أسماء الممثلين
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
أسماء الممثلين
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الشبح الأبيض
الشبح الأبيض
تعريب
مارون عبود
أسماء الممثلين
روبر دي ليزنيه.
فلافي.
لورادان، جرار:
فارسان.
رينالدي:
وكيل فلافي.
بابيو:
سجان.
صاحب الفندق.
قاتلان.
حارس.
شبح أبيض.
الفصل الأول
(المرسح يمثل داخل الفندق: طاولات، كراسي، بنك ... إلخ.)
المشهد الأول (لورادان وجرار (جالسان أمام المرسح) - وصاحب الفندق (وراءهما))
جرار :
يا صاحب الفندق. (صاحب الفندق يتقدم.)
جرار :
ما هذا القصر القديم الذي أراه، وتكاد جدرانه تسقط على فندقك؟
صاحب الفندق :
إن هذا القصر يخص الأمير فلافي، وهو من أمنع قصور بلادنا.
جرار :
ليس هذا الاسم بمشتهر بين جماعة الفرسان.
صاحب الفندق :
يملك الأمير هذا القصر من نحو اثنتي عشرة سنة، وقد اتصل إليه من الأمير ليزينيه.
جرار :
أما هو ذاك الذي توفي في إحدى الحروب المقدسة؟
صاحب الفندق :
بلى سيدي.
جرار :
أما يريد الأمير أن يذهب إلى سورية مع الزحفة التي سيتولى أمرها ملوكنا العظام: فيليب، وريكاردوس، وفريدريك بارباروس؟
1
صاحب الفندق :
لا أعلم، وهل لبائع حقير مثلي أن يطلع على أسرار الأمير؟!
لورادان (ينهض واقفا) :
إن الأمير، يا حضرة الفارس، يجد ما يكفيه من الأعداء ضمن بلده، فلا يحتاج أن يبحث عنهم في الخارج.
صاحب الفندق :
ذلك عين الحقيقة.
لورادان :
أنت إذن عازم على السفر مع الصليبيين (جرار يظهر صليبه)
وفق الله مسعاكم الكريم.
جرار :
آمين! وأنت، يا من تلوح عليه علائم أبطال الوغى، أما تريد أن تذهب إلى الأراضي المقدسة، وتخوض معامع الجهاد؟
لورادان (يكشف صدره ويري صليبه) :
لقد أتممت عملي يا سيدي.
جرار :
إذن يضمني وإياك إخاء الجندية، إليك فؤادي وذراعي!
لورادان :
إليك فؤادي وذراعي (يتصافحان) .
جرار :
يا صاحب الفندق، هات لنا كراسي، وقدم لنا من أجود خمر بورغونيا.
2
صاحب الفندق :
أمركم سيدي (ويقدم الخمر) .
جرار :
ما الاسم الكريم، يا حضرة الفارس؟
لورادان :
اسمي لورادان.
جرار :
وما هو اسم موطنك؟
لورادان :
موطني بلد كيان الجميلة.
جرار :
وأنا أيضا موطني بلد كيان الجميلة. (يصب الخمر في الكأس)
فلنشرب على ذكر كيان بلد الخمر الجيدة والفرسان الأبطال.
لورادان :
أعفني يا سيدي؛ فلست أشرب الخمر مطلقا؟
جرار :
أتخيب رجاء صديقك وأخيك؟!
لورادان :
إن نذرا يمنعني من إجابة طلبك.
جرار :
نذر ...؟!
لورادان :
نعم سيدي، ولقد عدت من الأراضي المقدسة قاصدا إيفاءه.
جرار :
لا أتعرض لكشف أسرارك. هل أقمت طويلا في الأراضي المقدسة؟
لورادان :
عشر سنوات كاملة، ولقد حضرت مواقع جمة، جرت بها الدماء كالأنهر، وشاهدت مدنا زاهرة التهمها لهيب النار، فأمست قاعا صفصفا،
3
عرض لي عواصف هائلة، والموت لبث أصم عن طلباتي، وبقيت حيا.
جرار :
لقد حفظ الله حياتك حتى تدافع عن الأماكن المقدسة.
لورادان :
وا أسفاه على الأراضي المقدسة! ما عاد يحق لها أن تدعى بهذا الاسم الشريف.
أما سكانها فقد باتوا يئنون تحت نير الظلم والاستعباد.
جرار :
وماذا يصنع أولياء الأمور؟
لورادان :
لا يجمعون كلمتهم، بل يفضلون منافعهم الشخصية على المدافعة عن حقوق دينهم.
جرار :
إن قلبي يتفطر حزنا ويتميز غيظا عند سماعي مثل هذه الأمور المنكرة.
لورادان :
لقد مضى علي، أيها الفارس الشهم، اثنتا عشرة سنة وأنا متقد مثلك بنار الحمية، ومع ذلك فقد زايلت
4
تلك الأراضي المقدسة التي كنت أقسمت أن أدافع عنها حتى الموت.
جرار :
ولماذا زايلتها؟
لورادان :
اضطرني الأمر لذلك.
جرار :
ومن الذي دعاك إلى فرنسا؟
لورادان :
أتبتغي أن أبوح لك بذلك؟
جرار :
نعم، أولست أنا صديقك وأخاك؟
لورادان :
آه، إنما عدت من الأراضي المقدسة قصد التكفير عن ذنوب سلفت مني، أنظرت هذا القصر أمامك؟ قد سمعت أنه يخص الأمير فلافي، وإن كنت على ريب من ذلك فدموع المنكودي الحظ شواهد بينات تنبئك بالحقيقة. إنما لم تعلم كيف توصل الأمير فلافي للتسلط عليه، عندما أخبرتك عن اختلاف النصارى في فلسطين كاد الشرر يتطاير من عينيك، والآن لو كنت تعلم ما هو مخبأ وراء تلك الجدران المنيعة من الفظائع والشرور آه ... (صاحب الفندق يصغي جيدا.)
جرار :
قل، قل، ماذا ...؟
لورادان :
لا، لا، لو عرفت ذلك لابتعدت عني كما يبتعد عمن بلي بالبرص.
5
جرار :
أأنا أبتعد عنك؟! لا واسم الحق، إني لا أبتعد عنك مدى الحياة، ولا يفرقنا سوى الموت.
لورادان :
لا أدري ما الذي يدفعني رغما عني لأن أبثك سرا طالما كتمته بين ضلوعي، ولم أبح به لغير معلم الاعتراف، ولكني أخاف هنا الرقباء ومتجسسي الأخبار.
جرار :
وهل تخاف من هذا البايع الحقير؟!
لورادان :
إن نفسي قلقة، تجزع من كل شيء! ها إن الشمس قد قاربت المغيب، فلنخرج من هنا؛ لنستنشق الهواء.
صاحب الفندق (بسرعة) :
أتريدون السفر يا سادتي؟
جرار :
لا، سنعود إليك عندما يرخي الليل سدوله، هيئ لنا حجر المنامة؛ فسنقضي الليل هنا.
المشهد الثاني (صاحب الفندق وحده)
ظهر لي أن على أحدهما نذرا يريد وفاءه، وآثاما يرغب التكفير عنها، ولكن رابتني نظراته الخفيفة نحو القصر، وخوفه من كشفه الأسرار إلى رفيقه، فوالله إن وراء ذلك أمورا سرية ومؤامرات خبيثة، فيا لهما من جاهلين غبيين! أيجهلان أن هذا الفندق هو فخ مهيأ لكل زعماء القلاقل مثلهما؟! فكم من الفرسان الأبطال الذين يفوقونهما شجاعة ودهاء قد صبغت دماؤهم بلاطه! فلنذهب حالا ننبه أفكار الأمير ... أسمع وقع أقدام ... ها قد أقبل يصحبه خادمه.
المشهد الثالث (فلافي - رينالدي - صاحب الفندق)
فلافي (من وراء الحجاب) :
يا صاحب الفندق.
صاحب الفندق :
أمرك، سيدي.
فلافي :
هل أنت وحدك؟
صاحب الفندق :
نعم، سيدي.
فلافي :
لقد نظرت رجلين باللباس الأسود يتجولان حول القصر.
صاحب الفندق :
هل هما متقلدان سلاحا؟
فلافي :
نعم.
صاحب الفندق :
لقد خرجا منذ هنيهة من الفندق.
فلافي :
وهل يعودان إلى هنا؟
صاحب الفندق :
نعم، عما قليل.
فلافي :
حسن.
صاحب الفندق :
وهل ندعهما يخرجان؟
فلافي :
كلا.
صاحب الفندق :
فهمت ما تريد.
فلافي :
هل عرفت اسميهما؟
صاحب الفندق :
إن الأكبر سنا يدعى لورادان، وأما الآخر فما عرفت اسمه، وكلاهما من بلد كيان.
فلافي :
لورادان ... ما سمعت بكل حياتي مثل هذا الاسم.
صاحب الفندق :
ظهر لي أن الأصغر سنا عازم على الذهاب إلى الأماكن المقدسة، وأما الآخر فقد زايلها منذ قليل؛ قصد إيفاء نذر عليه.
فلافي :
وهل عرفت ما هو هذا النذر؟
صاحب الفندق :
لا، ولكنه يعلق عليه أهمية كبرى، وقد تكلم ملمحا إلى وجوب التكفير عن بعض ذنوب وفظايع مستترة، ثم خرج هو ورفيقه؛ مخافة أن يطلع أحد على سره.
فلافي :
وعند ذلك نظرته يبكي ويقرع صدره، ثم يختلس النظر إلى الأماكن غير المحصنة في القصر، ولما نظرته على هذه الحال اعتراني رعب شديد لم أدر له سببا؛ لأن كل ملامح هذا الفارس تشير إلى أنه عدو وزعيم مؤامرة. (يخرج صاحب الفندق حسب إشارة رينالدي.)
المشهد الرابع (فلافي - رينالدي)
رينالدي :
لم هذا الاضطراب سيدي؟ ... يخيل لي أن مخاوفك لا داع لها.
فلافي (يقاطعه) :
لا، لا، إن مخاوفي لفي موقعها.
رينالدي :
وما ترى يستطيع فعله أعداء بهذا الضعف.
فلافي :
إنهم يقدرون على أكثر مما تظن.
رينالدي :
مولاي، ممن تخاف؟ أنت مسلط على هذا القصر منذ اثنتي عشرة سنة.
فلافي :
نعم، ولكن هل تعلم كيف توصلت إلى ذلك؟
رينالدي :
لقد ساعدك الحظ.
فلافي (مضطربا) :
لا وأبيك، لا إنما توصلت إلى ذلك بارتكاب الشرور الفظيعة التي ترتعد لها الفرائص،
6
وما زلت أقترف الجرائم لأحفظ ما ملكته بالظلم، أفتترجى بعد ذلك أن تراني مطمئن البال خاليا من الهموم؟! آه يا رينالدي، ثم آه! ماذا كنت تصنع لو كنت مثلي رجلا شقيا يسمع شعبا بأسره يلعنه ويقبح أعماله؟!
رينالدي :
ألست أنا مثلك؟
فلافي :
لا، لست أنت سوى آلة أستخدمها لفعل الشر واقتراف الجرائم؛ فاللعنة تسقط علي وحدي.
