ثم جاء والي دمشق ذات صباح، وطلب من صاحبي أن يسافر بي إلى مصر؛ ليبيعني لسيدة القصور، على أن يتحكم في الثمن كما يشاء، فسافرنا إلى القاهرة، وعرضت على سيدة القصور، وكان العرض مؤلما ... ثم سئلت عن اسمي، فأطرقت وتبسمت ابتسامة حزينة واجدة، فصاحت سيدة القصور: سميتها «باسمة»، ثم طلبت إلى الخدم، والجواري أن يدعوني بهذا الاسم، فبقيت في القصر منذ ذلك الحين أعامل معاملة الدمى حينا، ومعاملة الإماء الذليلات أحيانا، ارحمني يا سيدي ... ارحمني ... فإنني أتحرق إلى صدر رفيق يجيب خفقات قلبي، وأشعر في دفئه بالحب والحنان. - يحزنني يا فتاتي أنك طرقت قلبا مشغولا، ملأ الحب كل حجراته فلم يترك فيه مكانا لحب جديد. - لك ألا تسمي ما أدعو إليه حبا، سمه عطفا إن شئت. - إن العطف أول الحب، وإذا رضيت بالعطف أول الأمر، فلن ترضي به إذا طال الزمان، إن قلبي يا فتاتي موحد لا يؤمن بالشريك. - لقد حرمت يا حبيبي حب الأب، وحب الصديق، وأريد أن أعيش إنسانة تجتذب الحبيب، ويجتذبها الحبيب، تصبي الحسن وتصبو إليه، إنني من جيل تعنف فيه الغرائز وتشتد، وتسيطر فيه نزعات القلب على حكمة العقول، أريد يا حبيبي أن أحيا ساعة واحدة أشعر فيها أنني لست أمة رقيقة!! - أليس لك في زوجك يا باسمة ملاذ يسكن إليه قلبك، وتهدأ في كنفه جوانحك؟ - زوجي؟ لا تمزح يا سيدي! بالله عليك لا تمزح! إنه ناطور الزواج كما يضعون في البستان ناطورا ليذود الطير عن ثمره، زوجي؟ ذلك الذي أرغمتني سيدتي على التزوج به؛ لتصونني من رجال القصر الذين كادوا يفترسونني بأعينهم، والذين كانوا يلاحقونني في كل مكان، ومن هو الذي ألزمت الزواج به؟ فدم، جاهل، مغفل، غبي متعاقل، سريع الغضب، بطيء الهمة، هذا هو الزوج الذي اختارته لي سيدتي، واختيارها وحي من الرحمن يجب ألا يرد، ولا يجادل فيه، ولا يسائل المرء نفسه عن سره! فهل لي في أن أطمع في عطفة منك تضيء ظلام حياتي!؟ - لا أكاد أفهمك يا باسمة، ولا أكاد أفهم معنى لهذا التشبث بعدما أظهرت لك من الانصراف عن كل ما يسميه الناس حبا، وقد أكرمتني سيدة القصور بحفاوة لم يظفر بها سواي، وليس من شيمي أن أعبث بهذه الكرامة. - أنت تحب سيدة القصور، وتؤثر حب السيدة على حب الجارية؛ لأنك تظن أن حب السيدات سيد الحب!
فظهر الغضب على وجه عمارة. وصاح: كفى يا جارية، فإن سيدة مصر أقدس من أن تصبح حديثا للإماء!! ولقد صبرت على ثرثرتك طويلا، وتركت نار قلبك تأكل حطبها لتنطفئ، ولكن يبدو لي أن الرفق زادها استشراء، وأضاف إلى جذوتها حطبا، اعزبي عني فقد طال بنا المقام، وأخشى أن ينالني من الجلوس إليك أشنع المكروه. - أعزب عنك بعد أن كشفت لك عن ذات نفسي، وفضحت لك خبيئة صدري؟! بعد أن طرحت حبي على أقدامك فقذفت به كما تقذف النعل الخلق؟! وبعد أن سكبت دموعي على قلبك الصلد فما زاده الماء إلا صلابة ويبسا؟! أعزب عنك بعد أن أهنت أنوثتي، ودست بقدمك على أشرف ما أعتز به وتعز به كل امرأة من حياء وخفر وإباء؟ ويل لك مني! إن كل شيء عندنا - معشر النساء - أمم، إلا أن تجرح المرأة في كرامتها، وإلا أن تقدم جمالها الفاتن لجلف مثلك، فينحيه عنه بالأكف في سخط وأنفة، كأنه كأس مسمومة أو طعام ولغت في الكلاب! ويل لك مني، وويل لكل من يناصرك! لن تفلت من حبائلي، إننا - بنات الجركس - نقتل الرجال: إما بالحب والاستهواء، وإما بالكيد والدهاء، فخذ حذرك فإنك لن تنجو مني يا رجل! ثم قامت غاضبة، وتركت عمارة في ذهول وعجب، وهو يتطلع في أنحاء الحجرة كالمشدوه المأخوذ، ثم ضحك ضحكة جافة مضطربة، وضرب كفا بكف، وقال: حقا إن مصر بلد العجائب!! ماذا كان شأني بهذه الفتاة؟ ومن رماني بهذه المجنونة؟ إنها ستكون البعوضة التي تدمي مهجة الأسد، وستعمل على تكدير عيشي، وتنغيص حياتي، وربما أشعلت بيني وبين سيدة القصور فتنة لا أستطيع لها إطفاء، وربما نشرت بين رجال القصر أسرار حب قدسي أبالغ في كتمانه، أكان يجب أن أجاريها وأن أخدعها، وأن أظهر لها كالمحب المفتون بها المدله بجمالها؟ لا، إن شيئا من ذلك أو دونه لو ظهر لأفسد ما بيني وبين سيدة القصور، ماذا أعمل؟ إني بالغت في اتقاء دسائس الرجال، ولم أحسب لدسائس النساء حسابا، إن من ضروب العداوة ما لا يستطاع درؤه، وإن من المصائب أن يكون عدوك ضعيفا؛ ولكن سأدرع بالحذر، ثم يكون بعد ذلك ما يكون، وقام وصدره مثقل بالهموم، ثم غادر القصر.
