بكلمة واحدة، وتناسى الموضوع كله، واستسلم لأفكاره. خف الوزن، ودب النشاط، ولكن ما أفظع القلق! الذباب، والعمل، والزوجة. ويوما ستجد بثينة ما يشغلها عنك، ومثلها جميلة التي تشيد الأهرام من الرمال. خبرني بالله، ماذا تريد؟ ولماذا يخيم الصمت رغم الضجيج؟ ولم يتنبأ شيء في صدرك بمخاوف هوائية؟ وفي كل لحظة تشعر بأن صلة تتمزق محدثة صوتا مزعجا، وأن قائما يتزعزع، وأن أسنانك توشك أن تتساقط. وسوف تفقد الوزن في النهاية، وتسبح في الفضاء. اشدد قبضتك على الأشياء، وانظر إليها طويلا؛ فعما قليل ستختفي ألوانها، ولن يكترث لك أحد. وها هي الأمواج تطيح بأهرام جميلة المشيدة من الرمال، والهواء يطير الصحف التي لا حقيقة ثابتة فيها إلا صفحة الوفيات. ويقول لك الرجل: «هذه هي قضيتي أعهد بها إلى سيد المحامين.» يا للسخرية! ... لم يبق لنا، يا حضرات المستشارين، إلا أن نعمل معا في السيرك القومي. - لماذا تسرح يا عزيزي؟ - لا شيء. - هل أنت بخير تماما؟ - أظن ذلك. - ولكن خبرتي الطويلة بك تقول إنك في حاجة إلى عناية. - يجب أن نحترم الخبرة. - هل أحدثك عن رأي الطباخة؟ - وهل للطباخة رأي؟ - قالت إن الرجال السعداء الناجحين عرضة للعين. - وهل تصدقين ذلك؟ - كلا طبعا، ولكن الحيرة تحملنا أحيانا على تجربة أي شيء. - إذن، فما عليك إلا تتفقي مع شيخة زار! - ألا ترى أن السخرية لم تكن من شيمتك؟
فقال باسما: قليل من السخرية يفيد ولا يضر. - لن أثقل عليك يا عزيزي.
وهم عائدون تأخرت به قليلا عن البنتين، وقالت: إليك خبرا سارا.
تطلع إليها في يأس خفي: اكتشفت في بثينة شيئا لم يكن في الحسبان! - غير ما اكتشفت في العام الماضي؟ - بلى، إنها يا عمر شاعرة!
رفع حاجبيه الكثيفين في دهش: نعم ... لاحظت انهماكها في الكتابة، وأنها تمزق ما تكتب، ثم تعيد كتابته، وأخيرا اعترفت لي بأنها تكتب شعرا، فضحكت وقلت لها: ...
وترددت، فسألها: ماذا قلت لها؟ - قلت لها إنك بدأت كذلك شاعرا.
अज्ञात पृष्ठ
فتساءل مقطبا: ألم تخبريها كيف انتهيت؟ - لكن أن تكون بنت في سنها شاعرة شيء جميل. - فعلا. - يجب أن تقرأ شعرها، وأن تزودها بنصائحك. - لو لنصائحي قيمة؛ لأجدت معي! - ولكنك سعيد بالخبر؟ - جدا.
4
ولكن الاضطراب غطى على السعادة المؤقتة. وهذا إحساس عاصف كأنه نوع من الذعر. وثمة جيشان يرعى الصدر لم يقربه منذ عشرين عاما. وناداها إلى الشرفة المطلة على البحر، فجاءت في بلوزة مزركشة، وبنطلون بني يضيق تدريجيا حتى يلتصق بالساقين فوق الرسغين. أجلسها قبالته وهو يقول: رأيت أن أدعوك لتشهدي معي الغروب.
همت بالاعتذار فيما بدا له، وكان يعلم أن ذاك وقت خروجها مع أمها وأختها لنزهة الأصيل على الكورنيش، ولكنه قال: ستلحقين بهما سريعا، ألا يحب الشعراء الغروب؟
ولاحظ تورد وجنتيها بشغف، وهو يبتسم: لكن ... لكني لست بشاعرة. - ولكنك تكتبين شعرا! - ومن أدراني أنه شعر؟ - سوف أحكم بعد الاطلاع. - كلا.
نطقت بها في إشفاق وحياء، فقال: لا سر بيننا، وأنا فخور بك. - ما هو إلا كلام ركيك. - سأحب شعرك حتى ركيكه.