رينالدي :
دع عنك، سيدي، هذه الأفكار.
فلافي :
لا تظن أنها ترعبني، ولكن من كان متوليا الأحكام على شعب كبير يخافه، يجب عليه أن يخاف الشعب كثيرا. والآن أرى أن أمرا جديدا أتى يعكر صفو حياتي.
رينالدي :
وما هو؟
فلافي :
أما تذكر ذلك المحبوس الصغير؟
رينالدي :
هل تخاف أن يطلع أحد على أسرارك العميقة؟! ليس من يعلم بها إلا أنت وأنا، أما الشعب فيعتقد أن وريث أمراء ليزينيه قد قضى نحبه منذ اثنتي عشرة سنة، ويخال له أنه حضر دفنه، وأما هذا الولد المسكين فهو منقطع عن العالم في حبسه الشديد الظلام، وأنا آخذ له سرا ما هو ضروري لقيام حياته، وفي كل القصر ليس من يعلم أنه باق بقيد الحياة.
فلافي :
أفهم ذلك جيدا، ولكنني لا أتمالك من الخوف منه، إني أخافه أكثر من الفلاحين، وأكثر من ملك فرنسا ذاته.
رينالدي :
ولماذا إذن لا ترضى بما عرضته عليك مرارا؛ فتستريح منه.
فلافي :
أأذعن لما تقول؟
رينالدي :
نعم، بدون إبطاء.
فلافي :
فهمت ما تريد، ولكن هل أقدر على ذلك؟! أما نظرت ذلك الخيال السري، ذلك الشبح الأبيض الذي يظهر بصورة سيدة بيضاء جليلة المطلع، فتحرسه من كل شر، وكلما أردت أن أرتكب جرما جديدا لأتخلص من قلقي الشديد، ينتصب هذا الشبح أمامي، ويرفع ذراعيه متهددا، ثم يزمزم بعض كلمات لا يمكنني فهمها؟! آه يا رينالدي! إن بغض البشر لا يهمني، ولا يخيفني، نظير ما تهمني وتخيفني رؤيتي الأشباح خارجة من القبور قاصدة افتراسي، ويلاه! إن ذلك عذاب لا يطاق احتماله.
رينالدي :
لا ترفع صوتك بهذا المقدار؛ لئلا يسمعنا أحد.
فلافي :
هل درى أحد بما نقول؟ انظر جيدا. الويل لمن سمع كلمة واحدة من كلامي!
رينالدي (يعود) :
إننا وحدنا، كن مطمئنا، ولكن لماذا تسلم ذاتك إلى ندم لا فائدة منه؟
فلافي :
لا تظن أن قلبي نادم، وما أقوله ما هو سوى ثمرة الحنق والغيظ. إني أتعذب كمن يحترق بنار الجحيم. (يسمع قرع جرس)
ما هذا الصوت؟
رينالدي :
لقد دنا الظلام.
فلافي :
قد قرب الوقت الذي يعود فيه الفرسان، أستودعك الله وأنا ملق على همتك المحافظة علي.
رينالدي :
كن هادئ البال من هذا القبيل.
فلافي :
أنا واثق بغيرتك ودهائك، موعدنا نصف الليل.
رينالدي :
نعم، نصف الليل (يخرج من باب سري) .
أعددت ألفي فلاح، وهم متقلدون السلاح ينتظرون إشارة مني حتى يهاجموا القصر.
جرار :
أما ترى مفيدا أن تتفق مع أحد ساكني القصر، فيكون لك أقوى عضد وقت الهجوم!
لورادان :
بلى، وقد علمت أكيدا أن بابيو - أحد جنودي القدماء - قائم الآن بخدمة الأمير فلافي؛ فهذا يكون لنا أكبر مساعد؛ لأنه شجاع باسل، وخادم أمين، ولكنه يجهل مجيئي إلى هنا.
جرار :
ومتى عزمت على تتميم مقصدك؟
لورادان :
إني أنتظر الفرصة المناسبة.
جرار :
إن بسالتك، أيها الفارس الخطير، وتضحيتك ذاتك لجديرة بالمدح الجزيل والثناء الجميل.
لورادان :
لا، لا، قد قلت لك: إن ما أعمله ما هو إلا كفارة عما سلف مني من الآثام.
جرار :
إني أشتهي كثيرا الاطلاع على حقيقة أسرارك، يلوح لي أنه قد جرى لك من الأمور أشدها، ومن العذابات أمرها.
لورادان :
نعم، طبع ذلك على جبيني، وليس بوسعي إنكاره. إنما ما الفائدة وأي لذة تجد بمعرفة مصائب رجل مجهول الاسم مثلي؟
جرار :
آه يا لورادان! لقد أهنتني ولم تدر؛ فهل أنت على ريب من خلوص مودتي وصدق إخائي؟!
لورادان (يمد إليه يده) :
لا، لا، يا سيدي، لقد وعدتك أن أبوح لك بسر مرعب، كدر صفو حياتي منذ اثنتي عشرة سنة، وعذب نفسي عذابات فادحة كادت تذهب بي إلى القبر! الأوفق أن أخبرك أولا عما جرى لي في سني حداثتي فأصغ إلي؛ في الخامسة عشرة من عمري خرجت من بيت أبي، وخدمت جنديا عند الأمير دي ليزينيه، وهناك تصادقت مع فلافي؛ ذلك الخائن الشرير. وفي الخامسة والعشرين من عمري لبست ثوب الفرسان وصحبت الأمير إلى مواقع عديدة، فاتفق في بعض الأيام أن خرجت مع فلافي وخادم يدعى رينالدي للتنزه في الحقل، فصادفنا رجلا يدعي معرفة الغيب، فمددت إليه يدي؛ ليطلعني على ما يحدث لي في مقبل حياتي، ولا أعلم إن كنت فعلت ذلك استهزاء به أم اعتقادا بخزعبلاته، وكذلك صنع رفيقاي، فتبصر الرجل قليلا، ثم قال: إن أحدكم سوف يكون أميرا والثاني جلادا، فسألته فورا: والثالث ماذا يكون؟ ففاه ببعض كلمات لم نستطع فهمها، ثم وجه نحو فلافي نظرة أسف وتوارى حالا، لا ريب أن هاته الحادثة تظهر لك عديمة الأهمية ولا علاقة لها بحديثي.
جرار :
لا، يا سيدي، إن كل ما هو متعلق بك يهمني كثيرا، فكمل حديثك.
لورادان :
ومنذ ذاك الوقت تغيرت أخلاق فلافي تغيرا تاما، وأصبح حائرا حزينا ، وما لبث أن بثني في أحد الأيام مكنونات صدره؛ وذلك أنه كان عازما أن يقتل الأمير ويحبس زوجته وولده في إحدى الصوامع، فتميزت غضبا لما سمعت منه هذا الكلام، ورفضت رفضا مطلقا الاشتراك معه بهذا العمل الجهنمي، أما هو فلم يقنط من انقيادي لأقواله، وعاودني مستجيرا بالوعد والوعيد، ولكن مساعيه ذهبت أدراج الرياح، فعزم حينئذ أن يسعى بضرري عند الأمير، فاتهمني بالخيانة وبذل جهده حتى طردت من القصر.
جرار :
يا للدناءة!
لورادان :
أما أنا فلم أطلع على دسائس هذا الشرير إلا متأخرا؛ لأنه كان يشي بي وهو يظهر لي الصداقة والحب، ويعرض علي المساعدة.
المشهد الخامس (رينالدي - صاحب الفندق)
رينالدي (لذاته) :
فلنتفكر كيف نتمم أوامر الأمير (يدق جرسا، يدخل صاحب الفندق فيسأله)
هل هيأت رجالك؟
صاحب الفندق :
نعم، سيدي.
رينالدي :
أدخلهم إلى هنا. (لذاته)
كم ينبغي للإنسان من العناء واقتراف الكبائر؛ ليحفظ مالا اقتناه بالظلم. (يدخل رينالدي ويتبعه رجلان تلوح عليهما علامات الإجرام.)
رينالدي :
أعددتما ما يلزم؟
القاتل :
نعم.
رينالدي :
في هذا الليل يلزم أن تفتكوا فتكا ذريعا.
القاتل الأول :
بمن؟
رينالدي :
بفارسين غريبين.
القاتل الأول :
في أي موضع هما؟
رينالدي :
هنا في هذه القاعة.
القاتل الأول :
وأي وقت؟
رينالدي :
نصف الليل (يخرج القاتلان) .
رينالدي :
لا ريب بأننا سنحظى بالفوز! يلزم أن تعطي هاته الحجرة إلى الفارس الأصغر سنا، وتلك إلى الأكبر سنا، وعند منتصف الليل إذ يكونان نائمين وعاريين من السلاح نهجم عليهما بوقت واحد؛ فلا يمكنهما أن يبديا أدنى مقاومة. أسمع طرقا على الباب، ها هما قد أقبلا ليقعا في أشراكنا، أهلا وسهلا بهما (يخرج، يدخل لورادان وجرار) .
المشهد السادس (لورادان - جرار - صاحب الفندق)
لورادان :
يا صاحب الفندق هل أعددت لنا الأسرة؟
صاحب الفندق :
نعم، سادتي، ها هي حجرتك، يا سيدي لورادان.
جرار :
وأنا؟
صاحب الفندق :
ها هي حجرتك.
لورادان :
حسن ...
صاحب الفندق :
تصبحون على خير، يا حضرة الفرسان (يخرج) . (يخرج صاحب الفندق ويترك لورادان وجرار جالسين.)
جرار :
إذن أنت ثابت على ما عزمت؟
لورادان :
نعم، ثابت مثل ذلك الصخر الذي كنا نتأمله منذ هنيهة، ولن تتزحزح أفكاري أبدا.
جرار :
ومن تراه يعضدك بهذه المهمة؟
لورادان :
إن الله - عز وجل - هو عون كل المظلومين، وأنت، يا حضرة الفارس، ستمد إلي يد المساعدة.
جرار :
نعم، وعدتك بذلك، وأنا قائم بوعدي إن شاء الله.
لورادان :
جازاك الله عني خيرا (يخفض صوته)
ثم أخبرك أيضا أني خرجت من القصر والحنق ورغبة الانتقام يغليان في صدري. ومن سوء الطالع أني التقيت بالأمير في صباح اليوم الثاني بينما كنت ذاهبا إلى الحقل، آه! ترتعد فرائصي كلما ذكرت ذلك اليوم المشئوم! فهجمت على الأمير وفتكت به سافكا دم بريء، ويا ليته كان سفك دمي أنا الشقي ... لقد علا وجهك الاصفرار، أيها الفارس الشهم، ولا عجب في ذلك، إن ذكر قبائحي أفسد الهواء الذي نستنشقه! العن العن هذا الشقي الذي يخاطبك، واهرب من رفقته هربك من الشيطان الرجيم.
جرار :
لا تقنط يا عزيزي؛ لأن الندامة الصادقة تمحو أقبح الذنوب وأكبر الجرائم.
لورادان :
أما فلافي فبلغ حينئذ متمناه، وأسرع فقتل الأميرة، ووضع يده على القصر.