وفي تلك اللحظة التقى ابن دخان بباسمة في أحد أبهاء القصر، وكان لها عاشقا، وبها صبا مفتونا، وكانت تصد عنه في إغراء، ثم تجتذبه لتعرض عنه من جديد، وهي في قرارة نفسها تنفر منه، وتستنكر تصابيه، وطرائق غزله، فلما اقترب منها قال: كيف أنت اليوم يا نور عيني؟ ألا تزالين في دلالك القديم؟! - كما أنك لا تزال في ضلالك القديم، دعني بالله أسر في طريقي، فإني كرهت الدنيا ومن فيها!! - الدنيا بخير يا جنتي، والرواتب تصرف في كل شهر لجواري القصر، وفوق كل راتب قبلة إلا منك، فقد أعيتني فيك الحيل! - أنت رجل فارغ القلب، لا تأبه إلا للرواتب، ودخل الدولة وخرجها، أما ما يصيب صديقا، أو يمس شرف فتاة ضعيفة فقدت الحامي والنصير، فليس من شأنك في قليل أو كثير!! أنني سأغادر القصر إلى الأبد، إن هذا اليمني الأفاق المسمى بعمارة، أطغته منزلته عند سيدة القصور، فاتخذ عطفها عليه سلاحا للعربدة والفجور، لقد ضقت بهذا الرجل ذرعا، إنه يلاحقني أينما رآني في القصر، ويضايقني بإلحاحه وتغزله السمج، ويريد أن يفرض علي حبه فرضا، ويظن المغرور أن الله اختصه برواء الحسن وكمال الظرف، وأن امرأة لا تهيم به مدخولة العقل فاسدة الحس، قابلني في هذا الصباح فحاولت الفرار منه فلم أستطع، وأخذ يصب علي شواظا من غزله المفضوح، فلما زجرته وسخرت منه احتدم غضبه، وتكشف لؤمه، وتوعدني بالشر والإيقاع بي عند سيدة القصور، وبطردي من القصر!! - طردك أنت من القصر ؟! ... أنت ... وماذا يبقى فيه إذا غابت عنه شمسه؟! ماذا يبقى فيه وأنت بهجته وزينته؟! ولكن هذا اليمني الثقيل الوقح، هو الذي يطرد من القصر، ويزجر منه كما يزجر الكلب. - إن سيدتي متعلقة به ... - ومن هذه الناحية ستأتيه النكبة، دعي هذا الأمر لي يا بنية، فلن يضايقك اليمني الأحمق بعد اليوم. - وكيف؟ - سأفكر، وستكون المؤامرة محكمة لا يجد منها اليمني منفذا، ولكني أطلب أن تزيدي في التودد إلى زوجك؛ فإني أعتمد عليه في مثل هذه الأمور، وكيف حالك معه؟ - إنه زوج شرعي وكفى! - لا يا باسمة ... صانعيه واخدعيه، وأظهري له الحب والميل حتى يتم كل شيء. فظهر الابتهاج على وجه باسمة ... ولكن ابن دخان عاجلها قائلا: ولكني أطلب أجرا على هذا العمل المحفوف بالمخاطر. - ما هو؟ - قبلة واحدة من فمك الحلو. - قبلت على أن يؤجل هذا الأجر إلى أجل غير بعيد، ثم فرت من بين يديه كالظبي النافر، وذهبت إلى مسكنها الخاص بالقصر، ولما رأت زوجها مجاهدا الرملي ألقت بنفسها بين ذراعيه ضاحكة معربدة، عابثة بشاربه ولحيته؛ فدهش «مجاهد» لهذا التغير المفاجئ، وقد كانت منه شديدة النفار، ممعنة في الدلال، فما استطاع إلا أن يضمها ضمة العاشق المهجور، ويملأ وجهها بقبلاته، ثم قال: ما هذه النشوة يا باسمة؟ فقالت: هل على فتاة في أن تحب زوجها من حرج؟ - لا، غير أنه حب مرتجل! - إنه ليس مرتجلا يا مجاهد، إن العجائز - قاتلهن الله - علمتني أن الرجل لا يحب إلا إذا جفته المرأة وتمنعت عليه، وقد أخذت أعمل بنصيحتهن، وأظهر لك النفور والبغض؛ لتزيد بي شغفا، حتى لم أعد أقوى على هذا الرياء، وعزني الصبر، ووهن الجلد، وطغى سلطان حبك على قلبي فلم أستطع له كتمانا ... فارحمني يا حبيبي؟ - أرحمك؟ أرحمك بمائة قبلة وألف ضمة، وبأن أكون لك عبدا مدى حياتي؟ - وأن تدفع عني شر الأشرار، وكيد الكائدين! - بروحي ... - إنني لم أرد أن أخبرك منذ حين بشأن هذا الشيخ اليمني نزيل القاهرة، الذي أخذ يتردد على القصر. - ما شأنه؟ - شأنه أنه أخذ يضايق زوجتك، ويبالغ في احتقارها، ويدس لها عند سيدة القصور، وقد اتفقت مع ابن دخان على إبعاده عن القصر، وسيخبرك إذا قابلته بكل شيء، وستكون هناك مكافأة جزيلة لمن يقوم بهذا الأمر. - عظيم، كسبنا مالا، واسترجعنا رضا زوجة رائعة الحسن في صفقة واحدة.
ثم مرت أيام قضاها ابن دخان في تدبير المؤامرة، واختيار من يشترك فيها، وعقدت عدة مجالس حضرها مجاهد الرملي، وبعض الجنود، وأكد ابن دخان لهم أنهم لن يصيبهم منها ضرر ألبتة، وأنهم على الضد من ذلك سينالون رضا سيدة القصور، وترتفع عندها منزلتهم، والتقت باسمة به يوما، فقص عليها المؤامرة مفصلة، ووكل إلى دهائها وحذقها طريق الشروع فيها، والإفضاء بها إلى سيدة القصور، ثم قال: إنها ليس من صنعي يا باسمة، وإن عقلي لا يستطيع أن يصل إلى هذه الغيابة.
فقالت في استنكار: من صنع من إذا؟ وهل كان من الحزم أن يطلع عليها غير ذلك العدد القليل الذي اشترك فيها؟! - إن الذي وضع المؤامرة أشد مني حزما، وأكثر احتراسا؛ لأنه لم يرض أن يمد فيها إصبعا إلا بعد أن حلفت له بكل محرجة ألا أبوح باسمه.
فنظرت إليه في سحر وفتنة وقالت: حتى ولا للمدينة لك بقبلة؟ فانهزمت في الرجل كل خصائص الرجولة وقال: أنا حلفت، ولكن القبلة تعدل آلافا من كفارة اليمين ... تعدل الدنيا وما فيها، اعلمي يا فتاتي - وفقك الله - أن مدبر المؤامرة هو الشيخ زين الدين بن نجا المشرف على خزائن الكتب. - ذلك الشيخ الورع الزاهد، الذي لا يتبسم! والذي كلما رآني همهم بأدعية واستغاثات، كأنما رؤية الجمال إثم من أشد الآثام!!