أسبلت جفنيها في استسلام حتى تلاقت رموشها الطويلة المقوسة إلى أعلى، وإذا به يسألها في اهتمام من الأعماق: خبريني يا بثينة، كيف اتجهت نحو الشعر؟ - لا أدري. - أنت متفوقة في العلوم، ولكن كيف اتجهت نحو الشعر؟
وهي تتذكر مقطبة: المختارات المدرسية ... أحببتها جدا يا بابا. - ولكن ما أكثر من يحبونها! - كانت تسحرني بدرجة أقوى فيما أعتقد. - ألم تقرئي غير ذلك من الشعر؟ - بلى، قرأته في دواوين. - دواوين؟!
فضحكت قائلة: استعرتها من مكتبتك. - حقا؟! - وعرفت أنك شاعر أيضا.
وخزه ألم، فدفعه بتظاهر بالمزيد من المرح، وقال: لا ... لا ... لست شاعرا ... كانت لعبة من لعب الطفولة. - مؤكد أنك كنت شاعرا. على أي حال وجدتني مدفوعة إلى الشعر دفعا.
अज्ञात पृष्ठ
أنت تتحدث عن المسرح ولكني شاعر، وأنا ملقى في دوامة لا نجاة منها إلا بالشعر، فهو غاية وجودي، وإلا بالله خبرني ماذا نصنع بالحب الذي يكتنفنا كالهواء، والأسرار التي تلفحنا كالنار، والكون الذي يرهقنا بلا رحمة؟ فلا تكن مكابرا يا صديقي. - زيديني شرحا.
قالت، وهي تسترد شجاعتها المألوفة: كأنني أبحث عن أنغام في الهواء! - قول جميل يا بثينة، وهو كذلك ما دام لا يفسد علينا الحياة. - ماذا تقصد يا بابا؟ - أعني دراستك، ومستقبلك، ولكن آن لي أن أطلع على شعرك.
أتته بكراسة مغلفة بورق مفضض. وباحترام، وحب، وإشفاق، ولهفة راح يقرأ. وتخلل قراءته عام 1935 مداعبا ومعترضا. عهد الحرمان، والأمل، والأسرار، والاضطراب المطوق للعباد، وأحلام المدينة الفاضلة. ثم صوت عثمان، وهو يرتعش هاتفا: عثرت على الحل السحري لجميع المشاكل.
ولكن البنت عاشقة، وربي إنها لعاشقة، البرعمة التي لم تتفتح بعد. من هو ذو الجمال، الذي السحاب أنفاسه، والشمس مرآته، الذي تتمايل الأغصان شوقا إليه ؟ لماذا نضطرب إذا كرر الأبناء سيرتنا؟ وما رأي أبي إذا سمعني أحدث حفيدته في الحب؟ - هذا شعر حقا!
تألق الفرح أخضر في عينيها، وصاحت: حقا؟ - شعر جميل. - أنت تشجعني يا بابا ليس إلا. - بل أقول الحق.
ونظر في عينيها، ثم سأل باسما: ولكن من هو؟
فانطفأت شعلة الحماس في عينيها، وتساءلت في شيء من الخيبة: من ...؟ - من المقصود بالترانيم؟
ثم بنبرة ثقة: لم يعرف السر مكانا بيننا.
فقالت بإلغاز لم يخل من فتور: ليس أحدا من الناس! - ترى ألم أعد الصديق الأب؟ - بلى، ولكنه ليس أحدا من الناس. - يهمني أن أعرفه بعد إذنك. - ولكني أقول: إنه ليس أحدا من الناس. - أهو من الملائكة؟ - ولا من الملائكة. - ماذا هو إذن ... حلم ...؟ رمز؟
في حيرة واضحة: لعله ... هو غاية كل شيء.
अज्ञात पृष्ठ
مسح الرطوبة عن جبينه وساعديه، وصمم بإرادة هائلة على أن ينتزع من نفسه أية نية عبث، أو سخرية، أو استهانة. وقال بجدية: إذن فأنت تعشقين سر هذا الوجود؟
أجابت في توتر حل محل شجاعتها التلقائية: هذا جائز جدا يا بابا.
ما أحمقنا عندما نظن أنفسنا أغرب من الآخرين! - كيف حصل ذلك؟ - لا أدري ... من الصعب أن أوضح، ولكني وجدت في ديوانك بدء الطريق.