جرار :
تبا له من خائن!
لورادان :
ولم يبق حيا من أصحاب القصر سوى ولد يبلغ من العمر خمس سنوات، وفي الغد قرعت الأجراس حزنا؛ داعية الناس إلى دفنه، فأصبح فلافي المالك الوحيد للقصر.
جرار :
ويل لهذا الشرير الأثيم! إن الدم البريء سوف يسقط على رأسه، ويجازى على ما قدمت يداه، وأنت ماذا صنع بك بعد ذلك؟
لورادان :
كما كان ينبغي لي أن أنتظر من رجل مثله تمرغ بحمأة المآثم؛ رجعت إلى القصر، ولكن تنجس الضمير أعدمني الراحة؛ فكل شيء كان يذكرني جرمي الفظيع، وأصبحت كمن يتقلب على الجمر، ففي أحد الأيام دعاني فلافي للتنزه في محل منفرد، فذهبنا سوية إلى ضفة نهر الدورا الذي يجري قرب أسوار القصر، وكانت قد فاضت مياهه في ذلك الفصل ... لماذا ظهرت عليك علائم الحزن؟
جرار :
إن اسم هذا النهر يثير في قلبي شعائر الحزن ويوقظ في ذهني تذكرات مؤلمة؛ لأن أخي قد هلك في مياهه المشئومة.
لورادان :
رحم الله نفسه، ولنرجع إلى حديثنا: ومن ثم ركبت أنا وفلافي زورقا، ولم نكد نصل إلى منتصف النهر حتى استل خنجرا وطعنني به ثلاث مرات، فغشي علي، وظن أني مت فطرحني في النهر، ولكن الله حفظ حياتي بمعجزة من رحمته، وعقيب ذلك ببضع ساعات أفقت من غشيتي، فإذا أنا في خيمة حقيرة يقطنها بعض الفلاحين، فاعتنوا بي مثل أخ لهم، ولما شفيت جراحاتي ذهبت توا إلى الأراضي المقدسة.
جرار :
يا له من اتفاق غريب، منذ كم سنة جرت هاته الحادثة؟
لورادان :
منذ عشر سنوات يا سيدي.
جرار :
وما هو اسمك؟
لورادان :
قد قلت لك إن اسمي لورادان ...
جرار :
يا خيبة الأمل!
لورادان :
إنما هذا الاسم قد انتحلته منذ زمن يسير، أما اسمي الحقيقي فهو جان دي زاردوان.
جرار :
جان دي زاردوان! أخي وحبيب قلبي، أنا أخوك جرار دي زاردوان.
لورادان :
أخي حبيبي! (يعانقه)
أنت أخي جرار! شيء سري كان يجذبني نحوك! أخي الحبيب، هل والدنا باق بقيد الحياة؟
جرار :
نعم، فقد حفظ الله حياته حتى يراك ويمنحك بركته الأخيرة.
لورادان :
آه، يا أخي الحبيب! لست أهلا لذلك.
جرار :
بلى، يجب أن نذهب سريعا ولنطلب من الله ألا يموت والدنا فرحا لما يراك.
لورادان :
لقد أقسمت، يا عزيزي، بأني لا أعانق والدي ولا أترك سلاحي ولا أذوق خمرا ولا مسكرا، قبل أن أفي نذري وأكفر عن ذنوبي.
جرار :
لماذا تتأخر إذن عن إيفائه؟! غدا إن شئت أو هذا اليوم، وأنا بانتظار إشارتك، ولست أسألك إلا أن ترسلني إلى المكان الأشد خطرا.
لورادان :
لا، إن ذلك المكان أستبقيه لذاتي. (يصرخ المنادي في الخارج):
قد دنت الساعة الحادية عشرة، السماء صاحية والليل صاف.
يا أهالي مانبرن، ارقدوا بسلام.
لورادان :
يلزمنا أن ننهض في الغد باكرا وعندنا من القوة والنشاط ما يخولنا تتميم رغائبنا، فلنرقد إذن حتى نريح جسمينا؛ لأنه قد مضى الآن هزيع
7
من الليل.
أستودعك الله يا أخي العزيز.
جرار :
أستودعك الله.
المشهد السابع (يظلم المرسح. لورادان واقفا على حافة المرسح)
لورادان :
رباه، سألتك أن تهبني فرصة مناسبة؛ لأفي نذري، فها قد فاضت رحمتك علي ورددت لي أخي. ليكن اسمك مباركا! ساعدني اللهم ووفق مساعي؛ علني أجد باقيا بقيد الحياة أحد ورثة الأمير ليزينيه ... (يظهر شبح أبيض في داخل المرسح، ويقترب من الطاولة، ويكتب قليلا ثم يتوارى.)
لورادان (يصرخ) :
هل أنا في حلم؟! لا ... ما هذا الشبح الذي نظرته اقترب من الطاولة؟! فقد نظرته يكتب ... (يركض نحو الطاولة، يأخذ ورقة ويقرأ): «إن ولد الأمير ليزينيه الذي تظنه مات لم يزل باقيا بقيد الحياة، وهو يئن مكبلا بالحديد في أحد سجون القصر المظلمة، عليك أن تنجيه؛ إذ بإنقاذك الابن تكفر عن قتلك أباه.»
ابن الأمير باق بقيد الحياة! فدفنه إذن لم يكن سوى حيلة من فلافي ... جرار! جرار!
المشهد الثامن (لورادان - جرار)
لورادان :
أخي، أخي، أما نظرت شيئا؟
جرار (منذهلا) :
أخي، ماذا جرى لك؟!
لورادان :
اقرأ.
جرار :
من أين أتتك هذه الورقة؟ (يقرأ سرا.)
لورادان :
ثوبا ناصع البياض، ولا أعلم فيما إذا كان ملاكه الحارس أم أحد القديسين شفعائه؟
جرار (يرفع صوته) :
أنتم محاطون بأناس قتلة! أسرعوا بالهرب.
لورادان (ينظر الورقة) :
ما قرأت هذا السطر، ولا وقعت عيني عليه!
جرار :
ذلك وحي من الله.
لورادان :
فلنسرع بالهرب، غير أن الأبواب مقفلة.
جرار :
إذن لنستعد للدفاع ... يا صاحب الفندق.
صاحب الفندق :
ماذا تأمرون، سادتي؟
جرار :
نريد السفر، افتح لنا الباب.
صاحب الفندق :
أتسافرون بهذا الليل المظلم بعد قرع جرس المساء؟
جرار :
أسرع، افتح الباب.
صاحب الفندق :
ولكن، سيدي.
جرار (يستل سيفه) :
افتحه وإلا ... (يذهب صاحب الفندق يفتح الباب)
خذ أجرتك (يخرج جرار ولورادان) .
صاحب الفندق (لذاته) :
خابت مساعينا.
لقد نجيا، ولكنهما لا يسلمان طويلا، فلنذهب ونخبر رينالدي بما جرى.
الفصل الثاني
(المرسح يمثل قاعة ذات منظر مظلم ومرعب، لها أبواب كثيرة وسلاسل معلقة بالحائط.)
المشهد الأول (رينالدي - بابيو)
رينالدي :
هل تهيأت للسفر؟
بابيو :
نعم، سيدي، والجنود مدججة بالسلاح، قد اجتمعت بالساحة تنتظرني، وأنا أنتظر أمركم.
رينالدي :
إني ملق إليك أمرا كثير الأهمية ، وربما فيه خطر عليك.
بابيو :
ذلك ما أرغبه، سيدي؛ فلا أخفي عنك أن نفسي سئمت من المحافظة على أبواب السجون، ومن كان مثلي حارب عشر سنوات في بلد فلسطين وشهد حصار مدينة عكا، لا يتأخر عن الخوض في أشد المعامع خطرا وأعظمها هولا.
رينالدي :
لقد وصل البارحة إلى قرية مانبرت فارسان صليبيان.
بابيو :
أظن أني نظرتهما يجولان حول القصر.
رينالدي :
نعم، نعم، هما بعينهما، فيجب أن نلقي القبض عليهما.
بابيو :
هذا يكفي، وما هو اسماهما؟
رينالدي :
إن الأكبر سنا منهما يدعى لورادان، وأما الأصغر فلا أعلم. أسمع وقع أقدام في حجرة الأمير. أستودعك الله ...
المشهد الثاني (بابيو لذاته)
لورادان! أما هو ذلك الفارس البطل الذي طالما أوقع الرعب في قلوب الكفرة؟ ذلك الشهم الذي خدمت عنده، والذي خاطر بنفسه أمام أسوار عكا حتى أنقذ حياتي! بالحقيقة، البارحة - رغما عن الظلام - توسمت بذلك الفارس القريب بعض ملامحه، وأنا الذي يبغي رينالدي أن أقبض عليه! لا، لا، لن يصل بي نكران الجميل إلى هذا الحد، فليكلف غيري بهذه المهمة الدنية ... ولكن ربما يرسل غيري فيقبض عليه! كيف العمل؟ ... ها قد أقبل الأمير فلنخرج (يخرج).
المشهد الثالث (فلافي - رينالدي)
فلافي :
لقد سلما!
رينالدي :
نعم، سيدي، لقد نجيا في الوقت الذي كادا يقعان به بين أيدينا.
فلافي (متهددا) :
لو لم أكن على ثقة من دهائك لكنت ...
رينالدي :
مولاي، لو كان الشيطان ذاته في موقفنا الحرج لكان أفشل؛ وذلك لأنه عند منتصف الليل بينما كنا نتهيأ للهجوم عليهما والرجال منتظرة إشارتي، وإذا هما يناديان بشدة، فأسرع صاحب الفندق نحوهما حتى لا يدع سبيلا للريب، فطلبا إليه أن يفتح الباب، ولما تأخر قليلا اتهماه بالخيانة، وتهدداه بالقتل إن لم يلب طلبهما في الحال. فكيف العمل إذن؟ ...
فلافي :
أما تعلم ما كان يجب أن تفعلوا؟
رينالدي :
إن صاحب الفندق كان وحده، ولم يكن معه شيء من السلاح، وزد على ذلك أنه لم يكن مناسبا الهجوم عليهما في ذلك الوقت؛ لأن صراخهما ربما كان أوقظ المجاورين، وسبب هياجا عظيما.
فلافي :
إن نفسي مضطربة اضطرابا عظيما، ما شعرت به كل أيام حياتي، ورغبة في أن أهمد قلقي؛ تصفحت تاريخ حياتي الماضية، ولا يفوتك أني اعتدت أن أكتب كل ما يحدث لي يوميا، فوقعت صدفة على هاته الصفحة.
رينالدي (يقرأ) :
في الثاني والعشرين من أيار سنة 1163 مسيحية، خرجت للتنزه في الحقل مع جان دي زاردوان وخادمي رينالدي، فما ابتعدنا قليلا عن القصر حتى صادفنا رجلا من الذين يدعون معرفة المستقبل، فسألناه أن يتكهن لنا، فقال: إن واحدا منكم سيكون أميرا والآخر جلادا، ثم تلفظ ببعض كلمات لم نستطع فهمها، وتوارى بغتة بعد أن نظر إلي نظرة متأسف.
