بسم الله الرحمن الرحيم
... قال شيخنا الإمام العلامة أبو يحيى مصطفى البرلسي المالكي الأزهري الشهير بالبولاقي حفظه الله تعالى ، ولطف به وبالمسلمين يوم التلاقي .
... الحمد لله الذي يقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ، وأرسل رسوله بالهدى ودين الحق ؛ ليظهره على الدين كله ولو كره المعاند والمنافق ، والصلاة والسلام على من بعث ليتمم مكارم الأخلاق ، المطهر شرعه عن كل رذيلة ، وخصلة ذميمة ، يستحلها الفساق ، وعلى آله وأصحابه والتابعين ، خصوصا من أراد الله به الخير ، ففقهه في الدين ، أما بعد ....
पृष्ठ 1
... فقد بلغنا عن ثغر الإسكندرية (¬1) المحروس ، وقاه الله من السوء والبؤس ، أنه قد ظهر به عالم يفتي بإباحة سماع الغناء بالآلات ذوات الأوتار ، وأنه نسب ذلك لمذاهب الأئمة ، وبعض الصحابة ، وعلماء الأمصار ، وأنه شنع على من أنكر ذلك ، وقال بالتحريم ، فقلنا : سبحان الله هذا بهتان عظيم ، وكذبنا الناقل واتهمناه ، وأعرضنا عن حديثه وطرحناه ؛ لكونه ذكر رجلا كنا نظن فيه العلم والعقل والدين ، وما كنا نتهمه بشيء من مجون الجهلة والمجانين ، إلى أن وصلت إلينا فتيا بخطه ، وهو عندنا معروف ، فتحققنا أن النقل كان على الصحة بمقتضى الخط والحروف ، وجعلت أقول : إنا لله وإنا إليه راجعون ، وربك يصلح ما تكن صدورهم ، وما يعلنون ، وأخذت أتأملها سطرا سطرا ، وأقدم في شأنها رجلا وأؤخر أخرى ، ثم انقدح في نفسي أن الكتب في شأنها مطلوب ، وأنه إن لم يكن واجبا فهو مندوب ، لأن الأمر وإن كان أظهر من أن يخفى على العالم الكامل ، لكن لفساد الوقت ، وزخرفة القول ، قد يخفى على القاصر والجاهل ، لكني أقتصر من ذلك على مذهبي الذي أشتغل بحفظه ونقله ، وغير مذهبي يسأل عنه من أهله ، فأقول ، وبالله أستعين :
पृष्ठ 2
نص سؤال الفتيا : ما قولكم أدام الله / النفع بكم ، في رجل شهرعنه 3 أنه من العلماء المالكية ، دخل في مجلس أحد الوزراء في وليمة عرس ، متعلق بسعادة ذلك الوزير ، وكان في ذلك المجلس جماعة من العلماء حنفية ومالكية ، وكان سعادة ذلك الوزير يرقه أمر بإحضار الموسيقى، وضربهم وغنائهم عليها ، فضربوا وغنوا بغناء خال من الفحش ، من كلام العارف بالله سيدي علي وفاء رضي الله عنه ، فأنكر الرجل الداخل على من كان بذلك المجلس ؛ حتى شافههم بالسب، وأبطل الغناء ، وأقام أصحاب الموسيقى من ذلك المجلس ، فهل إنكاره ذلك ليس في محله بالنسبة للمذاهب الثلاثة : أبي حنيفة ، ومالك ، والشافعي رضي الله عنهم ؛ لكون الغناء المذكور خال من الفحش ، مع أن المسألة خلافية في المذاهب المذكورة ؟
أفيدونا الجواب بالتوضيح ، والنص الصريح من نقول المذاهب الثلاثة المذكورة ، حتى نعلم حكم الله في ذلك ، ولكم الثواب من الملك الوهاب .
पृष्ठ 3
ونص المقصود من الجواب : وأما على مذهب المالكية فلأن سماع الأوتار قد ذهب إلى إباحته جمع من علمائهم ، حكى الإمام ابن عرفة (¬1) في مختصره المشهور عن ابن حبيب (¬2) إباحة سماع المزهر ، وهو العود كما في القاموس ، وابن حبيب أحد الأئمة المجتهدين في مذهب مالك بل نقل حضور مجلس العيدان عن الإمام مالك رضي الله عنه ، نقل الإمام ابن عرفة في مختصره المذكور عن تاريخ الخطيب أبي بكر بن ثابت ، فذكر أن إبراهيم بن سعد المدني قدم العراق فأكرمه الرشيد ، فسئل عن الغناء ، فأفتى بإباحته ، فأتاه بعض المحدثين ليسمع منه أحاديث الزهري ، فسمعه يغني ، فقال : كنت حريصا على السماع منك ، فأما الآن فلا سمعت منك حرفا أبدا ، فقال : إذا لا فقدت إلا شخصك علي ، وعلى أن حدثت ببغداد ما أقمت حديثا حتى أغني قبله ، فبلغ ذلك الرشيد ، فدعي به ، فسأله عن حديث المخزومية التي قطعها رسول الله صلى الله عليه وسلم / في سرقة الحلي ، فدعا بعود ، فقال الرشيد : أعود المجمر4 ، فقال : لا ، ولكن عود الطرب ، فتبسم ، ففهمها إبراهيم بن سعد ، فقال له بلفظ يا أمير المؤمنين حديث الذي ألجأني إلى أن حلفت ، قال : نعم ، فدعا له الرشيد فغناه :
يا أم طلحة إن البين قد أفدا قل الثواء لئن كان الرحيل غدا (¬1)
فقال له الرشيد : من كان من فقهائكم يكره السماع ، فقال : من ربطه الله ، فقال : هل بلغك عن مالك بن أنس في ذلك شيء ، قال : لا والله ، إلا أني أخبرني مخبر أنهم اجتمعوا في مدعاة كانت في بني يربوع ، وهم يومئذ جلة ، ومالك أقلهم في فقهه وقدره ، ومعهم دفوف ومعازف وعيدان ، ويلعبون ، ومع ملك دف ، وهو يغنيهم :
... ... ... سليمى أزمعت بينا فأين تظننا أينا
... وقد قالت لأتراب لها زهر تلاقينا
पृष्ठ 5
تعالين فقد طاب لنا العيش تعالينا (¬2) فضحك الرشيد ، ووصله بمال عظيم ، ثم قال الإمام ابن عرفة : قلت إمامة أبي بكر الخطيب وعدالته ثابتة ، وإبراهيم بن سعد خرج له أهل الكتب الستة ، انتهى.