وضحك ضحكة عضلية خالصة، وقال: مؤامرة عائلية! أمك كانت تعرف من زمن، وأطلعتك على ذلك الشيء الذي تسمينه ديوانا. - لكنه شعر رائع ... وكم أنه ملهم!
وضحك ضحكة عالية لفتت إليه عازف البيانولا الذي كان يرسل على الكورنيش أنغامه المتشنجة. - أخيرا وجدت معجبة! ولكنه لم يكن شعرا، كان أوهاما محرقة. ومن حسن الحظ أني تركته في الوقت المناسب. - أما أنا فوجدت فيه ما أهيم به. - إذن فأنت خالقة حتى في قراءتك! - أنت تقول هذا! - وهذا هو حبيبك؟ - كما أنه حبيبك.
كان. لا حبيب الآن، القلب لم يعد يفرز إلا الضياع. وبين النجوم يترامى الفراغ والظلام، وملايين السنين الضوئية. - ما رأيك يا أبي؟ - لمثلك ينبغي أن أقول: افعلي ما تشائين.
فتساءلت في مرح: ومتى تعود إلى الشعر؟ - ادعي الله أن أعود إلى مكتبي أولا. - إني أعجب كيف هان عليك أن تهجره؟
فقال وهو يداري ابتسامة حياء: كان لهوا ليس إلا. - والديوان يا بابا؟ - توهمت يوما أنني سأستمر. - ولكني أسألك عما أوقفك.
تداخلت شفتاه في سخرية، ولكن سرعان ما ارتفع إلى حال من الجدية الصادقة، ودفعته رغبة صريحة إلى الاعتراف؛ فقال: لم يسمع لغنائي أحد.
أضر بك الصمت. وقال مصطفى محرضا: المثابرة والصبر!
अज्ञात पृष्ठ
وقال عثمان: اقذف بشعرك في المعركة تظفر بآلاف المستمعين.
وأرهقك الصمت، وألح عليك الحرمان، وفتح الحب ذراعيه، وأثبت الشعر أنه لا قدرة له على الامتلاك. ويوما قال مصطفى بارتياح: أخيرا قبلت فرقة الطليعة مسرحيتي.
واشتد إرهاق الصمت، وقرر شمشون أن يهدم المعبد، وسرعان ما استغرقه النوم.
وسألت بثينة: هل من الضروري، يا بابا أن يستمع لغنائنا أحد؟
فداعب خصلة من شعرها الأسود، وقال: ما معنى أن ندعو سر الوجود من الصمت إلى الصمت؟
ثم برقة وعطف: ألا تودين أن يسمع لغنائك الناس؟ - طبعا، ولكني سأستمر على أي حال. - جميل، أنت أفضل من أبيك، هذا كل ما هنالك. - ولكنك تستطيع أن تعود إلى الشعر إذا أردت. - الموهبة ماتت إلى الأبد. - لا أصدق، إنك في نظري دائما شاعر.
ما للشعر وهذا الطول والعرض، والتفكير الدائب في القضايا، وبناء العمارات، والطعام الدسم لحد المرض؟!
وحتى مصطفى انحط يوما على المقعد الطويل مقوس الظهر، كأنما أوغل في الكبر، وقال: ما أضيع الجهد!
وقلت له بانزعاج: ولكن الطليعة ترحب بمسرحياتك، وهي فن جيد حقا.
فلوح بيده بازدراء، وقال: علي أن أعيد النظر في حياتي كما فعلت أنت. - طالما نصحت بالمثابرة والصبر.
अज्ञात पृष्ठ
فبصق ضحكة خشنة، وقال: لا فائدة من تجاهل الجماهير. - أتريد أن تبدأ من جديد محاميا؟ - مات القانون قبل الفن، الحق أن مفهوم الفن قد تغير، ونحن لا ندري. عهد الفن قد مضى وانقضى، وفن عصرنا هو التسلية والتهريج، هذا هو الفن الممكن في زمن العلم، ويجب أن تتخلى للعلم عن جميع الميادين عدا السيرك. - الحقيقة أننا نتحطم واحدا بعد آخر. - بل قل إننا بلغنا سن الرشد، انظر إلى نجاحك في الحياة على سبيل المثال، وفي رأيي أن الترفيه غاية جليلة لمتعبي القرن العشرين، وما نظن أنه الفن الحقيقي ليس إلا الضوء القادم من نجم مات منذ ملايين السنين؛ فعلينا أن نبلغ سن الرشد، وأن نولي المهرجين ما يستحقون من احترام. - يخيل إلي أن التفلسف قد قضى على الفن. - بل قضى العلم على الفلسفة والفن، فإلى مسرات التسلية بلا تحفظ، ببراءة الأطفال وذكاء الرجال، إلى القصص الخفيفة، والضحكات المجلجلة، والصور الغريبة، ولنتنازل نهائيا عن غرور الكبرياء وعرش العلماء، ولنقنع بالاسم المحبوب، والمال الوفير.