فلافي :
لقد صح تكهنه؛ قد صرت أميرا وأنت الجلاد عندي، ولكن تلك الكلمات غير المفهومة وتلك النظرة الآسفة هذه كلها أسرار لا أفهمها.
رينالدي :
وما الذي يخيفك، سيدي؟ إن جان قد هلك منذ إحدى عشرة سنة.
فلافي :
لقد كان جان شابا مقلقا، فالتزمت أن أستدرك أمره.
رينالدي :
لقد صنعت حسنا.
فلافي :
وهل هدأت الخواطر؟
رينالدي :
نعم، سيدي، سوى أن الفلاحين ما زالوا يتذمرون في قلوبهم.
فلافي :
هل هم يتذمرون حتى الآن؟
رينالدي :
نعم، إنهم يئنون من الضرائب الجائرة التي ما عاد يمكنهم تحملها، ومن ظلم العمال؛ فالوقت صعب، وهم يلاقون من العذاب ألوانا.
فلافي :
ذلك خير لهم؛ فالعذاب يكرههم على الطاعة والانقياد. (يدخل أحد الحرس مقاطعا.)
الحارس :
إن راهبا يطلب مواجهة سيدي الأمير.
فلافي :
هل عرفت من هو؟
الحرس :
لا، يا سيدي.
فلافي :
اذهب، يا رينالدي، واستطلع لنا الخبر (يخرج رينالدي والحرس، ويبقى فلافي وحده) .
فلافي :
اعتراني اليوم حزن شديد أنهك قواي، ولست أدري له سببا؛ فالسماء صاحية والشمس تزهو حسنا في القبة الزرقاء، والحقول تردت بأبهى حللها، ولكن في هذه الحقول النضرة أرى الغلال تدوسها أقدام جنودي البرابرة! أرى شعبا يكاد يهلك جوعا من عظم جوري، وهو يلعنني، ولا يتمنى سوى هلاكي! آه ما هذا العذاب! (يستند إلى النافذة ويثبت متحيرا. يدخل رينالدي.)
فلافي (إلى رينالدي وهو داخل) :
ما وراءك؟
رينالدي (فرحا ) :
إن هذا الراهب المملوء وقارا ما هو سوى الفارس لورادان.
فلافي :
أصحيح ما تقوله؟
رينالدي :
نعم، سيدي، قد عرفته رغما عن لحيته المستعارة وثوبه الطويل.
فلافي :
وهل يطلب أن يراني؟
رينالدي :
نعم، سيدي.
فلافي :
دعه يدخل. (يخرج رينالدي، ويبقى فلافي وحده.)
فلافي :
لقد كنت أسرعت بالخوف والحزن؛ فقد ساعدني الحظ ونجوت من مخاوفي، ولكن ما الذي دفع هذا الفارس الغريب للدخول إلى قصري؟ وما باله انتحل هاته الملابس الغريبة؟ أتراه صديقا لي؟ لا، لا، من أين لي الأصدقاء؟ لا أظنه سوى جاسوس أو لص يروم الفتك بي.
المشهد الرابع (فلافي - رينالدي - لورادان (مرتديا ثوب راهب))
لورادان :
حفظك الله، أيها الأمير الكريم، إني راهب مسكين من جمعية القديس مارك، ذاهب إلى الأراضي المقدسة، فأسألك أن تضيفني هذا المساء في قصرك.
فلافي :
أهلا وسهلا بك، يا أبانا، عما قريب نهيئ لك حجرة.
لورادان :
جزاك الله عني خيرا، يا حضرة الأمير.
فلافي :
إني أسر كثيرا بإضافة الرهبان من جمعيتكم.
لورادان (لذاته) :
لقد نجح سعينا، فالحمد لله.
فلافي :
أأنت عائد من الأراضي المقدسة؟
لورادان :
لا، بل أنا ذاهب إليها.
فلافي :
لقد أسأت الفهم إذن، قلت: إنك كنت مع المحاربين في زحفة سابقة.
لورادان :
لا، يا سيدي، لم تعلم الخبر الصحيح.
فلافي :
بلى، بلى، إنك كنت لابسا في الأمس ثوبا غير هذا، فأريد أن أدعو خدمي وجنودي؛ لأنهم يسرون كثيرا باستماع أخبار الحروب.
لورادان :
وماذا يستطيع راهب مسكين مثلي أن يقول لكم، سوى أن يحضكم على خوف الله ومحبة القريب؟!
فلافي :
لست أجهل واجباتي، يا حضرة الأب، ولكن لماذا تواري الحقيقة؟ يظهر جليا أنك لم تكن أولا راهبا ...
لورادان :
مولاي ...
فلافي (يقاطعه) :
لن يجديك النكران نفعا؛ فإنه مطبوع على صفحات وجهك أنك تقلدت السلاح وجرعت كأس المنون غدرا عديدا من الأعداء.
لورادان :
نعم، سيدي، لا سبيل لأن أخفي عليك أمري؛ فإني قبل أن ألبس الزي الرهباني، وأخدم يسوع المسيح، لقد خدمت أمراء هذا العالم.
فلافي (لذاته) :
ما قاله رينالدي هو حقيقي.
لورادان (لذاته) :
هل يعرفني يا ترى؟
فلافي :
في أي بلد قضيت زمن حداثتك؟
لورادان :
في إيطاليا.
فلافي :
ليس ذلك صحيحا، أنت إفرنسي، تدل على ذلك ملامح وجهك.
لورادان :
ولكن، يا سيدي ...
فلافي :
لا، لا، أنت ولدت في بلد كايان.
لورادان (لذاته) :
يا لله!
فلافي :
وما هو اسمك؟
لورادان :
الأب أسطفان.
فلافي :
بل أنت الفارس لورادان.
لورادان :
أنت عارف بكل شيء! نعم، أنا الفارس لورادان، وما اتخذت هذا الثوب إلا ...
فلافي (يقاطعه) :
حتى لا تخيفني ...
لورادان :
حتى أحظى بالقبول في قصرك.
فلافي :
لا يفوتك تقواي العميق واحترامي للقسوس، ولكن هذا التنكر ما كان ليجديك نفعا؛ فإني أحب كثيرا الفرسان الأبطال، وخصوصا الذين يأتون ليفوا نذورهم ويستعدوا للقتال، والذين يتجسسون قصري.
لورادان (لذاته) :
يا للخيانة!
فلافي :
هل توافقك هاته الحجرة؟
لورادان :
ولكن، سيدي.
فلافي :
إن الأبواب حريزة، وسوف تتحقق ذلك، اقفل جيدا يا رينالدي جميع هؤلاء الأبواب: هيئ أثقل ما يوجد من السلاسل وحافظ على هذا الأسير أشد المحافظة؛ لأنك مطالب به! أستودعك الله، يا حضرة الأب! (فلافي ورينالدي يخرجان ويبقى لورادان وحده.)
لورادان :
لقد خدعت بئس الخديعة! إن صاحب الفندق هو معاون الأمير، ولكنهم لم يعرفوني بعد، يجهلون أن لورادان ما هو سوى البارون جان دي زاردوان، ويجهلون أن الله - عز وجل - وجهني لأعاقب أولي الفظائع وأنقذ الأبرياء ... تبا لك يا فلافي! لقد وقعت بين يديك، ولكن سوف ترى ما يورثه لك حبسي من التعب والغم (يخلع الثوب الرهباني ويظهر بسلاحه الأبيض) .
المشهد الخامس (لورادان - بابيو (حاملا القيود والسلاسل))
بابيو (يقف بالباب باحترام) :
السلام عليك، أيها الفارس لورادان.
لورادان :
من أنت؟
بابيو :
هل نسيت بابيو، خادمك القديم وجنديك الذي خاطرت بنفسك لإنقاذ حياته أمام أسوار عكا؟
لورادان :
أذكر جيدا أنه كان بين جنودي من يدعى بهذا الاسم، ولكن لم أخاله متصفا بهاته الدناءة حتى يتولى محافظة السجون عند الأمير فلافي.
بابيو :
أنت مصيب بما توجهه إلي من اللوم، ولكن الضرورة قادتني إلى هاته المهنة، ولم أبق هنا واسم الله إلا شفقة على المنكودي الحظ الذين يقعون بفخاخ الأمير، فقد توفقت لمساعدة بعض التعساء سرا، وعله يسعدني الحظ بأن أخدمك، وأفي ولو جزءا مما لك علي من الأيادي البيضاء.
لورادان :
هل بقيت صادقا أبي النفس مثلما كنت سابقا؟
بابيو :
لو بادرني سواك بمثل هذا السؤال، لما تركت سوى هذا الحسام يجاوب عني (يضع يده على قبضة سيفه) .
لورادان :
اسمع إذن، من حيث إني نجيتك من الموت وتريد أن تقابل معروفي بالإحسان؛ فأطلب إليك أن توصلني هذا المساء إلى حجرة الأمير.
بابيو :
لقد فهمت مقصدك يا سيدي، ولكن هل يستطاع ذلك؟
الأجدر بنا أن نسعى بإنقاذك سريعا، نعم، إني أعرض نفسي لهلاك أكيد، إنما أكون قمت بوفاء الجميل.
لورادان :
وهل تعرف وسيلة لنجاتي؟
بابيو :
نعم، سيدي، يوجد سرداب طويل، يقود من الحجرة الأولى في القصر إلى الفندق الأسود.
لورادان (لذاته) :
اتضح الأمر (يرفع صوته)
وماذا نصنع؟
بابيو :
إن الأمير ورينالدي يحفظان معهما مفاتيح هذا السرداب ... فإذا أخذنا أثواب رينالدي ... ما تقول؟
لورادان (يقاطعه) :
لا، لا أهرق دما أبدا ...
بابيو :
أنت لا تلطخ يديك، يا سيدي، أنا أفعل هذا الأمر.
لورادان :
لا، ما عدت أريد الخروج من سجني.
بابيو :
بلى، يجب أن تنجو بذاتك سريعا، لا تعلم في أي مكان أنت موجود الآن؛ فاسم هاته الحجرة وحده ترتعد له الفرائص جزعا، فهي تدعى قاعة الموت؛ وذلك لأن فلافي عندما يريد التخلص خفية من أحد أعدائه يحبسه نظيرك في هذا السجن، انظر هذه الأبواب، إنها تشرف على وهدة عميقة يبلغ عمقها ماية قدم، وفي أسفلها يجري نهر عظيم. (يفتح أحد الأبواب السرية)
أسمعته يتدفق متحطما على الصخور؟
لورادان :
يا له من منظر مرعب!
بابيو :
إن هذه الوهدة لا تبعد عني سوى ثلاثة أقدام، فمتى دخل الأسير إلى هذا السجن يعثر بالظلام ويخطو بعض خطوات فتزل قدمه، وهناك يصرخ صراخا يفتت الأكباد ويتوارى إلى الأبد.
لورادان :
يا لها من فظائع بربرية!