وهذا التعديل من ابن عرفة مشعر بميله إلى الإباحة ، وقال الإمام أبو بكر ابن العربي المالكي في شرحه على سنن الترمذي لما تكلم على إباحة الغناء ، وإن انضاف إلى ذلك عود فهو داخل في قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه : مزمار الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬1) : ( دعهم فإنه يوم عيد )، فلا يؤثر في التحريم ، فإنها كلها آلات تقوى بها قلوب الضعفاء ، وتستروح النفوس بها ، وألف الأستاذ أبو المواهب التونسي رسالة في إباحة السماع ، حكى فيها سماع الأوتار عن جمع من الصحابة والتابعين ، فذكر منهم عبد الله بن عمر ، وعبد الله بن جعفر ، وعبد الله بن الزبير، ومعاوية بن أبي سفيان ، وعمرو بن العاص ، وخارجة بن زيد ، وعبد الرحمن بن حسان، وسعيد بن المسيب ، وعطاء بن أبي رباح، والشعبي ، وابن أبي عتيق ، وأكثر فقهاء المدينة ، انتهى .
पृष्ठ 6
وأبو المواهب المذكور من أعيان علماء المالكية ، وأحد / أقطاب5 العارفين الشاذليه ، ذكره الإمام الشعراني في طبقات الصوفية ، وطول ترجمته ، ثم قال : وغير خاف على من له حظ من علم أنه حيث كانت مسألة سماع الأوتار من المسائل التي حكي فيها الخلاف عن الصدر الأول وغيرهم من الصحابة والتابعين فمن بعدهم من مشايخ المذاهب ، فسبيلها سبيل غيرها من المسائل الاجتهادية ، التي لا تتجه فيها الأنظار ؛ لأن اختلاف العلماء رحمة من الله تعالى ، كما جاءت به الأخبار التي عمل بها الأئمة الكبار ، ومنهم الإمام مالك رضي الله عنه ، فقد روى الخطيب في تاريخه أن هارون الرشيد قال لمالك بن أنس : يا أبا عبد الله نكتب هذه الكتب ، ونفرقها في آفاق الإسلام ، فنحمل عليها الأمة ، كل يتبع ما صح عنده ، وكل على هدى ، وكل يريد الله ، وقد نص جمع من مشايخنا الحنفية وغيرهم أنه إنما ينكر ما أجمع العلماء على تحريمه ، فأما الأمور التي اختلف العلماء في تحريمها وإباحتها فليست من المنكر الذي يجب تغييره وإنكاره ، وأن اللازم لكل مجتهد أن يتبع ما أدى إليه اجتهاده ، ولا ينكر على من خالفه فيه ، وأما غير المجتهد فعليه أن يقلد من سكنت إليه نفسه من المجتهدين ، والمحققون على أنه يجوز لغير المجتهد الترخص برخص المذاهب ، والاتفاق على جواز التقليد لغرض صحيح ، بل قالوا باستحبابه في مواضع ، من جملتها إذا كان فيه إكرام من يستحق الإكرام ، كما في واقعة السؤال ، فظهر بما حررناه أن من هتك حرمة مجلس ، أو هتك الأعيان ، وأسرف في إنكار ما أباحه جمع كثير من علماء السلف والخلف ، فهو الذي ارتكب المنكر ، إذ تصدى لما لم يحط به خبرا ، فوبخ ورذل ، وحز في غير مفصل ، كيف ومن شرط العالم ألذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر أن يكون عارفا بمواضع الخلاف والإجماع ، حتى لا ينكر ما رخص فيه بعض العلماء ، ويقطع بما لا قاطع فيه ، فيدخل تحت إنكار قوله تعالى [ أتقولون على/ الله ما6 لا تعلمون] (¬1) ، وأن يستعمل الرفق واللين كما بيناه في شرحنا على الدر المختار ، لقوله تعالى [فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى] (¬2) أمر تعالى باستعمال اللين مع فرعون أطغى الطغاة في ارتكابه أعظم المنكرات ، الذي هو دعوى الربوبية ، فمن استعمل الغلظة والفظاظة في إنكار أمر مختلف فيه فقد خرج عن مقتضى الشرع من كل وجه ، ونابذ الأدب الإلهي من كل وجه ، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل ، انتهى المراد منه .