سرني ذلك رغم الحزن والأسف، مارست بتألم حقيقي العواطف المتضاربة، وفكرت بذهول فيمن ازدرده السجن. الأصلع المحبوب يهبك بلسم العزاء لفشلك، وتفوقا غير متوقع. من غد سوف يطمح إلى القوة التي امتلكها، ولكن بوسيلة أتفه. كما انقلب المتطلع إلى سر الوجود إلى محام ثري غارق في المواد الدهنية. - إن يكن العلم كما تتصور؛ فما نحن إلا طفيليون على هامش الحياة. - نحن رجال ناجحون ذوو سر دفين من الحزن المكبوت، وليس من الحكمة أن ننكأ الجروح. - لكننا ننتمي في الواقع إلى عصر قديم بال. - بالله لا تنكأ الجروح. - العلماء أقوياء بالحقيقة، ونحن قوتنا مستمدة من المال الذي يفقد شرعيته يوما بعد يوم. - لذلك أقول لك: إن الموت يمثل أملا حقيقيا في حياة الإنسان.
ونظر إلى عينيها الخضراوين برقة، وقال: بثينة، هل أطمع أن تعديني بألا تفرطي في دراستك العلمية؟ - أظن ذلك، ولو أن الشعر سيظل أجمل ما في حياتي. - ليكن، لن أجادلك في ذلك، ويمكن أن تكوني شاعرة وفي ذات الوقت مهندسة مثلا. - يبدو أنك مشغول بمستقبلي. - طبعا، لا أحب أن تنتبهي يوما، فتجدي نفسك في العصر الحجري على حين يعيش من حولك في عصر العلم. - لكن الشعر ...
فقاطعها: لن أجادلك يا عزيزتي، صديقي مصطفى يجد في العلم دينا، وشعرا، وفلسفة، لكني لن أجادلك، أنا سعيد بك وفخور.
ها هي الشمس تتهاوى للمغيب، قرص أحمر كبير امتص المجهول قوته وحيويته الباطشة ؛ فرنت إليه الأعين كما ترنو إلى الماء. وتدفقت حوله كثبان السحب وضاءة الحوافي، موردة الأديم في مهرجان من الألوان.
أتريد أن تعرف سري حقا يا مصطفى؟ اسمع عندما أمضني الفشل جريت نحو القوة التي آمنا من قبل بأنها شر يجب أن يزول، ولكنك تعرف سري يا مصطفى.
5
في ضوء الشمس الغاربة تبدت أنيقة وقورا، رغم اكتناز جسمها الطويل، المفصح عن شبع مثير، ورفاهية محنقة. ما كان أرق جمالها! وما زالت على قدر من الجمال بالرغم من ضخامتها غير العادية وانتفاخ وجنتيها. ونظرتها الخضراء الجادة لم تفقد كل سحرها ولكنها غريبة، غرابة مستحدثة لم ترها عينك من قبل. امرأة رجل آخر، رجل الأمس الذي لم يعرف التعب أو الفتور، الذي نسي نفسه. ولكن ما علاقتها بهذا الرجل؟ المريض بلا مرض، المتجنب للدسم والشراب، الذي يتنسم في الهواء المشبع بالرطوبة نذر مخاوف لا حدود لها. والأختان سابقتان، جميلة تمشي على سور الكورنيش الحجري قابضة على يد بثينة التي سايرتها على الأرض، في الطريق ما بين جليم وسيدي بشر الذي يخف به الزحام درجة ما. وأعين كثيرة تطلعت إلى بثينة، وشفاه تمتمت بكلمات لم يميزها، ولكنه يعرفها على أي حال؛ فابتسم من الداخل فحسب. وما هو إلا عامان أو ثلاثة ثم تصير جدا، وتمضي الحياة، ولكن إلى أين؟ والتفت إلى الشمس الغاربة في سماء صافية باهتة لم يعلق بها من الشفق إلا قشرة سطحية استدارت عند الأفق. قال: كان الأقدمون يتساءلون أين تذهب الشمس، ولم نعد نتساءل.