بابيو :
ومع ذلك تريد أن تبقى هنا؟
لورادان :
دعني هنا! وإذا كنت تريد أن تصنع معي إحسانا فإني أسألك أمرا واحدا، هو أن تنقذ من يد الأمير شخصا آخر سواي، وهو ولد حدث السن حبس في سجون القصر المظلمة منذ طفولته، وهو يئن هناك من الظلم والعذاب منذ عشر سنوات، فهذا هو الشخص الوحيد الذي أبغي أن أفتديه بحياتي.
بابيو :
لا أفهم ما تريد، يا سيدي الفارس.
لورادان :
ألا تعلم أن الوريث الوحيد الباقي من أصل الأمير ليزنيه هو محبوس في هذا القصر؟
بابيو :
لا، لست أعلم ذلك مطلقا، وربما ذلك سر أخفاه فلافي عني.
لورادان :
لقد أغلقت أبواب الفرج في وجهي، ومع ذلك أنا صابر على ما يحل بي ... ولماذا هذه السلاسل؟
بابيو :
وا أسفاه، يا سيدي لورادان!
لورادان (يمد يديه) :
تمم ما أمرت به.
بابيو :
هل أقيد سيدي؟! (يطرح السلاسل)
لن يكون هذا أبدا.
لورادان :
بلى، أنا آمرك به، أسرع حتى لا ندع سبيلا للريب، عد إلى هنا بعد بضع ساعات؛ عله يفتح لنا باب رجاء.
بابيو :
أنا أفعل طاعة لأمرك، ولكن لا يطلع الصباح إلا وأنت حر وأنا بين الأموات!
المشهد السادس (لورادان مكبل بالقيود)
نفق يؤدي إلى الفندق الأسود، تعسا لك يا فلافي! ما أكثر حيلك وأشد دهاءك! وهل لنا أن ننتفع بهذا النفق! آه لو كان جرار يدري ذلك! لكان يدخل بهذا النفق بينما يحاصر الفلاحون القصر، ولكن ما الفائدة؛ فالوريث الوحيد قد أمسى في عالم الأموات، ولم يعد له من أثر ... وما نظرته البارحة أتراه أضغاث أحلام ... لا، إني نظرت حقيقة ذلك الشبح الأبيض يتقدم نحو الطاولة، وقد كتب بعض كلمات، وقد قرأت تلك الكلمات، وقرأها جرار أيضا ... فهل تخرج الأموات من القبور لتخدع الأحياء ... اللهم، يا من تقرأ خفيات القلوب، ولا يغرب شيء عن باصرتك، أنت تعلم أني لا أبغي سوى أمر واحد؛ هو وفاء نذري، والتكفير عن ذنبي، فها إني أقدم لك دمي حتى آخر قطرة، وأسألك أن تنقذ ذلك الفتى المنكود الحظ من العذاب، وترده إلى ميراث أجداده! (يظلم المرسح، يظهر الشبح الأبيض وهو يقتاد ولدا، ينظر في لورادان، يريه الولد، ثم يشير إلى السماء ويتوارى.)
المشهد السابع (لورادان - روبر دي ليزينيه) (ينير المرسح.)
روبر :
أين أنا! ما هذا النور اللطيف المحيط بي؟ هل دنا يا ترى زمن إطلاق سبيلي؟ أم أنا في منام؟ من أنت، يا سيدي؟
لورادان (يجثو على ركبتيه) :
أنا هو الفارس لورادان، خادمك والمدافع عنك، والمستعد لهرق آخر نقطة من دمه في سبيل نجاتك.
روبر :
يا له من منظر حنون! يا له من صوت عذب! يا لها من سعادة لم أشعر بها بما مر من حياتي!
لورادان :
أما كنت ترى أحدا أبدا، يا سيدي؟
روبر :
إني سجين منكود الحظ، أودعت القبر حيا، ولا أرى بشرا أبدا سوى أني في بعض الأيام أرى من بين حديد سجني رجلا عليه ملامح الشراسة والظلم، فأصرخ نحوه مستغيثا، ولكنه لا يجاوبني أبدا.
لورادان :
وكم لك من الزمان في هاته الحالة؟
روبر :
لست أدري؛ لأنه لا يمكني أن أميز بين الليل والنهار، ولولا معرفتي أنني صغير لكنت أظن أنه قد مضت علي أجيال وأنا داخل سجني.
لورادان :
واحزناه عليك!
روبر :
لقد تأثرت، يا حضرة الفارس، فيظهر لي أنك تندب حظي! آه إن رأفتك بي سببت لي عزاء جميلا.
لورادان :
ومن الذي يقدم لك قوتك اليومي؟
روبر :
إن رجلا أجهل اسمه يفتح كوة في سقف سجني، ويرسل لي من هناك قليلا من الماء والخبز اليابس، ولكن في غالب الأيام ينساني، ولا يرسل لي شيئا فأبيت أتضور جوعا.
لورادان :
وماذا تصنع حينئذ؟
روبر :
كنت أجثو على ركبتي وأصلي.
لورادان :
لا غرو، إنك كنت تلعن كثيرا الذين كنت تقاسي من جورهم مثل هذه العذابات.
روبر :
لا يا سيدي، لا أعرف اللعن، لا يخالج قلبي سوى المحبة والشفقة نحو كل البشر. لما كنت أسمع وقع أقدام في الممر المجاور سجني، كنت أهتز طربا، آه كم كنت أشتهي أن أمد ذراعي نحو الشخص المار، وأن أعانقه، وأن أضم يديه مثلما أضم يديك! إن هذه السلاسل في غاية الضخامة! أما تهشم ذراعيك؟
لورادان :
لا، إني تعودت العذابات حتى استهونتها.
روبر :
ولماذا تبكي؟
لورادان :
إن كلامك قد أثر في أشد التأثير، وجرح فؤادي.
روبر :
آه، ليتك تعلم كم ذرفت من الدموع عندما كنت أقاسي أهوالا من الجوع والعطش والبرد، وغير ذلك من العذابات المتنوعة.
لورادان :
ولداه! أو لم يكن من يسليك ويمسح عبرتك؟
روبر :
لا، ما كان يفكر بي سوى سيدة لابسة ثوبا أبيض كانت تنزل إلى سجني وتلطف أحزاني، وتسكن أشجاني بمنظرها الحنون وكلامها العذب، فكانت تدعوني ولدها الحبيب، وتظهر لي حبا شديدا، آه كم كنت سعيدا بالقرب منها!
لورادان :
وهل تمكنت من معرفتها من هي؟
روبر :
لا؛ لأنها كانت تغطي وجهها بقناع أبيض، ولكن قلبي كان يصبو إليها كثيرا، ولا غرو؛ فهي أمي، ومنذ قليل كنت في غاية الضيق والحزن فدعوتها مستغيثا، فإذا هي داخلة إلى سجني، وبإشارة منها فتح الباب، واقتادتني إلى هذا المكان بالقرب منك.
لورادان :
وهل تذكر كيف طرحت في سجون القصر المظلمة؟
روبر :
لست أتذكر ذلك جليا؛ لأني كنت حدث السن جدا، سوى أني أذكر أن أبي فقد فجأة، ولم يعرف له أثر بعد ذلك، وترك أمي في أشد الحزن وأمر العذاب، وليلة سمعت أمي تصرخ صراخا يفتت الأكباد وكان صوتها يتقطع قليلا قليلا، فقفزت من سريري، وركضت نحوها؛ علي أستطيع أن أساعدها، فالتقاني أربعة رجال مستتري الوجوه، وقبضوا علي، وطرحوني في ذلك السجن المظلم، وهذا ما جرى لي.
لورادان :
تبا لك يا فلافي من ظالم بربري!
روبر :
فلافي! إن أحد الحرس عند والدي كان يدعى بهذا الاسم، وكنت أكرهه جدا؛ لأنه كان ذا ملامح شريرة، وكنت أحب كثيرا صديقه الشريف البارون جان دي زاردوان ... ما هذا الاضطراب، يا سيدي؟
لورادان :
لست أضطرب يا ولدي، ولكن يحدث أحيانا ما يثير بي تذكرات قديمة ينتفض لها القلب.
روبر :
ألا تعلم، يا سيدي، ماذا حدث لأبي؟ وهل عاد إلى قصره؟ ولماذا يبقيني بعيدا عنه هكذا؟
لورادان :
آه! يا سيدي!
روبر :
ليتك تعلم، يا سيدي، كم أحب والدي؟!
لورادان :
ارحمني، ارحمني يا سيدي.
روبر :
وأبي كان يحبني جدا.
لورادان (يسقط على ركبتيه) :
ارفق بي، أشفق علي ...
روبر :
لورادان، ماذا تعمل؟
لورادان :
لقد صرعت فؤادي، لا تكلمني عن والدك.
روبر :
سكن روعك، إني أحبك كثيرا، وتعلق قلبي بك، ألا تسمح لي بأن أتبعك؟
لورادان :
أتريد أن تتبعني؟ أما تراني مسجونا مكبلا بالقيود؟
روبر :
نعم، أبقى معك، ونسلي بعضنا بعضا في مصائبنا، وتلك السيدة البيضاء تأتي وتزورنا من يوم إلى آخر، هنا يمكني أن أتمتع بمرأى السماء وبهجتها! يا الله! ما هذا الجمال! ما هذه العظمة ... إني أنشق ملء صدري هواء نقيا منعشا (يركض نحو النافذة) .
لورادان :
ماذا تعمل يا سيدي؟ أما تخاف أن يراك أحد؟
روبر :
وما الذي يخيفنا؟
لورادان :
إذا لمحك أحد هنا، فإنا نهلك لا محالة، تعال من أمام هذه النافذة.
روبر :
أنا أخضع لما تأمرني به رغما عما بي من الشوق للتمتع بهذا المنظر البديع الجمال، آه يا ليتني مثل الأطيار التي تبني أعشاشها على شرفات القصر، وتذهب حيث تشاء، ما لك، يا لورادان؟
لورادان :
إني أسمع طرق أقدام، فها إن رجلا ما آت إلينا وهو يعالج الباب حتى يفتحه ... ما العمل؟ (يقف متحيرا)
إلهي، ألهمني كيف أتخلص من هذا الخطر! اتبعني يا ولدي (يفتح الباب المشرف على الوهدة) ، أنت على شفير وهدة عميقة لا يبعد فاها عنك سوى ثلاثة أقدام، فلا تبدي أدنى حركة، وسأعود بعد هنيهة فأخلصك، فلتحرسك عين المولى، يا ولدي العزيز.
المشهد الثامن (لورادان - فلافي)
فلافي (متهكما) :
أراك خلعت الزي الرهباني، يا حضرة الأب.
لورادان :
نعم سيدي، لقد ورد في المثل أن الملبوس لا يصير قسوس.
فلافي :
كيف نظرت منزلك الجديد؟
لورادان :
في غاية الجودة، وسأعود إليه عما قريب.
فلافي :
وهل تؤمل أنك تخرج منه؟
لورادان :
نعم سيدي.
فلافي :
ليس ذلك بأمر سهل.
لورادان :
ربما، غير أني أخبرك الآن أني كنت بانتظارك.
فلافي :
لماذا كنت تنتظرني؟
لورادان :
إني قلت بنفسي: إن فلافي ليس بقاس ظالم، ولكنه كثير التحسب، وهو يهتم كثيرا باكتشاف مؤامرة جديدة ضده؛ ولذلك لا أراه يقتل أحد أسراه قبل أن يفرغ جهده للاطلاع على أسراره.