पृष्ठ 8
أقول بحمد الله معتصما به ، متوكلا عليه : ما زعمه هذا المفتي من أن جماعة من علماء المالكية ذهبوا إلى إباحة سماع الأوتار تقول عليهم باطل ، فقد ذكر أبو العباس أحمد القرطبي أن القول بالإباحة لا يعرف إلا لإبراهيم بن سعد ، والعنبري ، ونص المراد من رسالته ، كشف القناع في أحكام السماع : اعلم أن ما يقال عليه غناء على ضربين ، أحدهما ضرب جرت عليه عادة الناس باستعماله عند محاولتهم أعمالهم ، وحملهم أثقالهم ، وقطع مفاوز أسفارهم ، يسلون بذلك نفوسهم ، وينشطون به على مشقات أعمالهم ، ويستعينون بذلك على مشاق أشغالهم ، كحداء الأعراب بإبلهم ، وغناء النساء لتسكين صغارهن ، ولعب الجواري بلعبهن يوم العيد ، وما شاكل ذلك ، فهذا النحو إذا سلم المغني به عن ذكر الفواحش والمحرمات، كوصف الخمر والقينات، فلا شك في جوازه ، وربما يندب إليه إذا حصل منه ما ينشط على أعمال البر ، ويرغب في تحصيل الخير ، كالحداء في الحج والغزو ، إلى أن قال : والضرب الثاني غناء يستعمله المغنون العارفون بصنعة الغناء ، المختارون لما رق من غزل الشعر ، الملحنون له بالتلحينات الأنيقة ، المقطعون له على النغمات التي تهيج النفوس وتطربها ، كحميات الكؤوس ، فهذا هو الغناء المختلف فيه على أقوال ثلاثة : أحدها أنه محرم ، وهو مذهب مالك ، قال أبو إسحاق الصباغ : سألت مالكا عما يترخص فيه / أهل المدينة من الغناء فقال : إنما يفعله عندنا الفساق 7 وقال : إذا اشترى جارية ، فوجدها مغنية كان له ردها بالعيب ، وهو مذهب سائر أهل المدينة في الغناء إلا إبراهيم بن سعد وحده ، فإنه كان لا يرى بالغناء بأسا ، وإلى تحريم ذلك ذهب أبو حنيفة ، وأهل العراق ، وإبراهيم النخعي ، والشعبي ، وحماد ، وسفيان الثوري ، وغيرهم ، لا اختلاف بينهم في ذلك ، وقال الحارث المحاسبي : الغناء حرام كالموسيقى ، إلى أن قال القول الثالث : الإباحة ، وهو المروي عن إبراهيم بن سعد ، والعنبري ، وهما شاذان ، ولا يلتفت إليهما ، لقوله صلى الله عليه وسلم (¬1) ( إن الشيطان مع الواحد ، وهو من الاثنين أبعد ) ، ولأن العنبري مبتدع في اعتقاده ، وهو غير مرضي في علمه ، وإبراهيم بن سعد ليس من أهل الفتيا ، وقد حكى أبو طالب المكي الإباحة عن جماعة من الصحابة : عبد الله بن جعفر ، وابن الزبير ، والمغيرة ، ومعاوية ، وغيرهم ، وقد فعل ذلك كثير من السلف صحابي ، وتابعي ، وقال : لم يزل الحجازيون عندنا بمكة يسمعون السماع في أفضل أيام السنة ، وهي الآيام المعدودات ، قال المعلى رحمه الله تعالى : وهذا إن صح فإنما هو مسموع على سماع النوع الأول لا الثاني ، وقد حكاه بعض الشافعية ، والقشيري عن مالك ، ولا يصح عنه بوجه ، ولا عن أحد من أصحابه ، ثم قال بعد نحو عشرين ورقة: المسألة الرابعة في حكم سماع آلات اللهو ، أما المزامير والأوتار والكوبة ، وهو طبل طويل ، ضيق الوسط ، ذو رأسين ، يضرب به المخانيث ، فلا يختلف في تحريم سماعه ، ولم أسمع عن أحد ممن يعتبر قوله من السلف ، وأئمة الخلف أنه يبيح ذلك ، وكيف لا يحرم سماع ذلك ، وهو شعار أهل الخمور والفسوق ، ومهيج للشهوات والفساد والمجون ، وما كان كذلك لم يشك في تحريمه ، ولا في تفسيق فاعله وتأثيمه ، انتهى .
وقد بسط الأدلة ، ورد أدلة الخصم ، وأشنع القول في ذلك ، فليراجعها من أحب .