فتطلعت زينب إلى الشمس ثواني، ثم قالت: بديع أن نتخلص من سؤال.
الإجابة العاقلة تخنقك وكأنها تستفزك، التصرفات العاقلة تغضبك بلا سبب. ما أجمل أن يثور البحر حتى يطارد المتسكعين على الشاطئ! وأن يرتكب السائرون على الكورنيش حماقات لا يمكن تخيلها، وأن يطير الكازينو الكبير فوق السحب، وأن تتحطم الصور المألوفة إلى الأبد؛ فيخفق القلب في الدماغ، وتراقص الزواحف العصافير.
अज्ञात पृष्ठ
ومضت البنتان إلى سينما سان استفانو، ثم واصل كلاهما المشي متقاربين. وإذا بها تتأبط ذراعه، وتهمس متسائلة: عمر ... ماذا عندك؟
ألقى نظرة باسمة على ما حوله، وقال: ما أكثر الغرام! - هو كذلك دائما، ولكن ماذا عندك؟
فقال ممعنا في التجاهل: بثينة لا تعرف أشياء كثيرة، فكرت في ذلك وأنا ...
فقاطعته نافدة الصبر: إني أعرف ما علي، والبنت معدنها نفيس، ولكنك تهرب.
ما أشد استجابة نفسك ل «تهرب»، كأنها مفتاح سحري يلقى إليك في جب. - أهرب؟ - أنت فاهم ما أعنيه فاعترف. - بأي جريمة؟ - بأنك لم تعد أنت.
ما أحوج الرطوبة اللزجة إلى عاصفة هوجاء! - حقا؟ - جسمك وحده الذي يعيش بيننا، وأحيانا أحزن لحد الموت. - ولكنني أتداوى بعزيمة صادقة كما لا بد تشهدين. - الحق أني أتساءل عن السبب وراء ذلك كله، أطوارك جعلتني أتساءل من جديد. - لكننا شخصنا الحال بما فيه الكفاية. - أجل، ولكن ألا يضايقك شيء بالذات؟ - أبدا. - يجب أن أصدقك. - لكنك لا تصدقين تماما فيما يبدو. - ظننت أن أمرا ضايقك، في المكتب، في المحكمة، عند أحد من الناس، وأنت حساس وبارع في الحزن المكتوم. - أنا لم أقصد الطبيب إلا لأنني لم أعثر على سبب محسوس. - لم تحدثني كيف بدأت الحال. - طالما حدثتك عن ذلك. - عن النتائج فقط، ولكن كيف بدأ الحال على وجه التدقيق؟
وها هي رغبة مستهترة في الاعتراف تدفعك. - من الصعب أن أحدد تاريخا، أو أن أقرر كيف بدأ التغير، لكنني أذكر أنني كنت مجتمعا بأحد المتنازعين على أرض سليمان باشا، وقال الرجل: أنا ممتن يا إكسلانس، أنت محيط بتفاصيل الموضوع بدرجة مذهلة حقيقة باسمك الكبير، وإن أملي في كسب القضية لعظيم. فقلت له: وأنا كذلك. فضحك بسرور بين، وإذا بي أشعر بغيظ لا تفسير له، وقلت له: تصور أن تكسب القضية اليوم وتمتلك الأرض، ثم تستولى عليها الحكومة غدا. فهز رأسه في استهانة، وقال: المهم أن نكسب القضية، ألسنا نعيش حياتنا ونحن نعلم أن الله سيأخذها؟ فسلمت بوجاهة منطقه، ولكن ذهل رأسي بدوار مفاجئ، واختفى كل شيء.
رمته بنظرة داهشة، وسألته: أكان هذا هو السبب؟ - أبدا ... لا أعرف سببا على التحديد، ولكني كنت أعاني تغيرا خفيا مستمرا. من هنا جاء تأثري الذي لا معنى له بكلام الرجل الذي تردده الملايين كل ساعة، دون أن يحدث أي أثر لأي إنسان. - طبعا، أنت لا تفكر في الموت إلا كما يفكر العقلاء.
ترى كيف يفكر العقلاء في الموت؟! - هذا مسلم به من حسن الحظ.
وهي تحدجه مستطلعة: وهل كرهت العمل بعد ذلك؟ - لا ... لا أستطيع أن أقطع برأي في ذلك، ربما قبله وربما بعده. - الحق أني حزينة بدرجة لا أحب أن أحدثك عنها. - ولكن هل يهمك العمل لهذا الحد؟ - أنت من يهمني، أنت وحدك.