فلافي :
لقد أصبت مقصدي، كن صادقا، وأنا أعاملك بالرحمة.
لورادان :
لا، لست أرجو ذلك؛ لأنك لم تعرف ما هي الرحمة كل حياتك.
فلافي :
لورادان، اصدقني الخبر، ما الذي دفعك لزيارة قصري وتجسسه؟
لورادان :
لم يدفعني سوى رغبتي بإنقاذ البلاد التي تحكمها من ربقة العبودية.
فلافي (بغضب) :
لورادان، لماذا تهينني؟
لورادان (بهدوء) :
أمرتني أن أكون صادقا، فأطعت أوامرك.
فلافي :
يحق لي إذن أن أفعل بك ما أريد.
لورادان :
ومن يجترئ أن يمنعك عن ذلك؟! يمكنك في الحال أن تدعو جلادا، فيقذفني في هاته الوهدة المنفتحة تحت قدمي! لقد شاهدت الموت عيانا، فامتقع لوني لشدة الروع، والآن عندي سر لا بد من إظهاره لك، فهل لك أن تسمع لي برهة من الزمن؟
فلافي :
فه بما بدا لك.
لورادان :
منذ خمس عشرة سنة عاش في قصر الأمير دي ليزينيه رجلان، تجمعهما أوثق عرى الصداقة؛ أما أحدهما فكان يدعى فلافي، والآخر جان دي زاردوان.
فلافي (لذاته) :
وما يريد بهذا؟
لورادان :
إن فلافي صار أمير مانبرن، ولكن جان ماذا حدث له؟
فلافي :
وما يعنيك ذلك؟
لورادان :
كن صادقا مثلي.
فلافي :
إن جان قد مات.
لورادان :
وا أسفاه على شبابه! ... لقد خدم أفكارك مرارا عديدة، وكان نعم الصديق، أتذكر ذلك اليوم الذي أخذ فيه يناصرك، وخاض معمعة البراز مع الأمير هارمان مخاطرا بنفسه لإنقاذ حياتك؟
فلافي :
نعم، أذكر ذلك ولا أنساه.
لورادان :
لقد عمل ما تقتضيه شهامة الأبطال، وهل تذكر أيضا ذلك اليوم الذي التقيت فيه بأحد العرافين، وتنبأ لك أنك ستكون يوما ما أمير مانبرن؟
فلافي :
لورادان، ما تقول!
لورادان :
لم يكن يعوقك عن بلوغ مأربك سوى شيء واحد هو الأمير ليزينيه، فيد أثيمة فتكت سرا بهذا الشريف المنكود الحظ، وهاته اليد الأثيمة هل لك معرفتها؟!
فلافي :
اصمت أيها الوغد!
لورادان :
لا تضطرب، إني فيما وعدتك به؛ وعدتك بأن أبث لك سرا في غاية الأهمية، فأصغ لي هنيهة. في الغد قتل الأمير واختفت زوجته وولدها، ذلك ما كان يتوقع ... ولكن جان صديقك وعلة ارتفاعك الذي غمرك بإحسانه، ماذا حدث له يا ترى؟
فلافي :
لقد قلت لك: إنه مات.
لورادان :
وما تقول إذا أثبت لك أن جان - الذي تحسبه قد مات منذ اثنتي عشرة سنة، والذي طعنته بالخنجر ثلاث طعنات - هو حي داخل قصرك، بل هو بحضرتك يكلمك!
فلافي :
ويل لك، يا سفيه! اصمت.
لورادان :
إن كنت على ريب مما أقول، فهاك اليد التي خرقتها بسيفك.
فلافي :
جان!
لورادان :
نعم، أنا جان دي زاردوان صديقك القديم.
فلافي :
ويل لك يا تعيس! وما الذي قادك إلى هنا؟
لورادان :
لقد قادني إلى هذا المكان الله المنتقم للأبرياء المظلومين، ذلك الذي يحيط أثناء الليل سريرك بأشباح مرعبة، ذلك الذي أنقذ من ظلمات السجن الوريث الوحيد الباقي من أصل أمراء ليزينيه.
فلافي :
لورادان، ما تقول؟!
لورادان :
لست أقول سوى الحقيقة، إن روبر دي ليزينيه قد أطلق سبيله.
فلافي :
ويل لك ما تقول (يدعو)
رينالدي.
المشهد التاسع (فلافي - لورادان - رينالدي - بابيو)
رينالدي (وهو داخل) :
ماذا تأمر سيدي؟
فلافي :
هل السجين الصغير في مكانه؟
رينالدي :
لا أعلم، سيدي.
فلافي :
امضي وانظر ... والويل لمن يسعى بإنقاذه (رينالدي يخرج، ويبقى لورادان وفلافي) .
لورادان :
أنت تتعب عبثا، قلت لك: إنه قد نجا سالما.
فلافي :
انقطع الرجاء!
لورادان :
وأنت الذي لا تعبأ كثيرا بالفظائع والآثام، ألم تستطع أن تتخلص قبل الآن من هذا الولد الضعيف، أما تجرأت أن تضرب ضربة قاضية ذلك الشبح الأبيض الذي يحرسه ويدافع عنه.
فلافي :
اتصلت بك الجسارة أن تهينني داخل قصري؟! ألا تعلم أني بكلمة واحدة أعدمك الحياة.
لورادان (يقاطعه) :
لا، لا، لست تتجرأ على ذلك.
فلافي :
كثرت وقاحتك أيها الوغد.
لورادان :
لن تتجرأ على إهلاكي؛ لأن المكان الذي لجأ إليه الأمير الصغير لا يعرفه أحد سواي، وإن قتلتني فلست تعرفه مطلقا.
فلافي :
ما هذه الوقاحة! اصمت.
لورادان :
لا تظن أني طرحت ذاتي بين يديك عن طيش أو جهالة، لا، لا، غدا عند الساعة العاشرة إذا لم يطلق سبيلي، فأخي جرار يذهب إلى ليون، ويعرض أمام رفاقي بالحرب الصحائف المدون عليها أخبار فظائعك الماضية، وجميعهم ينهضون انتصارا للعدل، ويهجمون على قصرك هذا، فينقذوني إذا كنت حيا، أو يأخذون بثأري إذا كنت ميتا.
فلافي :
فليأتوا! ها أنا بانتظارهم. (رينالدي يعود مذعورا.)
رينالدي :
سيدي، إن السجن فارغ، والمحبوس قد هرب.
فلافي :
أسرع ودقق في البحث والتنقيب، والويل ثم الويل لك إن لم تأتني به. (يدعو)
بابيو! (يدخل بابيو.)
فلافي :
اذهب بهذا السجين إلى الحبس الأشد ظلاما في القصر! جان، إن غضب الصديق القديم سيكون شديدا جدا، وعما قليل ستختبره (فلافي ورينالدي يخرجان) .
لورادان :
بابيو، إني مسلم - لصدقك وشرفك - الوريث الوحيد للأمير ليزينيه.
بابيو :
يمكنك الاتكال علي، يا سيدي الفارس.
لورادان :
كم هو علو هذا البرج؟
بابيو :
ماية قدم، ومن هاته الجهة هو محاط بخنادق مرعبة، ومن هاته الجهة الأخرى يوجد رواق طويل، وبعده هوة وسيعة.
لورادان :
هل خيم الظلام؟
بابيو (ينظر من وراء النافذة) :
نعم سيدي، إن ريحا عاصفا ابتدأ يصفر، وبعض نقط شتاء تتساقط، إني أرى شيئا أسود يتحرك بأسفل البرج، يظهر أنه رجل لابسا رداء طويلا، وهو ينظر قليلا إلى القصر، ثم يحرك محرمة بيده.
لورادان :
يا إلهي، هل هذا هو أخي ... (يركض نحو النافذة)
بابيو، أسرع وفك قيودي (بابيو يطيعه) (لورادان يأخذ صحيفة ويكتب) ، خذ، يا بابيو، هذه الرسالة، واطرحها إلى هذا الرجل الذي نظرته.
بابيو :
سيدي آه.
لورادان :
أتتأخر عن ذلك؟! آه إني لم أبحث طويلا أمام أسوار عكا قبل مفاداتي بنفسي لإنقاذك.
بابيو :
إني خاضع لما تأمرني به، ولو فقدت حياتي.
لورادان :
ماذا نظرت؟
بابيو :
لقد التقطها! ... يا إلهي، الطف بنا، قد هجم عليه الحارس ... حمي القتال بينهما، قد سقط الحارس صريعا، والرجل طرح ذاته بالحفرة ونجا.
لورادان :
ليكن اسم الرب مباركا ... أتعلم، يا بابيو، أن الذي سألتك أن تخلصه هو هنا، وهو معلق على شفار الهاوية منذ بضع ساعات؟! فيلزم أن تقطع حديد هذه النافذة، وبعد نصف الليل بساعة تدلي بواسطة حبل على الرواق هذا الولد الذي أحبه أكثر من ذاتي، وكن على ثقة أنه يذكرك بالخير.
بابيو :
إني فاقد الحياة بذلك لا محالة، ولكن أفادي بنفسي طاعة لأمرك.
لورادان :
الآن أنا مستعد أن أتبعك حيث تريد.
الفصل الثالث
(يبقى المرسح على ما كان في الفصل الثاني.)
المشهد الأول (يظهر بابيو قابضا على حربة بيده، وواقفا وقفة حارس محافظ وهو يغني بما معناه):
يسمعون بعيدا العاصفة تقترب، وضجيجها يمزق سكينة الليل، والظلام يمتد على الطبيعة فترتعد خوفا، الطقس بارد، والليل مظلم، فاحرسني يا إلهي.
بابيو :
من بالباب؟
رينالدي :
الوكيل.
بابيو :
شعار الأمان.
رينالدي : «فرنسا.»
بابيو :
اقطع يا سيدي. (رينالدي يخرج.) (بابيو يتابع الغناء)
على ضو البرق أرى غيوما هائلة، ومن أحشائها المفتوحة تنقذف العاصفة، فالحداد يغطي الطبيعة وإن أقاسمها اضطرابها. فالليل مظلم والطقس، احرسني يا إلهي. (يسمع قرع جرس.)
قرع الجرس ودنت الساعة الهائلة. عما قليل سوف يقترب رجل من البرج، وبواسطة هذا الحبل سأضع بين يديه روبر دي ليزينيه، وا أسفاه على هذا الولد! لقد مضى عليه زمن طويل وهو يئن في سجون القصر، ولم أكن أعرف أين هو، ولا أدري ما هو عليه من الضيق، والآن لقد أنقذته، والحمد لله، من تلك الحجرة السرية؛ حيث كان في خطر السقوط بالهاوية كل دقيقة، وقد أخفيته في إحدى قاعات القصر ... فيا إلهي، أنت الذي ألهمتني هذا الصنيع، أعطني قوة لأتممه! أتت الساعة، فلنذهب ... ولكن ها الأمير أقبل.