पृष्ठ 10
وقال ابن الحاج في المدخل ما نصه : إن السماع / المعروف عند8 العرب هو رفع الصوت بالشعر ليس إلا ، فإذا فعل أحدهم ذلك ، قالوا : عمل السماع ، وهو اليوم على ما يعهد ويعلم ، ولأجل هذا قال الشيخ الإمام رزين الدين رحمه الله تعالى : ما أتى على بعض المتأخرين إلا لوضعهم الأسماء على غير مسمياتها ، وهو ذا بين ، ألا ترى أن السماع كان على ما تقدم ذكره ، وهو اليوم على ما نعانيه ، وهما ضدان لا يجتمعان ، ثم إنهم لم يكتفوا بما ارتكبوه ، حتى وقعوا في حق السلف الماضين ، رضي الله عنهم ، ونسبوا إليهم اللعب واللهو في كونهم يعتقدون أن السماع الذي يفعلونه اليوم ، هو الذي كان السلف رضوان الله تعالى عليهم يفعلونه ، ومعاذ الله أن يظن هذا بهم ، ومن وقع له ذلك فيتعين عليه أن يتوب ويرجع إلى الله ، وإلا فهو هالك ، ثم قال : وقد قال الشيخ أبو عبد الله القرطبي رحمه الله في تفسيره حين تكلم على قصة السامري في سورة طه : سئل الإمام أبو بكر الطرطوشي رحمه الله ما يقول سيدي الفقيه في مذهب الصوفية : واعلم حرس الله مددك أنه يجتمع جماعة من رجال ، فيكثرون من ذكر الله ، وذكر محمد صلى الله عليه وسلم ، ثم إنهم يوقعون بالقضيب على شيء من الأديم ، ويقوم بعضهم، ويتواجد حتى يقع مغشيا عليه ، ويحضرون شيئا يأكلونه ، هل الحضور معهم جائز ، أم لا ، أفتونا يرحمكم الله ، وهذا القول يذكرونه :
يا شيخ كف عن الذنوب ... قبل التفرق والزلل
واعمل لنفسك صالحا ... ما دام ينفعك العمل
أما الشباب فقد مضى ... ومشيب رأسك قد نزل
وفي مثل هذا وجوه ، الجواب :
पृष्ठ 11
يرحمك الله ، مذهب الصوفية بطالة وجهالة وضلالة ، وما الإسلام إلا كتاب الله وسنة رسوله ، وأما الرقص والتواجد فأول من أحدثه أصحاب السامري لما اتخذ لهم عجلا جسدا له خوار ، فقاموا يرقصون حواليه ، ويتواجدون ، فهو دين الكفار ، وعباد العجل ، وأما القضيب فأول من اتخذه الزنادقة ؛ ليشغلوا به المسلمين عن كتاب الله تعالى ، وإنما كان مجلس النبي صلى الله عليه وسلم مع / أصحابه كأنما على رؤوسهم الطير من الوقار ، 9 فينبغي للسلطان ونوابه أن يمنعهم من الحضور في المساجد وغيرها ، ولا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يحضر معهم ، ولا يعينهم على باطلهم ، هذا مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد ، وغيرهم من أئمة المسلمين ، وقال أيضا في كتابه المسمى النهي عن الأغاني : وقد كان الناس فيما مضى يستتر أحدهم بالمعصية إذا واقعها، ثم يستغفر الله ، ويتوب إليه منها ، ثم كثر الجهل ، وقل العلم ، وتناقص الأمر حتى صار أحدهم يأتي المعصية جهارا ، ثم ازداد الأمر إدبارا حتى بلغنا أن طائفة من إخواننا ، وفقنا الله وإياهم ، استزلهم الشيطان ، واستغوى عقولهم في حب الأغاني ، واللهو ، وسماع الطقطقة ، فاعتقدته من الدين الذي يقربهم إلى الله تعالى ، وجاهرت به جماعة المسلمين ، وشاقت به سبيل المؤمنين ، وخالفت العلماء والفقهاء ، وجملة الدين [ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا] (¬1) ، وقد سئل مالك رحمه الله عما يترخص فيه أهل المدينة من الغناء ، فقال : إنما يفعله الفساق ، ونهى عن الغناء واستماعه ، وأما أبو حنيفة فإنه يكره الغناء ، ويجعله من الذنوب ، وذلك مذهب أهل الكوفة سفيان ، وحماد ، وإبراهيم ، والشعبي ، لا اختلاف بينهم في ذلك ، إلى أن قال : وكان الشافعي رضي الله عنه يكره الطقطقة بالقضيب ، ويقول : وضعته الزنادقة ليشغلوا به عن القرآن ، وأما العود والطنبور وسائر الملاهي فحرام، ومستمعه فاسق ، ثم قال : فصل ، فإن قيل أليس قد روي عن جماعة من الصالحين أنهم سمعوه ، قلنا : ما بلغنا أن أحدا من السلف الصالح فعله، وهذه مصنفات أئمة الدين ، وأعلام المسلمين ، مثل مصنف مالك بن أنس وصحيح البخاري ، ومسلم ، وسنن أبي داود ، وكتاب النسائي / رضي الله عنهم إلى غيرها خالية من دعواكم ، وهذه10 تصانيف فقهاء المسلمين الذين تدور عليهم الفتيا قديما وحديثا في شرقي البلاد وغربيها ، فقد صنف المسلمون على مذهب مالك تصانيف لا تحصى ، وكذلك مصنفات علماء المسلمين على مذهب أبي حنيفة ، والشافعي ، وأحمد بن حنبل ، وغيرهم من فقهاء المسلمين ، كلها مشحونة بالذب (¬1) عن الغناء ، وتفسيق أهله ، فإن كان فعله أحد من المتأخرين فقد أخطأ ، ولا يلزم الاقتداء بقوله ، وترك الاقتداء بالأئمة الراشدين ، ومن هنا زل من لا بصيرة له ، نحتج عليهم بالصحابة والتابعين ، وعلماء المسلمين ، ويحتجون علينا بالمتأخرين ، سيما وكل من يرى هذا الرأي الفاسد خلو من الفقه ، عاطل من العلم ، لا يعرف مأخذ الأحلام ، ولا يفصل الحلال من الحرام ، ولا يدرس العلم ، ولا يصحب أهله ، ولا يقرأ مصنفاته ، ولا دواوينه ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (¬1) ( ما استرذل الله عبدا إلا حظر عليه العلم ) فمن هجر أهل العلم والحكمة ، وانقضى عمره في مخالطة أهل اللهو والبطالة كيف يؤمن على هذه المسألة وغيرها ، [وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله] (¬2) فيا من رضي لدينه ودنياه , وتوثق لآخرته ومثواه باختيار مالك بن أنس باختيار مذهبه إن كنت على مذهبه ، أو باختيار أبي حنيفة والشافعي وأحمد إن كنت على مذهبهم، كيف هجرت اختيارهم في هذه المسألة ، وجعلت أمامك فيها شهواتك ، وبلوغ أوطارك ، ولذاتك [وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ] (¬3) انتهى المراد منه، وهو في هذا المعنى بحرلا تنقضي عجائبه ، وفيما نقلناه كفاية ، ومن أراد الزيادة فليرجع إليه ، ولا يخفى أن الإنكار إنما هو على الصوفية الكاذبين ، وأما أهل الرسوخ والتمكين فمعاذ الله أن ينكر عليهم أحد ، فإنهم صفوة الأمة ، وخيار المسلمين ، وأكثر العلماء منهم ، وقد بين مذهبهم أتم البيان في هذا الكتاب ، وذكر كلاما ما رأيت / أحسن منه ، 11 فراجعه إن شئت ، ولنرجع لكلام المفتي ، فنقول :
قوله : حكى الإمام ابن عرفة في مختصره عن ابن حبيب إباحة سماع المزهر ، وهو العود ، كما في القاموس .