अज्ञात पृष्ठ
وتؤجل قضية فأخرى فثالثة، ويمضي النهار وأنت مستمر في مقعدك ممدود الساقين تحت المكتب، تدخن بلا انقطاع، وتنظر إلى السقف ببلاهة. - تعبت من المشي. - لكنك تمشين أضعاف ذلك.
فقالت وهي تخفض البصر: آن لي أن أعترف لك بدوري، الراجح أنني حبلى.
فاهتز باطنه بموجة قاسية أكدت تلهفه على مفتاح الهرب السحري، وتمتم: لكن ...
فقالت بهدوء: يا عزيزي، أمر الله فوق كل تدبير.
ثم وهي تشد على ذراعه: وأنت لم تنعم بعد بولي العهد.
واستدارا راجعين، ونظرة دلال تمرح في عينيها، ومرحت النظرة طويلا حتى دق ناقوس الإنذار. وقال لنفسه إنه بشيء من الشراب سيطرد الفتور، ويمثل دور الحب كما يمثل الزوجية والصحة.
واستيقظ مبكرا بعد نوم ساعات معدودات، وطرق أذنيه صخب الأمواج العاصف في سكون الصباح المعتم. وزينب مستغرقة في النوم، مكتظة بالنوم والشبع، تنفرج شفتاها عن شخير خفيف متواصل، مشعثة الشعر. وأنت متضايق كأنما كتب عليك أن تناطح نفسك، وهذا يعني أنني لم أعد أحبك. بعد الحب القديم، والعشرة الطويلة، والذكريات المليئة بالوفاء لم أعد أحبك، لم تبق ذرة حب واحدة. ليكن عرضا يزول بزوال المرض، ولكني الآن لا أحبك، وهو أشقى ما ألاقي من مر التجارب. وها أنت تسمع شخيرها فلا تعطف، ولا يبتسم القلب. وتنظر إليها، وتسأل ماذا جاء بها؟ أو ماذا جاء بك؟ ومن ذا قضى بهذه السخرة اللعينة؟ - مصطفى ... ها هي الفتاة. - الخارجة من الكنيسة؟ - هي، هي ... انظر إلى فستانها الأسود حدادا على عمها ... أي ملاحة؟! - ولكن الدين! - لم أعد أكترث لهذه العوائق.
وقلت لها: يسعدني أنك تنازلت بقبول معرفتي. في حديقة العائلات قدم عمر الحمزاوي المحامي نفسه، فتمتمت بصوت لا يكاد يسمع: «كاميليا فؤاد.» يا عزيزتي حبنا أقوى من كل شيء، وسوف نتغلب على أي عائق، فقالت وهي تتنهد: لا أدري.
ويوما ضحك مصطفى في جو عاصف، وقال: إني أعرفك منذ عهد آدم، بحاثة عن المتاعب، زوبعة في بيتك، وزوبعة أعنف في بيتها، وأنا حائر بينكما.
ثم ما أجمل موقفه وهو يرفع كأسه صائحا: مبارك عليكما، أصبح الماضي في خبر كان، ولكن تضحيتك لا تقاس بتضحيتها، وللعقائد طغيان حتى على الذين نبذوها. صحتك يا زينب، صحتك يا عمر.
अज्ञात पृष्ठ
وانتحى بك جانبا، وراح يقول وهو سكران تماما: لا تنس الأيام الأليمة، لا تنس الحب أبدا، تذكر أنه لم يعد لها أهل في هذه الدنيا، مقطوعة من شجرة، ولا أحد لها سواك.