المشهد الثاني (فلافي - بابيو)
فلافي :
هل رأيت شيئا من أعلى هذا البرج؟
بابيو :
كلا، يا سيدي؛ فالهدوء مستتب، إنما الريح يعصف بشدة، وسيكون الليل شديد الوطأة.
فلافي (لذاته) :
نعم، سيكون هائلا. (يرفع صوته)
هل ذهب أحد في إثر السجين المفقود؟
بابيو :
نعم، سيدي، ولكن أظن أنه نجا لا محالة.
فلافي :
أين هو رينالدي؟
بابيو :
لقد مر من هنا منذ هنيهة.
رينالدي :
سيدي الأمير، لقد قبضنا على أسير جديد وقع في أيدينا، وهو في زورق تحت أسوار القلعة.
فلافي :
وما هو اسمه؟
رينالدي :
لا أعلم، هاك الأوراق التي وجدناها معه (يأخذ فلافي الأوراق، ويقرأها بلهفة) .
بابيو (لذاته) :
من تراه يكون هذا الأسير في هذه الساعة، هل هو هو بذاته ... يا إلهي، ارفق بنا (يخرج) .
فلافي (يقرأ) : «يوجد نفق تحت الأرض يؤدي من الفندق الأسود إلى القاعة الأولى في القصر، فبينما الفلاحون يحاصرون القصر يمكنك الدخول بهذا النفق»، نعم النصيحة يا رينالدي! ضاعف الحرس.
رينالدي :
نعم، سيدي.
فلافي (يقرأ) : «فيا أخي العزيز، إذا خفقت مساعيك اذهب غدا إلى ليون، وأخبر رفاقي أن لورادان محبوس في سجون ماتبرن، ويمكنك الاتكال على شجاعتهم وغيرتهم.»
تعسا له إذا لم يكن له من محام سواه، فسيبقى طويلا تحت قبضة يدي. (يقرأ أيضا) «تعالى إلى ما تحت نافذة البرج الأكبر ساعة بعد قرع الجرس؛ فأحد الجنود الأمناء سيلقي إليك وديعة ثمينة، لورادان» (بغضب شديد)
ما هي هذه الوديعة؟ ومن هو هذا الجندي الخائن؟ أجبني في الحال.
رينالدي :
لا أظن تلك الوديعة إلا الولد الهارب.
فلافي :
والجندي، من هو؟
رينالدي :
أظن أنه بابيو؛ لأني نظرته يتحدث مع لورادان.
فلافي :
تبا له من خائن دني! سيجازى على ما قدمت يداه، والسجين لم يخلص بعد، لم يزل تحت قبضة يدي، امض، وعذب بابيو أشد العذابات؛ عله يبوح بسر المؤامرة، أرسل من يشدد البحث في إثر الولد، وأتني في الحال بلورادان. (يخرج رينالدي ويبقى فلافي وحده.)
فلافي :
في هذا الليل سيهاجم الفلاحون قصري. لست أخافهم أبدا، سوف تتحطم قواتهم، ويلاقون الفشل أمام الصخور الحافظة قصري من غارات الأعداء، سيلاقون حتفهم هناك، وتكون الخنادق قبورهم ... والسجين الصغير، ماذا جرى له يا ترى؟ أين هو الآن؟ هل اختبأ في هذا المكان على شفار الهاوية؟ (يفتح الباب)
لا يمكنه أن يعيش هنا دقيقة واحدة ... ها صاحب المؤامرات قد أقبل ...
المشهد الثالث (فلافي - لورادان - رينالدي (يدخل ويخرج حالا))
فلافي :
تعلم جيدا، يا جان، أنك تحت سلطتي، ولا تحيا لا بأمري، فقل لي الحقيقة، ولا تحوجني للالتجاء إلى ما يعز علي فعله، ولا تحوجني أن أدعو الجلاد ...
لورادان :
أتريد مني الحقيقة؟! فها قد قلتها لك، وهل يعذب لسمعك تردادها؟!
فلافي :
لا أبغي سوى معرفة أمر واحد، ينبغي أن أطلع عليه؛ كيف كان الأمر؟ أفهمت جيدا؟ أخبرني سريعا ماذا حدث لأسيري الصغير؟
لورادان :
روبر دي ليزينيه؟
فلافي :
نعم.
لورادان :
قلت لك: إنه نجا سالما.
فلافي :
ومن الذي تجاسر وأنقذه من بين يدي؟
لورادان :
أنا.
فلافي :
أما كان معك معاون؟
لورادان :
كلا.
فلافي :
بلى! قد خدعت بابيو وهو الذي أعانك ... (لذاته)
يلوح عليه الاضطراب؛ فإن بابيو خائن حقيقة. (يرفع صوته)
عبثا تنكر ذلك؛ لأن بابيو قد باح بكل شيء وسط العذاب، والآن قد عوقب على خيانته.
لورادان :
هل مات بابيو؟
فلافي :
نعم.
لورادان :
والسجين؟
فلافي :
قد قلت لنا: إنه نجا سالما.
لورادان :
إني أجهل إذا كان بابيو نفعني بأمر ما، ولكن معيني الوحيد لا يمكنك أن تتناوله بمضرة.
فلافي (لذاته) :
لقد صح ما توهمته ... (يرفع صوته) ، ومن هو هذا الشخص المنيع بهذا المقدار؟
لورادان :
ألا تعرف من هو؟ مع أنه يتفقدك غالبا وقت رقادك.
فلافي :
أتعني ذلك الشبح الأبيض؟! تلك أوهام!
لورادان :
أصغ إلي جيدا، من كان يحفظ مفاتيح السجن الذي كان مطروحا به وريث ليزينيه؟
فلافي :
وما يهمك ذلك؟
لورادان :
يهمني ذلك كثيرا، قل.
فلافي :
أنا كنت أحفظها.
لورادان :
فليس إذن بابيو الذي فتح الأبواب الحديدية، وليس هو أيضا الذي أنقذ المحبوس المنكود الحظ من بين يديك، بل قوة سامية فعلت ذلك! لقد اكفهر وجهك وأظلمت عيناك، فالظاهر أنك ابتدأت تصدق مقالتي، يا لك من جاهل! أتحارب السماء ولا ترتعد؟!
فلافي (بعد أن يصمت برهة) :
نعم، إني أحارب السماء، وسترى أخيرا من ينال الظفر.
لورادان :
اذهب إذن وتمم فظائعك الشيطانية؛ فليس لي أن أؤخرك عن هذه الأعمال السامية، هل لك شيء آخر تقوله لي؟
فلافي :
لم يبق علي سوى أن أعاقبك على جسارتك وقباحتك.
لورادان :
لن تجسر على ذلك.
فلافي :
أي عذاب يستأهله ذلك الوقح الذي أتى يبث الهيجان بين شعبي، والذي تجاسر ودخل إلى قصري قاصدا الفتك بي؟!
لورادان :
أي عذاب! إذا نجحت أعماله، فيستحق إكليل النصر ، وإلا فيفوز بإكليل الشهادة.
فلافي :
أعد ذاتك إذن لأحد هذين الأمرين.
لورادان :
قلت لك مرارا: لا تتجرأ أن تتناولني بضرر، فإذا أهلكتني تهلك ذاتك، أخبرتك أنه في الغد إذا لم تطلق سبيلي يذهب أخي إلى ليون حالا.
فلافي :
وا أسفاه عليك! كان ينبغي لك أن تختار رسولا غير أخيك، فها قد باق
1
بك، وخان عهدك.
لورادان :
كذبت!
فلافي :
هاك برهان على صحة ما أقول.
لورادان :
كذبت!
فلافي :
لمن هذه الرسالة؟ أما تعرفها؟! إن أخاك قد أعطانيها، ترى جيدا أنه تركك.
لورادان :
آه! آه! ويل لي! أنا المنكود الحظ! قد وقع أخي أسيرا في قبضة يديك.
فلافي :
نعم، أخوك أسيري، والآن أنت وهو تحت سلطتي، اذهب إذن وبث الهيجان في قلوب رعاياي، ألست المسلط على حياتكما؟! ألا أستطيع الآن أن أعاقبكما أشد العقاب على ما قدمت أيديكما؟!
لورادان :
بلى، يمكنك كل ذلك، ولكن تلك اليد السرية التي اقتادتني إلى هنا، والتي حفظتني حتى الآن هي قادرة أن تنقذني من بين يديك.
فلافي :
هل أنت أيضا متكل على الفلاحين، خذ اقرأ.
لورادان :
قد فشى سرنا وخاب الأمل!
فلافي :
لست الآن متعجرفا كما كنت قبل قليل، فماذا بقي لك؟
لورادان :
لم يبق لي سوى أن أعانق أخي، وأنتظر الموت.
فلافي (يدعو) :
رينالدي (رينالدي وجرار يدخلان) .
المشهد الرابع (فلافي - لورادان - جرار - رينالدي)
رينالدي :
كنت بانتظار أوامرك سيدي.
جرار (يركض نحو أخيه) :
أخي جان، قد خسرنا كل شيء!
فلافي (إلى جرار) :
لا، بل أنا أظن غير ذلك، قد فزتم بأتم النجاح، كنتم ترومون أن تدخلوا قصري، فها قد دخلتم، والآن يمكنكم بكل حرية أن تتمموا مؤامرتكم.
جرار :
أمتنا إن شئت، ولا تهزأ بمصائبنا وتمتهن شرفنا.
فلافي :
سيكون لكم ما ترغبون. (يأخذ رينالدي إلى حفة المرسح ويسأله)
هل كل شيء في هدو؟
رينالدي :
نعم سيدي، قد ضاعفنا الحرس، وإذا حدث هجوم فالجميع مستعدون للدفاع الشديد حتى الموت.
فلافي :
وبابيو ماذا صار فيه؟
رينالدي :
قد شددت عليه العذاب، فأقر أنه يعرف مقر الولد، ووعد بأن يهدينا إليه .
فلافي :
الآن أشعر كأن حملا ثقيلا قد زيح عن ظهري، فلنضاعف الحرس وتكثر السهر، ولما يقرع الجرس نصف الليل (ينظر نحو الفارسين) ... أفهمت؟
رينالدي :
نعم، سيدي.
فلافي :
اتبعني. (في هذا الخطاب يبقى جرار ولورادان في صدر المرسح يتحدثان سرا.) (يخرج فلافي ورينالدي.)
المشهد الخامس (لورادان - جرار)
جرار :
عبثا تحاول تعزيتنا! لقد انقطع الرجا، يا أخي. أنا، أنا الذي سببت وقوعك.
لورادان :
جرار، ما تقول!
جرار :
نعم، نعم، كان ينبغي لي أن أسير بفطنة أكثر مما سرت. تلك الأوراق التي كنت أحملها معي كان يجب علي أن أخفيها أو أتلفها.
لورادان :
جرار، تشجع ولا تقطع الرجاء، ألست من سبب وقوعك في هذا المصاب؟! هل عليك أنت نذر تفيه، أم إثم تكفر عنه؟! أنا هو الذي ظهرت لي السيدة البيضاء، وباحت لي بالسر العجيب الذي أرجف قلب فلافي.
