السيف أصدق أنباء من الكتب
في حده الحد بين الجد واللعب
عزاء
دار الفلك دوراته ... ومضى نحو سنتين من ولادة محمد بن عباد، والدنيا مقبلة على دولة بني عباد، والأيام تضاحك آمالها.
حتى إذا كان يوم من أيام الربيع، أقبل على قصر باجة فارس يحث جواده وقد تصبب منه العرق وجلله الغبار، فلما دخل الفناء تواثب إليه الحراس والجنود من كل مكان، فعرفوا فيه الحارث بن ربيعة، موضع ثقة الملك أبي القاسم صاحب إشبيلية. فابتدرهم الفارس وهو يلهث: أين مولاي عباد؟ فأشاروا إلى داخل القصر، فقفز الحارث حتى إذا مثل بين يدي الأمير، أدى كريم التحية، وقال: يا مولاي. إن سيدي أبا القاسم قد اشتد به المرض منذ أيام، وقد طلب إلي أن أسرع إليك لتراه.
فوجم عباد عند إلقاء الخبر إليه، وبدا على وجهه مزيج من حزن وأمل وخوف وتفكير، ثم قال: أتراه بارئا يا ابن ربيعة؟؟ فقال: يا مولاي إن المرض لشديد.
وما كاد يسري الخبر في القصر، حتى سرى النحيب والنشيج بين الجواري؛ فغضب عباد وقال: إنهن فاجرات يملكن عيونهن ... مر صاحب بريدي أن يعد «داحسا» فإنه أقوى خيلي على العدو. ثم قام وودع زوجه، وتأهب للسفر إلى إشبيلية، وأمر أن ترحل الأسرة والحاشية بعد يومين.
عدا الفرس بعباد كأنه البرق الخاطف، حتى لقد عجز الحارث عن مداركته، وما كانت إلا ليلة وبعض نهار، حتى وصل عباد إلى إشبيلية وكان في حجرة أبيه. فرأى شبحا نهكته الأيام وافترسته الأمراض، يردد أنفاسا قصارا، ويرسل أنات خافتة فلما رآه أبو القاسم ابتسم ابتسامة ترحيب، وأشار إليه بالجلوس، ثم قال في عبارات متقطعة: إننا ملكنا يا عباد بالدهاء والحيلة، ثم ثنينا بعد ذلك بالقوة والبطش والجبروت ... أملك الجزيرة كلها أبا عمرو، وأبدأ بالأدارسة، فإنهم أعداؤك وأعداء أبيك ... إنك لخمي يا بني ... إنك من بني المنذر بن ماء السماء، فلست بمحدث في الملك ولا واغل فيه. عند ذاك أقبل يحيى بن إسحاق الطيب، وفي يده كأس بها دواء، فصرفه عنه أبو القاسم، وقال:
وإذا المنية أنشبت أظفارها
ألفيت كل تميمة لا تنفع
अज्ञात पृष्ठ