وتقدم بين يديه آخر حاملا على يديه صينية مغطاة بنسيج رقيق، وقال له: لقد اخترعت اليوم هذا الشكل يا سيدي، فلعله يعجبك، ثم رفع النسيج، فإذا قيثارة مصنوعة من الحلوى مغشاة بدقيق السكر الأبيض، فتهلل وجهه فرحا وصاح: فكرة شعرية جميلة لم يسبقك إليها أحد، وقد أعفيتك اليوم من العمل مكافأة لك على حسن تصورك وسمو خيالك، فاذهب لشأنك وخذ هذه القطعة الفضية واشرب بها نخب الفنون الجميلة.
دواوين الشعراء
ولم يزل يطوف بالعمال ويخاطبهم بهذا الأسلوب المضحك الغريب، وهم يتغامزون عليه ويتضاحكون من ورائه، حتى خرج فمشى إلى قاعة الطعام، فرأى زوجته «ليز» تصفف على المائدة أنواع الحلوى والفطائر والقدائد والرشارش والرقائق، وقد اتخذت أوعيتها وأكياسها من صحائف الكتب الأدبية ودواوين الشعراء التي كانت تبتاعها من الوراقين لهذا الغرض، فألقى على الأكياس نظرة حزينة مكتئبة، وقال: أهكذا تصنعين بدواوين أصدقائي الشعراء المجيدين! لقد كنت أتمنى أن أرى وجه الموت قبل أن أرى تلك الأعلاق النفيسة والجواهر المنتقاة أوعية للفطائر والحلوى في حوانيت الطهاة والحلويين؛ فوا رحمتاه للأدب! ووا أسفا عليه وعلى عهده الزاهر النضير! فألقت عليه نظرة ازدراء واحتقار، وقالت له: إننا ما أردنا إهانة دواوين أصدقائك ولا الزراية بها، ولكننا علمنا أنها لم تخلق إلا للعثة والأرضة، وأن شعاع الشمس لن يصل إلى مكامنها أبد الدهر، فأردنا أن نحتال على الناس في أمرها، فنشرناها من قبورها وقدمناها إليهم لفائف للفطائر والحلوى، علهم يلمحونها عرضا فيقرءونها، فليشكر لنا أصدقاؤك منتنا عليهم ويدنا عندهم! فاحتدم راجنو غيظا وقال لها: أيتها النملة الضعيفة، لا تهيني الثور العظيم فيصرعك بحافره صرعة لا قيامة لك من بعدها! فقالت: لعنة الله عليك وعلى جميع ثيرانك من عهد هومير إلى عهدك وتركته وانصرفت.
وما هي إلا هنيهة حتى دخل المطعم غلام صغير يطلب قرصا من الحلوى، فتناول راجنو أحد الأكياس وتأمله قبل أن يعطيه إياه، فوقع نظره على هذه الكلمة: «ولما فارق عولس بينيلوب ...» فأعاده إلى مكانه، وقال: شعر بديع لا أستطيع أن أسمح به، وتناول كيسا آخر فقرأ عليه هذا العنوان: «إلى أبولون». فقال: ولا هذا، ووضعه في مكانه، وتناول كيسا ثالثا فقرأ عليه: «إلى فيلبس». فقال: ولا هذا أيضا، وأراد أن يعيده إلى مكانه، فالتفتت إليه زوجته فخافها وأعطاه الغلام فأخذه وانصرف.
ولم يلبث أن تغفل زوجته وعدا وراء الغلام حتى أدركه في الطريق، فضرع إليه أن يرد له الكيس فارغا، فأبى الغلام إلا إذا أخذ في مقابله قرصا آخر أو أخذ القرص بلا ثمن، فرد إليه راجنو الثمن وعاد بالصحيفة فرحا مغتبطا يمسح عنها الدهن، الذي غمرها ويضمها إلى صدره ويترنم بأبياتها!
الموعد
وإنه لكذلك إذ فتح الباب فجأة ودخل سيرانو وهو مصفر الوجه شاحب اللون على أثر تلك المعركة الليلية، التي دارت بينه وبين أعداء لينيير، فسأل راجنو: كم الساعة الآن؟ قال: السادسة يا سيدي، وقدم له كرسيا فجلس عليه، ثم وقف بين يديه متأدبا متخشعا وقال له: أهنئك يا سيدي بانتصارك العظيم الذي انتصرته ليلة أمس، فلقد كانت تلك المعركة أجمل معركة حضرتها في حياتي، وسيمر بي زمن طويل قبل أن أنساها وأنسى حسنها وجمالها، فالتفت إليه سيرانو وقال: أي معركة تريد؟ قال: معركة «بوروجونيا». قال: لعلك تريد المبارزة؟ قال: نعم، أريد تلك المبارزة الغريبة التي ألفت فيها بين نغمات سيفك ونغمات شعرك تأليفا بديعا كأحسن ما يصنع الموسيقار الماهر، وارتجلت فيها ذلك الموشح الجميل الذي لم يسبقك إليه شاعر من قبلك، كأن إلهة الشعر كانت مرفرفة فوق رأسك تمدك بروحها وقوتها. فقالت ليز وهي تشير إلى زوجها: نعم يا سيدي، إنه ما زال يلهج بتلك الحادثة مذ رآها حتى الساعة، لا يفارق خيالها يقظته ولا منامه، حتى ليخيل إلي أنه قد أصابه مس من الشيطان. فقال راجنو: نعم، إنها لم تفارق خيالي قط، وما حسدت أحدا في حياتي على موقف من المواقف حسدي إياك على موقفك هذا، ثم مد يده إلى المائدة وتناول مدية طويلة وأخذ يلوح بها في الهواء مقبلا مدبرا، متقاصرا متطاولا، كأنما يمثل تلك المبارزة، ويترنم في أثناء تمثيله بهذا الشطر: «وفي المقطع الأخير أصيب، وفي المقطع الأخير أصيب» ثم يقول: ما أجمل هذه النغمة! وما أبلغ هذا الشعر! وما أمتن تلك القافية! وسيرانو ينظر إليه مدهوشا مستغربا، حتى فرغ من تمثيله. فقال له: كم الساعة الآن يا راجنو؟ قال: ست وعشرون دقيقة يا سيدي. فقال في نفسه: لم يبق على السابعة إلا القليل.