पृष्ठ 14
من عجائب الغرائب ، فإن نسبة هذا الفرع لابن حبيب في أكثر الكتب المتداولة ، ومعناه ما ذكره الفقهاء ، ففي نقل الحطاب عن الأبي ما نصه : تنبيه : المعروف في اللغة أن المزهر العود ، ولم أر من أهل اللغة من ذكر خلافه ، وكتب الفقهاء مخالفة ذلك ، فإنهم إنما يعنون به الدف المربع المغلوق ، وصرح به يحيى بن مزين المالكي ، انتهى ، ونقله عن الأجهوري ، ونقل عن الجزولي أنه فسره بالمربع المغشى من الجهتين ، انتهى ، وهو بمعناه ، فيا عجبا لمن يدعي العلم والتحصيل ، يستدل على أحكام الشريعة بما في القاموس ، ويترك كتب الفقه الموضوعة لذلك .
पृष्ठ 15
وقوله : بل نقل حضور مجلس العيدان إلى آخر ما نقل عن المختصر. أعجب من ذلك ، وأغرب ، وما الحامل على ذلك إلا عدم الاستحياء ، والخوف من الله عز وجل ، وقد اشتهر النقل عن الإمام أن الغناء إنما يفعله بالمدينة الفساق ، ونص على كراهته في المدونة ، ورد شهادة فاعله حسبما نقل ذلك عنه أكبر أصحابه، وفي الحطاب ما نصه عند قول المصنف في مبطلات الشهادة وسماع غناء ، قال في التوضيح : الغناء إن كان بغير آلة فهو مكروه ، ولا يقدح في الشهادة بالمرة الواحدة ، بل لا بد من تكرره ، وكذا نص عليه ابن عبد الحكم ؛ لأنه حينئذ يكون قادحا في المروءة ، وفي المدونة ترد شهادة المغني والمغنية ، والنائح والنائحة إذا عرفوا بذلك ، المازري (¬1) ، وأما الغناء بآلة ، فإن كانت ذات أوتار كالعود والطنبور فممنوع ، وكذا المزمار ، والظاهر عند بعض العلماء أن ذلك يلحق بالمحرمات ، وإن كان محمد أطلق في سماع العود أنه مكروه ، وقد يريد بذلك التحريم ، ونص محمد بن عبد الحكم على أن سماع العود ترد به الشهادة ، قال : إلا أن يكون ذلك في عرس ، أو صنيع ، وليس معه شراب مسكر ، فإنه لا يمنع من قبول الشهادة ، قال : وإن كان مكروها على كل حال ، وقد يريد بالكراهة التحريم ، كما قدمناه / انتهى ، ونقله ابن 12 عرفة أيضا ، انتهى .
पृष्ठ 16
قلت : لا يخفى عليك أن التحريم في كلام المازري معناه الكبيرة ، بدليل ذكره المنع أولا ، فالاحتمالان الملوح بهما في كلام ابن عبد الحكم هما كونه صغيرة أو كبيرة ، لا التحريم وكراهة التنزيه ؛ لأن ذلك لا يصح مع قوله : على كل حال ، إذ الظاهر منه كان هناك مسكر أو لا ، ومع وجود المسكر لا يصح كراهة التنزيه أصلا على ما هو المعلوم من نصوص المذهب وقواعده ، ومثل هذا التعبير كثير في كلام أهل المذهب ، كما لا يخفى على المطلع على كلامهم، العارف باصطلاحاتهم ، فليفهم من كان ذا فهم ، وما علينا إذا لم تفهم البقر ، وقد نقل الأجهوري في شرحه هذه الحكاية ، وقال عقبها : قلت : بين الخطيب وبين إبراهيم مفاوز ، تحتاج لمعرفة رجالها ، هذا مع ما في الحكاية من السماجة ، ومن علم حال الإمام وجلالته قطع بعدم صحتها ، وقد قال رضي الله عنه : ما جالست سفيها قط ، والعجب من ابن عرفة كيف راح عليه ذلك ! ولا حول ولا قوة إلا بالله . قلت : ولما ذكر ابن غازي في تكميل التقييد كلام ابن عرفة المتقدم ، واختصر منه بعض شيء ، قال : طويت ذكر بقية الحكاية لسماجتها ، ومنافاتها لحال الإمام مالك ، وكان من حق ابن عرفة أن لا يذكر ذلك ، على أن إبراهيم هذا وأباه لم يخلوا من الكلام فيهما ، فقد قال أبو جعفر العقيلي : إبراهيم بن سعد بن إبراهيم الزاهدي ، قال أحمد بن حنبل : ذكر عند يحيى بن سعيد فكأنه ضعفه ، وأثنى عليه أحمد ، وروى مرة عن وكيع عنه ، ثم تركه ، انتهى كلام الأجهوري .