جرار :
والولد، يا أخي، أين هو الآن؟
لورادان :
إنه بقي زمنا مختبئا في هذا المكان، وقد كان هذا المنكود الحظ كأنه ضمن القبر، وهذا هو المحل الذي يدفن به فلافي من يريد أن يفتك بهم، فخلصه بابيو، وخبأه في البرج الكبير، ومن هناك كنا اعتمدنا أن نسلمك إياه.
جرار :
وبابيو، ماذا حدث له؟
لورادان :
لم يزل بين أيدي فلافي.
جرار :
آه! قد هلك لا محالة.
لورادان :
إن فلافي هو كاذب فيما قاله، فلا يعلم أحد سوى بابيو أين السجين مختبئ، وهذا الطاغية لا يقتله قبل أن يستطلع منه الأسرار.
جرار :
أوما تظن أن العذابات أحوجت بابيو إلى الإقرار؟
لورادان :
لا، لا، إن فلافي ما زال كئيبا حزينا؛ وذلك لأنه يجهل ماذا جرى للولد.
جرار :
ليته يجهله أيضا بعض ساعات.
لورادان :
وهل تصير مهاجمة القصر في هذا الليل؟
جرار :
نعم، عند نصف الليل يخرج الفلاحون من الغابة بكل نظام، وقد انضم إلينا عدد من أبطال الفرسان الذين كانوا ذاهبين إلى الأراضي المقدسة، وقد هيأنا السلالم وكل ما يلزم من العدد، وجميع رجالنا مستعدة للقتال حتى الموت أو الفوز بالنصر.
لورادان :
أتدري أن فلافي عارف بكل شيء، وستكون الحرب هائلة؟
جرار :
آه! لو كنا نجحنا، وتمكنا من إنقاذ الأمير دي ليزينيه فكم كان ازداد فرح المقاتلين وشجاعتهم! إنهم يحبونه قبل أن يعرفوه، فلو كانوا نظروه لكانوا صنعوا الغرايب.
لورادان :
أسمع وقع أقدام، ها الجلاد قد أقبل بدون شك.
جرار :
إني بانتظاره بدون خوف، وها أنا مستعد للظهور أمام الله. (ينزويان بأطراف المرسح لما ينظرون بابيو مقيدا بالأغلال.)
المشهد السادس (لورادان - جرار - رينالدي - بابيو)
رينالدي :
أراك لا تستطيع الوقوف يا بابيو.
بابيو :
وهل من عجب إذا ضعفت أعضائي بعد ما قاسيته من العذابات والآلام المبرحة.
رينالدي :
ولماذا لا تبوح بالسر؟
بابيو :
إني أريد أن أطلعك على كل شيء، وأسلمك الولد الذي تبحث عنه، ولكن ينبغي لذلك أن تحلني من قيودي تماما.
رينالدي :
ولم؟
بابيو :
حتى أصل إلى محل الولد؛ لأنه ينبغي لي أن أمشي على شفير الهاوية، فيجب لذلك أن أكون مطلق الحرية.
رينالدي :
إني صانع معك كل ما تريد. (يخلص بابيو من قيوده، فيقبض هذا على السيف، ويضعه في صدر رينالدي.)
بابيو :
أتى دوري الآن.
رينالدي :
بابيو! بابيو!
بابيو :
لا تتعب برجائي.
رينالدي (يسقط على ركبتيه) :
الرحمة الرحمة!
بابيو :
اذكر يا شقي كم طلبت منك الشفقة لما كانت عظامي تقرقع تحت الخشبة، وجلدي يتمزق تحت المجلدة، هل أخذتك حينئذ شفقة على صراخي، فتطمع الآن أن أرحمك؟!
رينالدي :
ارحمني يا سيدي، وأبعد عني هذا السيف ...
بابيو :
إذا كنت أمامي، أيها الشقي، ترتعد فرائصك مثل أحقر الأولاد، فكيف يكون حالك أمام منبر الله القاضي المنتقم، أيهما هو لورادان؟!
لورادان (يتقدم ومعه جرار) :
أنا هنا أيها الشهم بابيو.
بابيو :
ألم تزالا أسيرين؟ رينالدي، حل هذين الفارسين في الحال. أعطني مفاتيح القصر.
رينالدي :
ها هي.
بابيو :
لم يبق الآن سوى أن تنتظر الموت.
رينالدي (يسقط على ركبتيه) :
لورادان، ارحمني، أشفق علي، أتريد أن أخون فلافي وأفتك به؟! أتريد أن أسلمكم القصر؟! أنا مستعد لكل ما تأمرونني به، فقط لا تعدموني الحياة.
لورادان :
تبا لك من دني خسيس! دعه يعيش؛ فلا يليق بنا أن نهرق دم من كان بهذه الدناءة، عش، ولكن تبقى مغللا بهذه السلاسل، كبله، بابيو، بالقيود. (بابيو يقيد رينالدي بالسلاسل المعلقة بالحائط، ويطرح المفاتيح بالأرض. يسمع قرع الجرس وبعده صراخ ...)
بابيو :
قد هوجم القصر! (يصرخ.) (لورادان وجرار: يصرخان، يستلان سيوفهما ويخرجان، ويبقى رينالدي وحده مكبلا بالقيود.)
رينالدي :
هل أنا في منام؟ لا، أنا حقيقة مكبل بالقيود، ويل لي من جاهل أعمى! قد سلمت ذاتي إلى أمانة جندي، أما كان ينبغي لي أن أعرف جيدا أن من كان مثلي جلادا عند فلافي ليس له أن ينتظر أمانة وشفقة من أحد؟! قد تعاظمت الضوضاء، وهوجم القصر من كل الجوانب، أخذتني الرعدة، أسمع وقع أقدام، من هو هذا يا ترى؟! لقد اقترب مني، ما الذي أراه، ها هو الولد المحبوس ...
المشهد السابع (رينالدي مقيدا روبر)
روبر (لذاته) :
قد حرم علي بابيو أن أخرج من مكاني، ولكني لا أستطيع ذلك، إن هذه الضوضاء وصليل السلاح قد أرعدا فرائصي، وأحدثا بي من الخوف ما لم أشعر به بمدة حياتي! يا ليتني كنت متقلدا السلاح مثل لورادان، فكنت أخوض الحرب مع المقاتلين، وأظفر مثلهم بأكلة النصر! من هو هذا الرجل المختبئ داخل هذا المكان؟
رينالدي :
أنا رجل أسير منكود الحظ، ارفق بي، يا سيدي، وحلني من وثاقي.
روبر :
آه! عرفتك، أما أنت ذلك الذي كنت تعاملني بقساوة بربرية؟!
رينالدي :
آه، يا سيدي، لقد عاقبني الله على ذنوبي، لو كنت تعلم ما أقاسي من العذاب لكنت تشفق علي.
روبر :
وما الذي يعذبك؟
رينالدي :
انظر هول السلاسل والقيود؛ فقد كسرت عظامي، ومزقت لحمي، فإن حليتني فإني أدافع عنك حتى الموت.
روبر :
وهل أقدر أن أحلك؟
رينالدي :
نعم، خذ هذه المفاتيح، فتجد بينها المفتاح الذي يحلني من قيودي، ارحمني، يا سيدي، ارحمني.
روبر :
لقد تحنن قلبي عليه (يأخذ المفاتيح ويقدمها إلى رينالدي) .
رينالدي (يدله على واحد) :
هذا هو.
روبر (يفتح الأقفال) :
اذهب، أنت حر.
رينالدي (يقبض على الولد) :
وقعت الآن في قبضة يدي.
روبر :
في قبضة يدك ! يا لئيم!
رينالدي :
نعم، اذهب معي نحو الأمير.
روبر :
لا، بل أهرق دمي هنا.
المشهد الثامن (فلافي - روبر - رينالدي)
فلافي (يدخل راكضا مذعورا والسيف بيده) :
لقد خسرنا كل شيء، والفلاحون قد استولوا على القصر، الويل لنا! قد هلكنا.
رينالدي :
سيدي، ماذا حدث؟
فلافي :
لقد خنتني، يا لئيم، هل تممت كل ما أمرتك به؟
رينالدي :
سيدي أنا ...
فلافي :
أين هم الأسرى؟
رينالدي :
ارحمني، يا سيدي.
فلافي :
الويل لك يا خائن! لقد أطلقت سبيلهم، وفتحت أمامهم أبواب القصر! أنت سبب هلاكي فخذ جزاء خيانتك (ويصفعه) ، اذهب فليس قبرك ببعيد (يطرحه وراء الحجاب) (ينظر الولد في صدر المرسح) ، آه! ما الذي أراه؟! هذا هو الولد الملعون، أنت أيضا سبب موتي، ولكن ستذهب معي إلى القبر (ويهجم عليه) .
روبر (يسقط على ركبتيه) :
يا أماه، تعالي لمعونتي! (هنا يظلم المرسح ويظهر الشبح، عند هذا المنظر يقف فلافي متحيرا وقاطعا رجاه، فيصرخ): السماء والأرض تحارب جندي، فها أنا أموت متروكا من الله والبشر. (ثم يضرب ذاته، وينطرح وراء الحجاب، روبر يبدو راكعا، والشبح يخطر بهدوء.)
روبر :
لقد سقط في الوهدة ... أيتها السيدة أمي، التي حميتني منذ اثنتي عشرة سنة، كوني مباركة.
الشبح :
ولدي، اذهب بسلام (يتوارى) .
روبر (يركض نحو المكان الذي توارت فيه السيدة) :
أماه! أماه! لا تتركيني، تركتني وحدي! ماذا يحدث بي! لو كنت أقدر أخرج من هذا المكان لكنت أجتمع بلورادان، وأقاتل مع الذين يحاربون عني. ما هذه الضوضاء الجديدة التي أسمعها؟ هل انتهى القتال؟ قد اقتربت الضوضاء منا، يا إلهي! ها لورادان قد أقبل! لورادان! ...
المشهد التاسع (روبر - لورادان - جرار - بابيو (حاملا السيف) - فرسان - جنود وفلاحون)
لورادان (يدخل بغتة) :
استولينا على القصر، وفزنا بالظفر. (يصرخ الجميع صراخ الانتصار.)
روبر (يركض نحو لورادان) :
أنت مخلصي.
لورادان (يأخذه بيده) :
أيها الفرسان العظام، والأبطال الكرام، ها هو الأسير الصغير الذي أخبرتكم عنه، ها هو الوريث الوحيد الباقي من أصل الأمير ليزينيه الطيب الذكر والأثر، ها هو الذي حاربتم لأجله، وكللت أعمالكم بالنصر، ها هو صاحب قصر مانبرن وأميركم. (الجميع يحركون قبعاتهم فرحا ويصرخون): يحيا روبر دي ليزينيه، يحيا روبر دي ليزينيه. (هنا يغني الجوق):
فليسقط الظالم، لقد ظفرنا به أخيرا، فقفوا يا أصحابنا، غنوا، فانهضوا أيتها الجموع الشجاعة، ولا تكونوا أبدا عبيدا؛ فقد مضى زمن النوح والبكاء، فيا أيتها العناية الإلهية، بعد عذاب شديد، أعدت لنا الرجاء، آه إننا نباركك.
अज्ञात पृष्ठ