تولي علي الخلافة ومطالبة معاوية والناس بدم عثمان
وتولى علي الخلافة في وقت عصيب رهيب، وخرج إلى المسجد ليبايع الناس فبايعه المهاجرون والأنصار جميعًا، وما لبث علي أن بويع إلا ودخل عليه طلحة والزبير ﵄ مع رءوس الصحابة الكبار في المدينة المنورة وقالوا: يا أمير المؤمنين لا بد من قتل قتلة عثمان؟ -سبحان الله! - وهنا يبدأ الخلاف؛ فكل فريق له وجهة نظره، وكل فريق له اجتهاده، من الذي يقتله؟ وأي قوة تستطيع الآن أن تقتل قتلة عثمان؟! لقد تعصب وغضب إليهم كثير من الناس حتى زاد عددهم عن عشرة آلاف فارس مدججين بالسلاح ينتشرون في مدينة رسول الله ﷺ، فمن الذي يستطيع أن يقيم عليهم حد الله بالثأر لقتل دم عثمان في هذا الظرف؟ واعتذر علي وقال ﵁ وأرضاه: [إن قتلة عثمان كثرة ولهم مدد وأعوان] والحق معه بكل المقاييس، إذًا أين القوة التي تستطيع أن تقيم عليهم الحد ولم تستطع أن تحول بينهم وبين قتل الخليفة؟ وخرج الصحابة في غضب وفي ثورة شديدة على علي بن أبي طالب ﵁ وأرضاه، وكان من بين هؤلاء الذين ثاروا ثورة شديدة لدم عثمان ﵁؛ معاوية بن أبي سفيان ﵁ وأرضاه، وحذار حذار من الخوض في هؤلاء الأطهار الأبرار، فإننا نسمع الآن ونقرأ من يتكلم على هؤلاء الأخيار كلامًا تقشعر له الأبدان وتضطرب له الأفئدة، وهم السابقون الأولون.
ثار معاوية وازدادت ثورته بعدما أرسلت نائلة زوجة عثمان بقميص عثمان الذي قتل فيه، ووضعت فيه أصابعها التي قطعت وهي تدافع عنه، وأرسلت بالقميص والأصابع إلى معاوية بن أبي سفيان ﵁ وأرضاه الذي كان يعتبر نفسه من أوائل الناس ومن أحق الناس مطالبة بدم الخليفة الراحل، ولما رأى معاوية القميص بكى، وأخذ القميص وعلق فيه أصابع نائلة، وعلق القميص على منبر المسجد الدمشقي ولما رآه الناس والصحابة بكوا بكاءً شديدًا، وارتفعت الأصوات بالنحيب على موت عثمان ﵁ وأرضاه، وبايعوا معاوية على الثأر لـ عثمان ولم يبايعوه على الخلافة، ما بويع معاوية على الخلافة ولم يطلب معاوية الخلافة قط، وإنما كان يطلب الثأر لدم عثمان أو أن يسلم علي لـ معاوية قتلة عثمان ليقتص منهم لـ عثمان ﵁ وأرضاه، وهنا بدأ الخلاف الكبير.
فخرج طلحة والزبير إلى مكة المكرمة إلى أم المؤمنين عائشة ﵂ فلقد كانت عائشة بـ مكة لأداء مناسك الحج في هذا العام، ولما سمعت عائشة بخبر مقتل عثمان قامت تدعو الناس وتحث الناس للثأر لدم عثمان، وقد تأولت قول الله جل وعلا الذي رددته كثيرًا: ﴿لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ [النساء:١١٤] فخرجت عائشة ﵂ فالتف الناس حولها وقالوا: يا أماه! نحن معك حيث سرت للمطالبة بدم عثمان، واتفق هذا الجمع كله على الذهاب إلى البصرة ليكونوا قريبين من معاوية ﵁، وقد ضمن الأمر في المدينة علي بن أبي طالب ليستسمعوا همم الناس للمطالبة بدم عثمان ﵁، وخرجوا جميعًا إلى البصرة، ولما سمع علي بذلك عزم على أن يخرج بنفسه، فقام عبد الله بن سلام الصحابي الجليل وأخذ بعنان فرسه وقال: [يا أمير المؤمنين! لا تخرج من مدينة رسول الله؛ فوالله لئن خرجت منها لا يعود إليها سلطان المسلمين أبدًا بعد اليوم] ورفض الحسن أن يخرج أبوه ﵁، ولكن عليًا قال: [والله ما خرجنا إلا لأنا نريد الإصلاح بين الناس لا نريد قتالًا] .
وإن أعظم دليل على ذلك أن عليًا خرج من المدينة مع تسعمائة رجل، فهل هذا جيش يريد القتال؟ وفي الطريق التف حوله الناس من كل البقاع واجتمع عليه عدد كبير، ولما وصل إلى البصرة، وكان قد اجتمع على عائشة وعلى طلحة والزبير عدد كبير من أهل البصرة للمطالبة بدم عثمان أرسل علي إليهما -أي: إلى طلحة والزبير - القعقاع بن عمرو التميمي ﵁ وأرضاه.
فبدأ القعقاع بأم المؤمنين عائشة ﵂ فقال: يا أماه! ما الذي جاء بك إلى هذه البلاد؟ فقالت: أي بني! ما جئت إلا لأصلح بين الناس.
فقال القعقاع: فأرسلي إلى طلحة والزبير ليحضرا، فحضرا طلحة والزبير.
فقال القعقاع بن عمرو: لقد سألت أمنا ما الذي أقدمك إلى هذه البلاد؟ فقالت: ما جئت إلا لأصلح بين الناس.
فنطق طلحة والزبير ﵄ وقالا: والله ما جئنا نحن إلا لذلك.
فقال القعقاع بن عمرو: إذًا فما الذي تريدون؟ نحقق ونتفق على الإصلاح فإن اتفقنا عليه اصطلحنا.
فقال طلحة والزبير ﵄: لا نريد إلا أن نقتل قتلة عثمان، فإن تركنا قتلهم فقد تركنا القرآن الكريم.
فقال القعقاع بن عمرو: لقد أتيتم أنتم إلى البصرة فقتلتم قتلة عثمان من البصرة، فغضب لهم ستة آلاف فارس، فتركتموهم فإن تركتموهم وقعتم فيما تقولون، وإن حاربتموهم وقعت مفسدة هي أربى من الأولى، فاقتنع طلحة واقتنع الزبير.
فقالت عائشة ﵂: فماذا تقول أنت يا قعقاع؟ فقال القعقاع ﵁: أقول: بأن الدواء لهذا الأمر التسكين، وكونوا مفاتيح خير ولا تضيعونا، فإن ما حدث أمر عظيم، وإن كلمة الناس قد اختلفت في جميع الأمصار، وإن عليًا ﵁ وأرضاه معذور في تأخير قتلة عثمان حتى يتمكن منهم ويقدر عليهم.
1 / 9