اهتزت أجنيس طربا وقالت: يا ألفونسو، هذا عربي لطيف عذب الكلام، فبحقي عليك إلا أحسنت مجاملته وسهلت له حاجته.
ثم تركت المجلس. فقال ألفونسو: نعود إلى سؤالك عن سبب زيارتنا.
فقال: جئت يا سيدي من قبل المعتمد، وهو يرجو أن يكون لك صديقا ثابت الود، دائم الإخلاص. فما قولك؟؟ - هذا حسن، لولا أن مطامع ابن عباد دائما تتعارض مع مطامعي، وتقف في طريقها، ثم إني لا أحب فيه تلك النزعة الجشعة، التي تدفعه إلى الرغبة في امتلاك الأندلس، واغتصاب صغار الولاة بلادهم. - الأذفونش ملك عظيم، فلم لا يحب أن يكون حليفا وصديقا لملك عظيم؟ - نحن الملوك لا نحالف إلا من نخاف شره، وأنا لا أخاف ابن عباد. - إنك تشكو منه الآن؛ لأن مطامعه تصطدم بمطامعك، فلم لا تحالفه إذا حتى يسير كل منكما في طريقه من غير اصطدام ... يترك لك ما تريد، وتترك له ما يريد. - لا يا ابن عمار، إن الذي يترك الأسد طليقا يغتاله الأسد. - إننا سنفرض يا سيدي أسدين قويين، وهما فوق ذلك صديقان. - لا يا عربي. إنك ربما تعرف ما في نفسي، وتحاول أن تخدعني. - هلم إلى المصارحة إذا. أنت تخشى أنك إذا حالفته قويت ملكا مسلما، وأنتم لا تريدون أن تعيدوا في الجزيرة أيام عبد الرحمن الناصر، أو أيام المنصور بن أبي عامر. - ليس كذلك تماما. - هو كذلك تماما ... دعني أخبرك أن تلك الأيام لن تعود، وأنك إذا حالفت المعتمد كنت الرابح من غير أن يعود عليك خطر. - أنا حليف القادر بن المأمون. - ولكننا سندفع ثمنا أغلى.
ثم انتقل إلى المساومة والمماسكة، واتفقا على معاهدة من نصوصها: أن يتعهد ملك قشتالة بمعاونة المعتمد بالجند في حروبه مع جميع أعدائه المسلمين؛ وأن يتعهد المعتمد بمضاعفة الإتاوة التي يؤديها إلى ملك قشتالة في كل سنة، وألا يعترض خطته في افتتاح طليطلة، وهي معاهدة مشئومة، ضحى فيها المعتمد بإسبانيا كلها؛ لكي يبسط سيادته على بضع إمارات.
عاد ابن عمار إلى إشبيلية، وأطلع المعتمد على المعاهدة، فسر بها، وبدأ إنفاذها بإرسال ابن عمار على جيش لأخذ مرسية وبلنسية، على أن يكون أميرا لبلنسية.
وبعد سبع سنوات من هذه المعاهدة، سقطت طليطلة قاعدة القوط القدية ومعقل النصرانية في يد ألفونسو، بعد أن حكمها المسلمون اثنين وسبعين وثلاثمائة عام، فشمل الحزن عليها جميع بلاد الإسلام، وذعر ملوك الولايات وأحسوا بالخطر الداهم، وبغي ألفونسو وتكبر، ولقب نفسه بالإمبراطور حامي الملتين، ثم أقسم ألا يبقي أحدا من ملوك الأندلس فوق عرشه، إلا إذا خضع لسلطانه، وعد نفسه من عماله، ووصل الخبر إلى إشبيلية في ليلة سوداء، فهاج الشعب وهدد بثورة جامحة، واجتمع الناس في الخانات وعند أفواه الطرق، يتحدثون في حزن وسخط على ملوكهم الذي أدى بهم تخاذلهم وإسرافهم، والانهماك في شهواتهم إلى هذه الفاجعة، التي تهدد بزوال ملك العرب من الجزيرة.
وجلس المعتمد في قصره حزينا، تتناهبه الأفكار، وتتقاذفه الأوهام، ودخل عليه الهوزني، فسأله المعتمد في ذهول وشتات فكر: كيف الحال؟؟ فقال الهوزني: الحال حسنة يا مولاي، لولا فضول أهل إشبيلية، فإن المصيبة فيهم أنهم يزجون أنفسهم فيما لا شأن لهم به من سياسة الملك وشئون الدولة.
لقد مررت في الطريق وأنا قادم، بسوق القصابين، وكان أحد الجنود يشتري لحما، فابتدره القصاب قائلا: حرام أن تأكلوا وتشربوا أيها الجنود المترفون.
وكاد الشر يتافقم، لولا تدخل الناس. - إن استيلاء الأذفونش على طليطلة له ما بعده. - وقد بلغني يا مولاي أنه فتك بأهل المدينة، وسامهم كل أصناف العذاب ... تعسا لهذه المعاهدة الظالمة، فإنها الجذوة التي طارت منها كل هذه الشرور. فأطرق المعتمد وقال: حقا يا أبا القاسم، لقد فارق التوفيق ابن عمار عند عقدها. - إن ابن عمار يا مولاي رجل لا يوثق به، وهو أول من يبيع نفسه وذمته لمن يلوح له بالذهب النضار، فقد سمعت أن الأذفونش أهدى إليه خاتمين من نفيس الجواهر، وأنه خدعه بصنوف من الإطراء، حتى لقد دعاه أذكى رجل بالأندلس، وأنه خلق ملكا، وأظهر له أسفه أنه لم يكن في مكان ابن عباد. - وظن الخائن المفلوك ذلك صحيحا؟! - إنه أول من يخدع، على الرغم مما يظهر من الحصافة والذكاء، ثم لقد بلغني أن زوجة الأذفونش - وهي من يعلم مولاي قوة سحر جمالها - فتنتة وأطمعته، حتى وقع في الشرك فوقع المعاهدة. - ويل للأبله المخدوع!! - إنه رجل كبير الآمال ... وقد وصل إلى علمي أنه أظهر العصيان ببلنسية، بعد النعم التي واليتها عليه، ثم إن كارثة الكوارث، أنه أرسل شعرا في هجاء مولاي وزوجه اعتماد، يردده أهل الأندلس جميعها، يقول فيه:
تخيرتها من بنات الهجان
अज्ञात पृष्ठ