पृष्ठ 17
قلت : فحيث كانت هذه الحكاية مردودة مقطوعا بعدم صحتها ، معترضا على ناقلها ، فما وجه نقلها مسلمة ، والاحتجاج بها ، ومعلوم أن عدالة الخطيب لا تقضي بصحة كل ما في تاريخه ، إذ من المعلوم حتى للعوام أن كتب التاريخ لم توضع على شرط الصحة ، بل تجمع الصحيح وغيره ، وعدالة إبراهيم بعد تسليمها لا تقضي بصحة ما يقول فيه أخبرني مخبر حسبما هو موجود في جواب هذا المفتي بخطه ، فإن هذا لا يقبل إجماعا كما في كتب الأصول ، وبعد هذا كله فإن كان الغناء والضرب بالعود صح عند إبراهيم ، فليس بعدل ، ولا مقبول الشهادة عندنا حسبما نص على ذلك في المدونة إمامنا ، فلا / تقبل 13 شهادته عليه، وتعديل غيره لا يلزمه ، وإن لم يثبت ذلك عنه ، سقط الاحتجاج ، وارتفع النزاع ، وكفى الله المؤمنين القتال ، ثم بعد إرخاء العنان ، وتسليم هذا الهذيان ، فما مراد المفتي بالغناء الذي فعله مالك والجلة ، فإن كان المراد غناء العرب ، فهذا خروج عن الموضوع ، وإن كان المراد غناء أهل الصناعة ، أعني غناء المخانيث والعشاق ، وشربة الخمر ، والفساق ، فخيبة الله على من ظن هذا الظن بالإمام ما أخسف عقله ، وما أقل حياءه ، ولعنة الله على من الحق نقصا بأحد من أئمة الدين ، وعلماء المسلمين .
وقول المفتي : وهذا التعديل من ابن عرفة مشعر بميله إلى الإباحة.
पृष्ठ 18
أدل دليل على فساد التصور ، وعدم التحصيل لما عرفت من أن النقل غير مقبول من جهات متعددة ، وكون الإمام ابن عرفة يترك جميع نصوص المذهب المدونة وغيرها ، ويميل لما لم يقله أحد شيء يستحي العاقل أن يتفوه بمثله ، ووجه الإشعار لم أفهمه ، فإن كان مجرد عدالة من ذكر فالإمام وأصحابه أيضا عدول ، وسل عنهم الناس ، وإن كنت ترى أن الإمام ، وجميع أهل مذهبه ليسوا عدولا ، فلا أدري ما أقول لك ، ما كل نطق جواب ، جواب ما يقبح السكوت ، هذا ومختصر ابن عرفة ليس موجودا في يدي ، ولا أعلم له وجودا في بلدي ، فإن كان عندك فاطلب المسألة فيه من مظنتها ، فإن نص على الإباحة فانسبها إليه تصريحا لا إشعارا ، وإن وافق أهل المذهب على التحريم فلا تتقول عليه ، وإن لم يكن عندك فاسكت، فإنه لا معنى لهذا التجاري والظن السوء بمثل هذا الإمام ، واعلم أن النصوص في هذا المعنى كثيرة ، منها ما تقدم ، ومنها ما في تبصرة ابن فرحون عند الكلام على موانع قبول الشهادة ونصه : ومنه سماع القيان عند ابن القاسم ، وأشهب ، وقال ابن عبد الحكم : من سمع صوت العيدان أو حضرها لم تجز شهادته ، وإن لم يكن معها نبيذ ، إلا أن يحضرها في عرس أو صنيع ، فلا أبلغ به رد الشهادة إن لم يكن معها نبيذ ، وإن كان مكروها على كل حال ، انتهى .
पृष्ठ 19
وقد تقدم هذا في نقل الحطاب عن المازري ، ومن النصوص ما في شرح الأجهوري : الثانية من المسائل ، قال عياض في الإكمال : صفة الغناء الذي يباح من / غير خلاف ما كان ليس فيه تشبيب ، ولا رفث ، وإنما هو من 14 أشعار العرب ، والمفاخرة بالشجاعة والغلبة ؛ لأن هذا لا يهيج شرا ، ولا إنشاده من الغناء المختلف فيه ، وإنما رفع الصوت بالإنشاد ، ثم ذكر صفة الممنوع ، فقال : هو ما جرت به عادة المغنيات من التشويق واللهو ، أو التعريض بالفواحش ، والتشبيب بأهل الجمال ، مما يحرك النفوس ، ويبعث الهوى ، كما قيل : الغناء رقية الزنا ، أو يكون فيه تمطيط وتكسير ، وعمل يحرك الساكن ، ويبعث الكامن ، أو اتخذه صناعة وكسبا ، والترنم على عادة العرب من الغناء المختلف فيه ، وقد استجازت الصحابة رضي الله عنهم غناء العرب المسمى بالنصب ، وهو إنشاد بصوت رقيق ، فيه بعض تمطيط ، وأجازوا الحداء ، وفعلوه بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي هذا كله إباحة مثل هذا ، وما خف منه ، ولم يكن لصاحبه عادة ، وهذا ومثله لا يجرح به الشاهد ، ولا يقدح في العدالة ، وكل هذا إذا كان الغناء بغير آلة ، وإلا حرم ، انتهى .
وعلى هذا فقول المصنف في التوضيح : الغناء بآلة حرام ، وبغيرها مكروه يحمل على هذا ، انتهى.
واستيعاب النصوص لا يمكن ، وفي هذا كفاية ، ومن أحب الإكثار فليراجع كتب المذهب .
وقوله : قال أبو بكر بن العربي .. الخ .