تزوجت قلبا نابضا لا حدود لحيويته، وشخصية فاتنة حقا، تلميذة مثالية للراهبات، مهذبة بكل معنى الكلمة، مدبرة حكيمة كأنما خلقت للتدبير والحكمة، وقوة دافعة للعمل لا تعرف التواني، ونظرة ثاقبة في استثمار المال. ارتفعت في عهدها من غمار العدم إلى التفوق الفريد والثروة الطائلة، ووجدت في حرارة حبها عزاء عن الفشل، والشعر، والجهاد الضائع، رمز الجنس، والمال، والشبع، والنجاح، فماذا جرى؟
تقلبت في الفراش على وجهها؛ فانحسر طرف القميص عن نصفها التحتاني العاري، فانزلق من الفراش متجها نحو الشرفة، ودخل ثم أغلق الباب وراءه. طوقه هواء عاصف، ورأى الأمواج وهي تركض بجنون نحو الشاطئ، فتلطم بزبدها الفائر أرجل الكباين، تحت قبة باهتة انتشرت قطعان السحب في جنباتها، وغام جو الصباح الباكر باللون الرمادي المشع منها. ولم تدب قدم بعد فوق الأرض، ولم تنفتح نفسك لشيء، ولم ينعشك الهواء. وحتى متى تنتظر الشفاء؟ أين مصطفى لأسأله عن معنى هذه المتناقضات؟ عنده من الأفكار مدخر كثير، رغم أنه لم يعد يبيع اليوم إلا اللب والفشار. لماذا يجيء دور زينب بعد العمل؟ وها هي موجة تعلو علوا غير عادي، ثم تنكسر عن أطنان من الزبد، ثم تنداح في تدهور مسلمة الروح. يا إلهي إنهما شيء واحد، زينب والعمل، والداء الذي زهدني في العمل هو الذي يزهدني في زينب. هي القوة الكامنة وراء العمل، هي رمزه، هي المال والنجاح، والثراء، وأخيرا المرض. ولأني أتقزز من كل أولئك؛ فأنا أتقزز من نفسي، أو لأني أتقزز من نفسي؛ فأنا أتقزز من كل أولئك. ولكن من لزينب غيري؟ الليلة الماضية كان الحب تجربة مريرة. ضمر ونضب فلم يبق منه سوى ارتفاع في الحرارة، وسرعة في النبض، وزيادة في ضغط الدم، وتقلص في المعدة، تتلاحق في وحدة رهيبة؛ وحدة الموجة التي يمتصها رمل الشاطئ، فلا يتقهقر منها إلى البحر شيء. هي تترنم بأهازيج الغرام وأنا أبكم، هي تطارد وأنا شارد اللب، هي تحب وأنا كاره، هي حبلى وأنا عقيم، هي حساسة حذرة وأنا بليد. وقالت: أنت لا تتكلم كعادتك. فقلت: بل لا يسمع لي صوت. وقلت: تصور أن تكسب القضية اليوم؛ فتمتلك الأرض ثم تستولي عليها الحكومة غدا. فقال: ألسنا نعيش حياتنا، ونحن نعلم أن الله سيأخذها؟ ورغم الجفاء والجفاف فإن الموجة تعلو لحد الجنون، ثم تتكسر عن الزبد، ثم تسلم الروح. ويزدردك قبر النوم بلا راحة، ويظل عقلك يتابع هواجسه، حتى الطبيب تفكر في زيارته مرة أخرى، مسلما بأنك تغيرت أكثر مما كنت تتصور. فيا ترى ماذا أريد؟ أجل، ماذا أريد؟ الفقه لا يهم، والحكم لصالح موكلي لا يهم، وإضافة مئات جديدة لحسابي لا يهم، ونعمة البيت السعيد لا تهم، وقراءة عناوين الصحف لا يهم، فما رأيك في رحلة في الفضاء؟ في ركوب الضوء شكرا لسرعته الثابتة. الشيء الوحيد الثابت في هذا الكون الذي لا يعرف الثبات، المتغير بلا توقف، المتحرك في جنون.
وها هو قد وصل أول مكتشفين للفضاء، بياع الجراثيم، وبياع الأنباء الكاذبة.
6
في آخر أغسطس رجعت الأسرة إلى القاهرة. وامتعض عمر لمرأى ميدان الأزهار، وهو في سبيله إلى عمله، وقال إنه لم يتغير عما تركه، وإنه ما زال معبرا كالحا للذاهبين إلى أعمالهم. واستقبل استقبالا حارا، وبخاصة من مساعده الأستاذ محمود فهمي، وسرعان ما حملت إليه ملفات القضايا المؤجلة، والتي تحت البحث. ولم يخل سبتمبر من أيام لزجة، ولكن جرت به نسائم لطيفة، وظللت بواكير صباحه طلائع سحب بيضاء. وعانقه مصطفى المنياوي طويلا وتبادلا القبلات، ووقفا طوال الاستقبال وجها لوجه. عمر بقامته المديدة، ومصطفى رافع وجهه نحوه، وصلعته مائلة إلى الوراء تلمع تحت ضوء المصباح الفضي. وقال وهو يجلس على المقعد الجلدي الكبير أمام المكتب: أراك في رشاقة الغزال، برافو.