ثم انطلقت باسمة إلى القصر، فرأت سيدة القصور تقرأ بعض الصحف التي يرسلها إليها جواسيسها في كل صباح، فلما رأتها قالت: أين كنت يا باسمة؟ ولم أراك عابسة حزينة؟ - إن حبك يا مولاتي والخوف من أن تمسك هبة من نسيم، هما اللذان يشغلان قلبي، ويكدران صفوي. - فقهقهت سيدة القصور وقالت: لا تتعبي رأسك الجميل يا فتاة، ولا تجني على جمالك الفتان بالخوف علي، فإنك إن فعلت أذبلت أجمل زهرة بالبستان الكافوري. ما الخبر؟ - لا شيء، أو هو شيء يكفي فيه التحرز والاحتراس. - أي احتراس؟ ومن أي شيء؟
عند ذلك استنجدت «باسمة» بأدق مواهبها، وأروع أفانينها، وأخذت في الحديث في تحرج وتلعثم، وكان صدرها يخفق، وعيناها تتحير فيهما الدموع، وصوتها يرتعد ... ثم قصت على سيدتها ما اتفقت عليه مع ابن دخان من تفصيل المؤامرة المزعومة، وأن عمارة الذي يبغض المذهب الفاطمي بقلبه، ويناصره بلسانه - إنما استدعاه طلائع بن رزيك من مكة؛ ليكون آلته في الكيد والقضاء على الفاطمية، وأنه قد تآمر مع بعض الجند على اغتيال الخليفة الفائز، والقضاء على سيدة القصور، وإجلاس ابن رزيك على عرش مصر. - من الذي كشف عن هذه المؤامرة؟ - إبراهيم بن دخان. - هذا غير معقول يا فتاة؛ إن عمارة عاهدني ألا يخونني، ثم إن في الرجل صفات تأبى عليه أن ينغمس في هذه الحمأة. - إنه داهية يا سيدتي، وهو يتخذ من سحر شعره ولطف حديثه، وظهوره بمظهر الرجولة والنخوة ستارا يخفي به مكره ومحاله. - أنا لا أكاد أصدق، عمارة؟! ... يدس لي؟! ويعمل على قتلي وتقويض ملكي ...؟! لا ... لا ... هذا إذا عاد الصباح ظلاما، والأسد ثعلبا، والدواء سما زعافا ... - أأنت واثقة يا باسمة؟ - تمام الوثوق، وقد كان من أسباب حزني خوفي من أن تماريني وتنفضي عنك الحذر، والقضاء على الجريمة والمجرمين. - قد يكون، إن هؤلاء الغرباء الذين يفدون على مصر لا تخلو حقائبهم من دسائس ومؤامرات، إذا فمبالغته في التقرب إلي والإخلاص لعرشي كانت رياء في رياء. - لو لم يكن الرجل دساسا ما لفظته بلاده، وهو يدعي أن له فيها الأموال، والأتباع، والجاه العريض. - هذا صحيح، دعيني وحدي قليلا يا فتاة، فإني أريد أن أفكر.
وبعد ساعة أو ساعتين أمرت راجحا أن يدعو إليها ابن دخان، فلما دخل انكب يقبل أطراف قدميها، ثم وثق مطرقا واجما وهو في سمت الخدام المخلصين، فسألته سيدة القصور عن مجمل الخبر، فقال: جاءني خادمي «عيد» السوداني يوما، وعليه آثار الخوف والاضطراب، وفي وجهه لمحات من التردد والحيرة، فسألته عن شأنه؟ فراوغ وتلعثم؛ فلما أثقلت عليه قال: إننا جميعا عزمنا على أن نلقي إليك جملة الخبر، فانتظرني حتى أعود، ثم عاد ومعه من الجنود: عمران النهري، وعكاشة الحداد، ومجاهد الرملي، فأخبروني أن عمارة أغراهم بالمال، ووعدهم بالمناصب، وذهب معهم إلى قصر ابن رزيك، فزادهم هذا إغراء، وأقسموا أمامه على قتل سيدي الخليفة ومولاتي، ولكنهم بعد أن وزعت عليهم الأموال خارت عزائمهم، وعاودهم إخلاصهم المكين للخليفة ولمولاتي، ورأوا - كما قالوا - أن خزائن الدنيا جميعا لا تغري بأن تمس شعرة من رأس مولاتهم، وألحوا علي في كتمان الخبر، ولكني خفت أن تكون خيبة عمارة وصاحبه في هذه المؤامرة دافعا إلى الشروع في غيرها، فأسرعت إلى جاريتك: باسمة، ورجوتها أن تبلغك أمرها. - لقد أحسنت يا ابن دخان، ثم أشارت بكفها فخرج، وبينما كان ابن دخان يمر بأحد دهاليز القصر رآه مجاهد الرملي، فاختفى وراء ستار؛ لأنه كان مع اشتراكه في الدسيسة يكره الكلام فيها، وفي تلك اللحظة مرت باسمة، فقال لها ابن دخان: الآن وجب قضاء الدين يا فتنة العين، وريحانة النفس، ثم وثب عليها فطوقها بذراعيه، فلم تمانع ولم تعمل على إبعاده، فانكب على وجهها بشره يملؤه قبلا، يزيدها الحب لذة ورنينا.
رأى مجاهد كل هذا فغلى دمه من الغضب، وظهر في عينيه السخط والحنق، وتحركت في صدره أفاعي الانتقام، ولكنه كظم غيظه، وانتظر حتى انصرفا، فخرج من وراء الستار كالمجنون الذي طار عقله وهو يتمتم: ويل لها! ... ويل له! ... ألأجل مال هذا الدميم كانت تتدلل علي وتنفر مني وتزور عني، وتقابل توسلات حبي بالسخرية والاستهزاء؟ والله لأبطشن بهما معا!!
अज्ञात पृष्ठ