पृष्ठ 20
هو من جملة ما في رسالة أبي المواهب ، فاللائق نسبته لها ، ولا يخفى على من له أدنى فهم أنه مع ضعفه ، ليس فيه ما يدل على الإباحة ، فإن غايته أنه لم يبلغ به التحريم ، بعد أن جعله من جملة مزمار إبليس ، وهل يكون مزمار إبليس مباحا ؟ والذي كان بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع إعراضه بوجهه الكريم إنما هو غناء خفيف من صغار في يوم عيد ، والآلة دف لا عود بأوتار ، هذا وحيث اعترف المفتي بفضل أبي المواهب فليقبل منه ما يقول ، فمن جملة ما في رسالته لما تكلم على العود : وقد اختلف العلماء فيه ، وفيما جرى مجراه من الآلات المعروفة ، ذوات الأوتار ، فالمشهور من المذاهب الأربعة أن الضرب به وسماعه حرام ، إلى أن قال : ونقل عن مالك سماعه ، وليس ذلك بالمعروف عند أصحابه ، انتهى .
पृष्ठ 21
على أن رسالة أبي المواهب هذه وقعت لابن حجر الهيتمي ، فردها حرفا حرفا ، ولم يقبل منها عدلا ولا صرفا ، وكتب في ذلك تأليفا كبيرا من جملة ما فيه القسم /الثالث عشر ، الأوتار والمعازف كالطنبور والعود والرباب 15 والطنجة والسنطير ، وغير ذلك من الآلات المشهورة عند أهل اللهو والسفاهة والفسوق ، وهذه كلها محرمة بلا خلاف ، ومن حكى فيها خلافا فقد غلط ، أو غلب عليه هواه حتى أصمه وأعماه ، ومنعه هداه ، وزل به عن سنن تقواه ، وممن حكى الإجماع على تحريم ذلك كله الإمام أبو العباس القرطبي ، وهو الثقة العدل ، فإنه قال كما نقله عنه أئمتنا وأقروه : وأما المزامير والأوتار والكوبة فلا يختلف في تحريم سماعها ، ولم أسمع عن أحد ممن يعتبر قوله من السلف ، وأئمة الخلف أنه يبيح ذلك ، وكيف لا يحرم شعار أهل الخمور والفسوق ، ومهيج الشهوات والفساد والمجون وما كان كذلك لم يشك أحد في تحريمه ، وتفسيق فاعله وتأثيمه ، وممن نقل الإجماع على ذلك أيضا إمام أصحابنا المتأخرين أبو الفتح سليم بن أيوب الرازي ، فإنه قال في تقريبه ، بعد أن أورد حديثا في تحريم الكوبة : وفيه حديث ( إن الله يغفر لكل مذنب إلا صاحب عرطبة أو كوبة ) ، والعرطبة العود ، ومع هذا فإنه إجماع ، انتهى .
पृष्ठ 22
ثم قال : وأما ما حكاه ابن طاهر من إجماع أهل المدينة ، فهو من كذبه وخرافاته ، فإنه كما مر رجل كذاب ، يروي الأحاديث الموضوعة ، ويتكلم عليها بما يوهم العامة صحتها ، كما مر في مبحث الغناء والرقص ، وأيضا فهو مبتدع إباحي ، لا يحرم قليلا ولا كثيرا ، ومن ثم قال بعضهم فيه أنه رجس العقيدة نجسها ، ومن هذا حاله لا يلتفت إليه ، ولا يعول عليه ، ومن ثم قال الأذرعي عقب حكايته الباطلة الكاذبة عن إجماع أهل المدينة ، وعن الشيخ أبي إسحاق ، وهذا من ابن طاهر مجازفة ، وإنما فعل ذلك بالمدينة أهل المجازفة والبطالة ، وكل من ترجمه لم يذكر شيئا من ذلك ، فيما نعلم ، ومن المجازفة قول ابن طاهر : إن ذلك مشهور عنه ، ودعوى ابن طاهر أن ذلك إجماع من أهل المدينة من حيز دعواه إجماع الصحابة والتابعين على إباحة الغناء ، والهوى يعمي ويصمي ، إلى أن قال : إذا تأملت ما تقرر علمت أن قول صاحب ذلك الكتاب : وذهبت طائفة إلى جواز سماع / العود وما جرى مجراه من الآلات المعروفة16 ذوات الأوتار كذب صريح ، وجهل قبيح لما مر من أن ذلك محرم بالإجماع ، وأنه لم يقع خلاف إلا في العود ، وأن ذلك الخلاف باطل ، لا يعتد به في حكاية الإجماع .
وقوله : ونقل سماعه عن فلان وفلان ، وذكر جماعة من الصحابة ، والتابعين ، وغيرهم .
