وقبل أن يدخلها اختلى بأسد الدين وصلاح الدين، وقال لهما: إن من الخير لكما ألا تدخلا القاهرة الآن؛ لأن القاهريين إذا رأوا جنود الشام ظنوهم غزاة فاتحين، فجمعوا لهم وقتلوهم، وليس لكم من كثرة العدد ما يمكنكم من المقاومة، والرأي عندي أن تعودا إلى دمشق، وأن تحملا إلى مولاي الملك العادل كريم تحياتي وجزيل شكري. فقال صلاح الدين: إن هذا يخالف ما اتفقت مع الملك العادل عليه. - هو نفس ما اتفقت عليه معه يا قائدي الصغير ... لم تتعد المسألة أن تكون مجاملة بين أميرين ... لقد استنجدت بالعادل ليساعدني على إطفاء ثورة في مصر فساعدني، وهذا يحصل بين الملوك كل يوم. فقال أسد الدين: ألم تتعهد بأن يكون له ملك مصر، وأن تكون نائبه عليها؟؟ فابتسم شاور ابتسامة دهاء وسخرية وقال: ملك مصر الذي باهى به فرعون ملوك الدنيا، يمنح في مقابل خمسة آلاف جندي يسيرون من دمشق إلى باب الفتوح؟! لا يا سيدي ... إن مصر أغلى من ذلك جدا ... لم يحصل اتفاق على شيء من هذا، وحينئذ ظهر الغضب على وجه صلاح الدين وقال: إننا سنعسكر في «بلبيس»، وسننتظر أوامر مولانا نور الدين، وربما التقينا قريبا يا شاور، ولذلك نرجئ تحية الوداع إلى تحية القدوم!!
دخل شاور القاهرة فاتحا منصورا، ولكن القاهرة لم تستقبله استقبال الفاتح المنصور، وللقاهريين غريزة صادقة في الحكم على الرجال، ومقابلة الحوادث.
وأرسلت سيدة القصور تحياتها للقائد العظيم، فمثل شاور بين يديها، وشكت إليه ما لاقت مصر أيام ضرغام من الظلم والعسف والاضطراب، وخلع عليه الخليفة العاضد خلعة النصر، وقلده سيفا أثريا كان لجوهر الصقلي فاتح مصر، ثم ذهب إلى داره فقابلته «باسمة»، وابنه شجاع، واختليا به، فقال شجاع: أين أسد الدين، وصلاح الدين؟ فقال شاور: أرسلت بهما إلى الجحيم. - أين هما حقا؟؟ - رجعا إلى الشام، فقالت باسمة: يا للعار!! أيطرد العربي أضيافه عند باب داره؟! فظهر الغضب على وجه شاور، وقال: نعم يا حاتمتي الرعناء، يفعل العربي ذلك إذا رأى أن أضيافه سينقلبون لصوصا. وقال شجاع: هذا خطأ يا أبي، قد كان يجب، وقد تعجلت في تعهدك لنور الدين أن تكرم قواده، تزودهم بالهدايا والأموال، وتعدهم وتمنيهم، ثم تتخلص من عهودك في لطف لا يحس. أما الآن، فأخشى أن يعود إليك القائدان بجيوش لا قبل لك بها، فلا نكون قد ضعنا وحدنا، بل ضيعنا مصر معنا. فقال شاور: إن هذه أوهام يا فتى ... فإن الإفرنج بالشام لم يتركوا لنور الدين لحظة يفكر فيها في فتح مصر.
وتركهم شاور غاضبا، ودخل حجرة، فرأى أخاه نجما، فنفض إليه الأمر كله. فقال له نجم - وكان ألأم من شاور، وأشد خبثا: عملت كل ما يجب أن يعمل، ولو أن هؤلاء الجنود وضعوا أقدامهم في القاهرة ما استطاعت قوة أن تخرجهم منها. - ولكن ماذا نعمل يا نجم إذا بعث القائدان رسولا من بلبيس إلى نور الدين، وبالغا في الشكوى مني، ومما قد يسميانه خيانتي، فأرسل إليهما جيشا جرارا لا نستطيع له دفعا؟؟ - هذا صحيح يا شاور ... وإن له عندي دواء، ولكنه قد يكون مرا!! - ما هو؟؟ - أن نرسل في الخفاء رسولا إلى القائد مري ملك الإفرنج بساحل الشام، لنطلب منه أن يزحف بجيوشه على مصر لطرد الغز من بلبيس، وأن نغريه بقدر كبير من المال ... هذا هو الدواء ... وهو مر حتما، ولكن ألا تظنه قاتلا؟؟ - لا ... إن الإفرنج نستطيع أن نخدعهم، أما هؤلاء الغز: فلا ... أين ثعلبة الشماخ؟؟ فدخل فتى قصير القامة، متين العضل تدل ملامحه على الشراسة والقسوة.
فكتب شاور رسالة طويلة وسلمها إليه، وقال: تسير الليلة مبالغا في الاختفاء، ولن تستريح حتى تصل إلى عسقلان، فتقدم هذه الرسالة إلى الملك مري، ثم نزع خاتمه وقال: وهذا علامة صدقك إن شك الملك في رسالتك ... خذ أسرع خيلي، وعد إلي بعد عشرة أيام.
وذهب الرسول، وقدم الإفرنج إلى مصر في جيش لهام، ووثبوا على أسد الدين ببلبيس فصالحهم بمال، وعاد أدراجه إلى دمشق، ولكنهم لم يقفوا عند بلبيس، بل أخذوا طريقهم إلى القاهرة، ودخلها قائدهم بقسم من جيشه، فأكرم شاور وفادتهم، وأعد لهم منازل وأسواقا، وقرر لهم مائة ألف دينار في السنة، فأقاموا إقامة المحتل، وطغوا وظلموا، وعاثوا في القاهرة فسادا.
الفصل الثاني عشر
مضت أربع سنوات أو تزيد، والقاهرة في هم ناصب، وكوارث متتابعة، تقاسي من ظلم شاور وعسفه، وولعه بسفك الدماء، واغتصاب الأموال، وتقاسي من تحكم الإفرنج، واستبدادهم بالناس، وتسلطهم عليهم بضروب من الأذى والإرهاق.
وكانت «باسمة» حيرى مضطربة النفس، فقد كانت تريد زوال الدولة الفاطمية، ولكنها لم ترد أن تزول بمثل هذا الحكم الأرعن الأحمق، الذي وضع فيه السيف والسوط والنهب، موضع العدل والحق.
وكان شاور إذا اختلى بنفسه، تيقظ في نفسه رسيس من ضمير مهزول، فهمس في أذنه: ماذا فعلت يا ابن مجير؟! ... ما هذه الدماء التي لا تزال تقطر من يديك؟! ... لقد تثلم سيفك من قطع الرؤوس، وخدرت يدك من انتهاب الأموال!! ... طلبت الحكم بالقوة والخديعة فلم تهنأ به، وهزئت بالغز فوقعت في يد الإفرنج الذين دخلوا القاهرة ضيوفا مناصرين، فأقاموا بها حكاما غاصبين!
अज्ञात पृष्ठ