ودخل جيش القاهرة وفي أخرياته شيخ يتوكأ على عكازه هو أبو كاظم الحراني، أو زين الدين بن نجا، فإنه بعد أن خابت آماله في الإيقاع بعمارة، وكشفت المؤامرة التي دبرها لفتك سيدة القصور به التجأ إلى نور الدين بدمشق، وأظهر النسك والعبادة، فعينه نور الدين واعظا لجنده، وأصبح من المقربين في دولته، فلما عزم الجيش على السفر إلى مصر، وتحرك فيه ذنابي الشر، وثارت فيه غريزة الأخذ بالثأر، والانتقام من عمارة، وجال بخاطره أنه إذا لم يظفر به مرة فسوف يظفر به أخرى، لذلك استأذن نور الدين في أن يلحق بجيش مصر، فأذن له.
وبعد يومين استدعى الخليفة العاضد أسد الدين إلى القصر، وخلع عليه خلعة الوزارة، ولقبه بالمنصور؛ فغضب شاور لعزله من الوزارة، والتقى بابنه شجاع وقال: ألا ترى كيف فعل الغز المغتصبون ... جاءوا لينقذوا البلاد من الإفرنج فاستولوا عليها؟! - يا أبي: من الخير لنا أن نتوارى في دورنا، وألا ترى الناس وجوهنا، فإن القاهريين لو تصدقوا علينا بدمائنا لكانوا أكرم الناس. - أكرم الناس!! هؤلاء البله المفاليك الذين يصفقون لكل غالب!! ... إنني عزمت على مكاتبة جميع ملوك الساحل من الإفرنج؛ ليهجموا على مصر من طريقين: طريق بلبيس، وطريق دمياط.
فلمع الغضب في عيني شجاع وقال: والله لئن لم تنته عن هذه الأمور؛ لأكشفن الأمر لأسد الدين. - كفكف من غربك يا شجاع، إني إن لم أفعل هذا قتلنا الغز عن آخرنا. - وإذا جاء الإفرنج قتلونا أيضا، ولأن نقتل والبلاد بيد المسلمين خير من أن نقتل والبلاد بيد الإفرنج.
ثم دارت الأيام، ولم يستطع صلاح الدين صبرا على بقاء شاور حيا، يحوك الدسائس ويبث الفتن، فقتله بيده، وبعد قليل مات أسد الدين، فولي الخليفة صلاح الدين الوزارة ولقبه بالملك الناصر.
تولى صلاح الدين الوزارة وهو شديد الحذر من سيدة القصور لا يؤمن ببشاشتها، ولا يحسن لقاءها، وكأنه رأى بعين بصيرته ما ينطوي عليه قلبها له: من الحقد، والضغينة، والكيد، فهم لعبتها فعزم على تفاديها بلعبات أخرى: علم أنها لم تؤثره بالوزارة مع وجود كبار الرؤساء والقواد بالجيش الشامي، وإلا لتوقع الخلاف والفرقة بينه وبين هؤلاء القواد، حتى يصبح بأسهم بينهم شديدا، وحينئذ تتحكم سيدة القصور في الموقف، وترضى عمن ترضى عنه منهم، فيكون صنيعة نعمتها، ومنفذ أمرها. علم صلاح الدين هذا فتملق القواد، وأغدق عليهن، واسترضاهم، وجعل نفسه أداة منفذة لإرادتهم، ثم اتجه إلى القصر، فأخذ يجرده من كل قوة فيه تستطيع أن تقاومه، أو تقف في وجه غايته: فأبعد كثيرا من رجاله، وأخذ يرهق سيدة القصور بطلب الأموال حتى كاد يستنفد ما عندها، ثم رتب بهاء الدين قراقوش - وهو من أشد رجاله عنفا وأكثرهم له إخلاصا - حارسا على القصر، حتى لا يدخل إليه شيء، أو يخرج منه شيء إلا بإذنه.
ضاقت سيدة القصور بهذه الحال، وسدت أمامها سبل الحيلة، ورأت أن ملكها ومذهبها الفاطمي يترنحان تحت ضربات قاسية متتابعة، وأنه من العار عليها أن تقف صامتة مغلولة اليدين، والأعداء يقتلون دولتها بسم بطيء، فطلبت أن يدعى إليها عمارة، فلما حضر قالت: أرأيت أبا محمد ما فعله بنا ذلك الكردي الوضيع؟ كأن وحيا يهبط عليه بما في نفسي، فكلما فكرت له في مكيدة رأيته قد أعد لها ما يحبطها!! - هذا الرجل كارثة على مصر وعلى الفاطمية، وقد حاولت أن أجتذبه بشعري، وأختدعه بمديحي، فلم أجد منه إلا جفاء وإغفالا، ومن مصيبة مصر أن يكون عبد الرحيم البيساني - الذي يسمونه بالقاضي الفاضل - وزيرا لهذا الرجل الجامح، وهو لا يشير عليه إلا بكل ما يهدم الدولة الفاطمية، ويعصف بها.
ولما ضاقت حيلتي مع هذا الكردي أرسلت إليه بهذه القصيدة:
أيا أذن الأيام إن قلت فاسمعي
لنفثة مصدور وأنة موجع
نزلت بمصر أطلب الجاه والغنى
अज्ञात पृष्ठ