وتناول سيجارة من العلبة الخشبية المطعمة بالصدف التي تعزف أنغامها عند فتحها، ثم أشعلها وهو يقول: فكرت مرات أن أزورك في الإسكندرية، ولكن واجب الزوجية كان يناديني إلى رأس البر، فضلا عن أنني شغلت طيلة الوقت بإعداد مسلسلة جديدة للراديو.
ونظر إلى ملفات القضايا، ثم إلى عيني صاحبه مستجديا كلمة مشجعة؛ فابتسم عمر ابتسامة غامضة، فألحق النظرة بالاستجداء حتى قال عمر: عملت صباح اليوم ساعات متواصلة.
فتنهد مصطفى في ارتياح غير أن الآخر تمتم: ولكن ...
فتساءل مصطفى في قلق: ولكن! - بالصراحة لم أسترد للعمل أية رغبة.
अज्ञात पृष्ठ
وساد صمت متشائم، ونفث الدخان من فم متوتر، ثم تساءل: أكان ينبغي أن تأخذ مزيدا من الراحة؟ - دعنا من المغالطة، فالأمر أخطر من ذلك.
ثم وهو يشعل بدوره سيجارة على صدى أنغام جديدة: الأمر أخطر من ذلك، وليس العمل وحده الذي أصبحت أكره، ولكن الداء يلتهم أشياء أخرى أعز علينا من العمل، زوجتي على سبيل المثال. - زينب!
فقال فيما يشبه الحياء: لا أدري كيف أتكلم، ولكن للأسف لم أعد أطيقها، البيت نفسه لم يعد بالمأوى المحبوب. - أتقول ذلك عن مكان يضم بثينة وجميلة؟ - من حسن الحظ أنهما ليستا في حاجة إلي. - تجهم وجه مصطفى، ورمشت عيناه المستديرتان الذابلتان، وتجلت في نظرته المستطلعة رغبة ملحة حزينة في حل اللغز. - لكن مثلك لن يعجزه معرفة السر.
قال وهو يبتسم ابتسامة مريرة: لعله الكون - بدورانه الدائم على وتيرة واحدة - هو المسئول الأول عن ذلك. - اعترف بأنك تبالغ فيما يتعلق بزينب على الأقل. - هي الحقيقة السوداء.
فسأله بإشفاق: تتوقع عواقب عملية لذلك الموقف؟ - إني أعيش في مقام السؤال، ولكن بلا جواب. - على الأقل؛ فإنك لا بد مقتنع بأن ما بك هو حال من أحوال النفس. - سمه كيف شئت، ولكن ما هو؟ ماذا أريد؟ ماذا علي أن أعمل؟ - أنت أرشد من أن تبقى في مقام السؤال، سائل رغباتك الدفينة، راجع أحلامك، ها هي أشياء تود الفرار منها، ولكن إلى أين؟ - أجل، إلى أين؟ - عليك أن تجيب بلا تردد. - خبرني أنت عما يدفعك إلى العمل والزوجة؟
بدا السؤال مضحكا على نحو ما فضحك، ولكن قتامة الجو لم تسمح للمرح بالبقاء أكثر من ثوان. - إني أرتبط بزوجتي بحكم الواقع والعادة، أما عملي فهو مصدر رزقي، ولي جمهور أسعد به كثيرا، مئات الرسائل التي أتلقاها أسبوعيا تسعدني حقا، والحق أن تجاوب الناس معك قيمة ثمينة، ولو يكن مصدره بيع اللب والفشار! - وأنا ليس لي جمهور، وواقع، وعادة؟
تردد مصطفى مليا، ثم قال: الحقيقة أن عملك جاوز بك أبعد غايات النجاح، وأن زوجك تعبدك، فلم تعد أمامك غاية تتطلع إليها.
عمر وهو يبتسم ساخرا: هل أسأل الله فشلا في العمل، وخيانة في الزوجية؟ - لو استجاب لك؛ لمنحك حب الحياة من جديد.
وخلا كلاهما إلى نفسه في صمت مشحون بالتوتر، منذر بمأساة وشيكة الوقوع، وقال عمر: يعزيني أحيانا أنني أكره نفسي بنفس القوة.
ثم وهو يطفئ عقب السيجارة في النافضة بقوة حانقة: والحق أن عملي وزينب ونفسي، كل أولئك شيء واحد هو ما أود التخلص منه.
अज्ञात पृष्ठ