ولاحت ابتسامة مريرة ثم اختفت من تحت الشارب الأشهب للجندي العجوز الذي حلت به الكوارث. ومضى الهندي يقول بنفس اللهجة دون أن يرفع صوته: «وحين خرجت من المستشفى جاءوا يقولون لي إنهم قد وضعوا أولادي في السجن وإنهم لن يطلقوا سراحهم إلا إذا دفعت لهم ثلاثة آلاف بيزو. ولما كان أولادي صغارا ولا يحتملون الأذى، فقد هرعت من فوري إلى المحافظ وسألته أن يبقي عليهم في السجن ولا يبعث بهم إلى الخدمة العسكرية العاملة، وإنني سوف أرهن أرضي كيما أجمع لهم الثلاثة آلاف بيزو. وذهبت إلى العاصمة، واتفق لي المحامي هناك مع سيد أجنبي على توقيع ورقة تقول إنهما سيعطيانني ثلاثة آلاف بيزو رهنا للأرض. كان هذا ما قرأه لي من الورقة، ولكنه كان مخالفا لما كان في الورقة بالفعل. وبعد ذلك بعثوا رجلا من المحكمة يقول لي إن علي أن أترك أرضي لأنها لم تعد ملكي؛ لأنني قد بعتها للأجنبي لقاء ثلاثة آلاف بيزو. وقد حلفت بالله أن ذلك غير صحيح، ولكنهم صدقوا المحامي ولم يصدقوني، واضطروني إلى الرحيل عن أرضي. ورغم أنهم قد أخذوا الثلاثة آلاف بيزو مني فقد أرسلوا بأبنائي إلى الخدمة العسكرية: مات منهم واحد وهو يحرس الحدود؛ وأصيب الآخر بجراح رهيبة كان الأفضل معها لو أنه قد مات، ثم ماتت أمهما، زوجتي، بالملاريا. وهذا هو سبب لجوئي إلى السرقة رغم أنني لست لصا، يا تاتا، حتى لو أنهم ضربوني حتى الموت أو ألقوا بي في السجن.» - أهذا هو ما ندافع عنه نحن العسكريين ؟ - ماذا قلت يا تاتا؟
كانت ثمة عاصفة من الأحاسيس تضطرم في صدر «كاناليس» العجوز، من ذلك النوع من الأحاسيس التي تضطرم في قلب رجل طيب إزاء مظاهر الظلم. كان يتألم نيابة عن بلده، كما لو أن دماء ذلك البلد نفسها قد فسدت. كان يعاني الآلام في جلده، في نخاع عظامه وجذور شعره، تحت أظافره، بين أسنانه. أين الحقيقة؟ ألم يفكر أبدا بعقله قبل الآن وإنما بردائه العسكري؟ إن الأمر يكون أكثر مدعاة للاشمئزاز، وبالتالي للحزن إذا كان على المرء أن يكون عسكريا فحسب كيما يبقي السلطة في يد عصابة من الأفاقين المستغلين، المتشبهين بالآلهة، الخونة لأوطانهم، عن أن يموت المرء من الجوع في المنفى. أي حق يرغم العسكريين على الولاء لنظم لا تدين بالولاء لأي قيم ولا للعالم ولا للأمة؟
وكان الهندي يحدق في الجنرال كأنما هو صنم غريب، ولكن دون أن يفهم الكلمات القليلة التي ينطق بها. - عليك أن ترحل يا تاتيتا، قبل أن تصل شرطة الخيالة!
وطلب «كاناليس» من الهندي أن يرحل معه إلى الدولة المجاورة، ووافق الهندي، ذلك أنه كان كالشجرة التي لا جذور لها بعد أن استولوا على أرضه. وكان الأجر طيبا.
وغادرا الكوخ دون أن يطفئا النار. وشقا طريقهما وسط الغابة بفأسيهما. وكانت آثار أقدام فهد تبدو متعرجة أمامهما. ظلام. نور، ظلام. نور. شبكة من أوراق الشجر الملتفة. وشاهدا بعد فترة الكوخ يبرق وراءهما كالشهاب. الظهيرة. سحب جامدة. أشجار جامدة. كدر. بياض ناصع. أحجار ثم مزيد من الأحجار. حشرات. هياكل عظمية، خالية من اللحم ودافئة كالثياب التي تكوى لتوها. تحلل. طيور مضطربة تحلق فوقهما. ماء وعطش؟ تبدل لا نهاية له، ودائما، دائما، نفس الحرارة.
وكان الجنرال يرتدي منديلا يحمي به قذاله ورقبته من لسعة الشمس. وكان الهندي يسير إلى جواره، مواقعا خطاه على خطى البغل. - أعتقد أننا لو سرنا طوال الليل فقد نصل إلى الحدود صباح غد؛ ومن الأفضل أن نخاطر ونسلك الطريق الرئيسي لأن علي أن أتوقف لدى بيت بعض الصديقات في منطقة «لاس ألدياس». - الطريق الرئيسي يا تاتا! ماذا تظن؟ لسوف نصادف هناك شرطة الخيالة. - تعال، اتبعني! إذا لم تخاطر لن تحصل على شيء، كما أن صديقاتي هؤلاء قد يكن ذوات نفع لنا. - أوه، كلها يا تاتا. - وأجفل الهندي بغتة وقال: ألا تسمع، ألا تسمع يا تاتا؟
كانت تسمع مجموعة من الجياد تقترب، بيد أن الرياح سكنت بعد ذلك، وبدا كأن الصوت قد تراجع إلى الوراء، كأنما الجياد تبتعد. - صمتا! - إنها شرطة الخيالة يا تاتا. إني أعرف ما أقول. والآن يجب علينا أن نعبر هذا الممر، رغم أنه الطريق الأبعد للوصول إلى «لاس ألدياس».
وهبط الجنرال عبر طريق جانبي خلف الهندي. وتعين عليه أن يترجل ويقود البغل. وحين ابتلعهما الأخدود الضيق شعرا وكأنهما في داخل صدفة حلزون، مستورين من الخطر الذي يتهددهما.
وأطبقت الظلمة بغتة. وكانت الظلال تتجمع في أعماق الوهدة الغافية. وبدت الأشجار والأطيار كالنذر الملغزة في وسط النسمات اللطيفة المتماوجة دوما. ولم يريا من مخلفات شرطة الخيالة إلا سحابة من الغبار الاحمراري توسطت بينهما وبين النجوم، وذلك حين كانا يخبان في المكان الذي غادرته الشرطة لتوها.
واستمرا يسيران طوال الليل. - «حين نصل إلى أعلى التل سنرى «لاس ألدياس» يا تاتا.»
अज्ञात पृष्ठ