ثم وقف وأخذ يتمشى في أرجاء القاعة ذهابا وجيئة، فمر بليز وهي واقفة بجانب المائدة، فلمحت في يده جرحا داميا. فقالت له: ماذا أصابك يا سيدي؟ وما هذا الجرح الذي في يدك؟ قال: خدش بسيط لا أهمية له. فقالت: يخيل إلي أنك كنت في معركة. قال: لا. قالت: أخاف أن تكون كاذبا. قال: هل رأيت أنفي يضطرب؟ تلك هي العلامة الوحيدة للكذب في مذهبي، ثم التفت إليها وإلى راجنو وقال لهما: إنني أنتظر بعض الناس هنا، وأحب أن أكون معه على انفراد، فاتركا لي القاعة الآن، فلم يبق على حضوره إلا القليل. قال راجنو: ولكن ماذا أصنع بشعرائي يا سيدي وهم على وشك الحضور الآن؟ قال: لا بأس أن يحضروا، على شرط أن تؤذنهم بالانصراف أو بالتحول إلى غرفة أخرى عندما أشير إليك، ثم سأله: كم الساعة الآن؟ قال: ست وثلاثون دقيقة. قال: أعطني قلما وقرطاسا، فإني أريد أن أكتب، فجاءه بما أراد، فجلس على منضدة راجنو، وأمسك بالقلم وأنشأ يقول بينه وبين نفسه: ليس في استطاعتي أن أفاتحها في شيء مما أحب أن أفاتحها فيه، فخير لي أن أكتب لها كتابا أقدمه إليها بنفسي عند حضورها، ثم أتركها وأنصرف لشأني لتقرأه وحدها، وأطرق برأسه هنيهة، ثم تنفس نفسا طويلا وقال: آه! لقد كنت أظن أنني شجاع جريء لا أهاب الإقدام على أي خطر من الأخطار مهما كان شأنه، فإذا أنا جبان عاجز لا حول لي فيما يعرض لي من الخطوب ولا حيلة، ويخيل إلي أن الموت أهون علي من أن أقف أمامها وجها لوجه، وأفضي إليها بشيء مما يجيش به صدري.
ثم أكب على المنضدة وحاول أن يكتب شيئا، فازدحمت الأفكار في رأسه، وانتشرت عليه خيالاته وتصوراته، فلم يستطع أن يكتب حرفا واحدا، فألقى القلم من يده وقال: قبح الله التكلف والتعمل لولا أنها تلميذة «المدرسة القديمة»، وأنها من فريق المتأنقين المتشدقين المفتتنين بالصور والأساليب، لما وجد قلمي في طريقه ما يعترضه دون الوصول إلى الغاية التي يريدها، فالكتاب مسطور في صدري بأكمله، وليس بيني وبينه - إن أردته - إلا أن أضع قلبي بجانبي وأستمليه ما يشعر به، فيمليه علي ببساطة ووضوح، ثم تناول القلم مرة أخرى وشرع في الكتابة، فإذا صوت غليظ أجش يقعقع ناحية الباب: «صباح الخير يا ليز»، فرفع سيرانو رأسه، فإذا ضابط ضخم الجثة، هائل الخلقة، ذو شاربين كثيفين مستطيلين، فسأل راجنو: من الرجل؟ فقال: إنه ضابط من ضباط الجيش الفرنسي يسمي نفسه «الرجل الهائل»، وهو كما يزعم بطل من الأبطال المغاوير الذين لم يسمح الدهر بمثلهم في جيش من جيوش العالم، وهو صديق زوجتي ليز، ولا يأتي هنا إلا لزيارتها، فألقى سيرانو على الضابط نظرة حادة، ثم عاد إلى شأنه واستمر يكتب كتابه ويهمهم بينه وبين نفسه من حين إلى حين بأمثال هذه الكلمات: «أحبك حبا يعجز القلم عن بيانه؛ لأن القلم مادة من مواد العالم الأرضي، والحب روح من أرواح الملأ الأعلى»، «لا يرى الناس من عينيك الجميلتين سوى صفائهما ورونقهما، أما أنا فإني أستشف من ورائهما نفسك الجميلة العذبة المملوءة رقة وشعورا، فإذا قال الناس: ما أجمل عينيها وأحلاهما! قلت: ما أجمل نفسها المترقرقة في عينيها وما أصفى أديمها!» «إنني أعيش في هذا العالم عيش اليائس القانط، واليأس يقتل الفضائل في النفوس ويميتها، فأحييني بالأمل واخلقي مني إنسانا جديدا تتخذي عندي - بل عند العالم أجمع - يدا لا أنساها لك أبد الدهر، وفي اعتقادي أن ليس بيني وبين أن أكون إنسانا نافعا في المجتمع - بل نعمة على الدنيا بأجمعها - إلا أن تسبلي علي ستر حمايتك ورعايتك».
بؤس الأدباء
अज्ञात पृष्ठ