पृष्ठ 23
جوابه أن هذا كله نقل باطل ، واحتجاج بالتمويهات ، والتلبيسات ، وكيف يسوغ لمتدين ، فضلا عمن يدعي التصوف والمعرفة أن يحتج على تعاطي الأشياء المحرمة عند أئمة المذاهب الأربعة وغيرهم بمجرد قوله : ونقل ذلك عن فلان وفلان . ما ذاك إلا غباوة ظاهرة ، وجهل مفرط ؛ لأن اللائق لمن يريد أن يفعل شيئا يخالف فيه المشهورالمقرر في مذاهب العلماء أن يحتج عليهم بنقل صريح، أو حديث صحيح ؛ لأنه إما أن يكون مجتهدا ، أو مقلدا ، فإن كان مجتهدا بين أولا أن المسألة غير مجمع عليها ، وأثبت النقل بطريقه المعتبر عند أهل الحديث وغيرهم ممن يعتقد به أنه لا إجماع في المسألة، ثم بين حجته من كتاب أو سنة،أو غيرهما بطريقه المعتبرة عند أئمة الأصول وغيرهم ، وإن كان مقلدا بين صحة الحل عن أحد من العلماء المجتهدين ، ثم قال : أنا مقلد لهذا الإمام ، حتى يرتفع الإنكار عنه ، وأما مجرد قوله نقل ، فهذا كلام لغو ، لا يفيده شيئا إلا في غرضه الفاسد ، وهو ترويج أفعاله وأقواله الكاذبه الباطلة على من لا يفرقون بين نقل وصح ، ويعتقدون أن الكل من واد واحد ، وهيهات ليس الأمر بالهوينا ، كما يظن هذا الرجل ، وأضرابه ، بل بينه وبين إثبات الحل عن واحد ممن ذكر مفاوز تقطع دونها الأعناق ، إذ لو أقام طول عمره يفحص ويفتش ما ظفر بنقل الحل من طريق صحيح عن واحد من العلماء فضلا عن هؤلاء الكثير الذين عددهم بمجرد الدعاوي الكاذبة ، وممن سبقه إلى ذلك كابن حزم ، وابن طاهر ، وليته عرف حال هذين الرجلين ؛ ليجتنب متابعتهما ، فإن كلا منهما مبتدع ضال ، أما ابن حزم فالعلماء لا يقيمون له وزنا ، كما نقله عنهم المحققون كالتاج السبكي وغيره ؛ لأنه وأصحابه ظاهرته محضة ، تكاد عقولهم أن تكون مسخت ، ومن وصل إلى أن يقول : إن بال الرجل في الماء /17 تنجس ، أو في إناء ثم صبه في الماء لم يتنجس ، كيف يقام له وزن ، ويعد في العقلاء فضلا عن العلماء ، ولابن حزم هذا وأضرابه من أمثال هذه الخرافات الشيء الذي لا ينحصر ، ومن تأمل كذبه على العلماء ، سيما إمام أهل السنة أبو الحسن الأشعري علم أنه الأولى به وبأمثاله أن يكونوا في حيز الإهمال ، وعدم رفع رأس لشيء صدر منهم ، وأما ابن طاهر فإن العلماء بالغوا في تضليله وتسفيهه بما مر بعضه ، ويأتي بعضه ، من ذلك أنه رجس العقيدة نجسها ، وأنه رجل إباحي ، لا يتقيد بدليل، ولا يقوى على تعليل ، بل كل ما وسوس له به الشيطان اتخذه مذهبا ، وبرهن عليه بالأشياء التي يعتقد كذبها ، وإنما يموه على من علم عنده ؛ ليوهمه صحة ذلك .
ثم قال : وقول صاحب ذلك الكتاب أن الجل نقل أيضا عن أكثر فقهاء المدينة .
هذا في غاية من الكذب والتدليس ، لأنه إن قلد ابن طاهر في النقل فابن طاهر إنما عبر بإجماع أهل المدينة ، لا بأكثرهم ، وإن قلد العلماء في تكذيب ابن طاهر في النقل ، فأهل المدينة مبرؤون من نسبة ذلك إليهم ، فترك هذا الرجل هاتين المقالتين ، واختراعه النقل عن أكثر فقهاء المدينة غاية في سوء الصنيع المبني على التدليس ، وحال هذا الرجل يأبى صدور مثل ذلك عنه ، لكن الهوى يوجب أكثر من ذلك .
وقوله : ونقل عن مالك سماعه ، وليس بالمعروف عند أصحابه .
كأنه لم يطالع تفسير القرطبي في سورة الروم ، ولا المسألة لابن فضل الله في مبحث المغنين المأخوذ منه رد ذلك المحكي بأنه اشتباه ، فإن شخصا اسمه مالك في زمن الإمام كان مغنيا ، وبفرض صحة ذلك ، وهو بعيد جدا فالعبرة بآخر أحوال الأئمة وأقوالهم ، والحاصل أنه لا حجة له في هذا النقل عن مالك مطلقا ، فكان اللائق صون إمامه عن هذا الذي أشار إليه ونقله عن ابن العربي في شرح الترمذي ما يوهم الحل ، وليس كذلك كما هو ظاهر بأدنى تأمل ، وما مثال هذا إلا ما في أمثال العوام : الغريق يتعلق بالقش .
وقوله : حكى إباحته الماوردي عن بعض الشافعية .
पृष्ठ 25
هذا من غاية التدليس والبهت ، فإن الماوردي عقب هذه الحكاية بتزييف هذا القول وإبطاله، وكأن هذا الرجل ظن أن أحدا لا يتعقب كلامه، ولا يرد عليه ، وليس كذلك ، فقد أخبر الصادق المصدوق أنه لا تزال طائفة من/ أمته18 ظاهرين على الحق إلى يوم القيامة ، أي قربه ، لا يضرهم من خالفهم ، وبأن الله تعالى وعده بأن كل من يوفق الله تعالى فيه عدولا، يحملون العلم ، وينفون عنه تحريف الغالين ، وإلحاد الملحدين ، وشبه المبطلين .
وقوله : وقال الأستاذ أبو منصور البغدادي ، هو نظير ما قبله .
وقوله : ونقل عن الشيخ أبي إسحاق الشيرازي أنه كان مذهبه ، وأنه مشهور عنه ، وأنه لم ينقل عن أحد من العلماء أنه أنكره عليه ، حكاه ابن طاهر المقدسي .
جوابه ما سبق ، أن هذا النقل منه عن هذا العالم الرباني كذب صريح ، كيف والشيخ مصرح بتحريم سماع العود ، وأنه لا خلاف فيه في كتب الفقه ، ومن ثم بالغ العلماء في تكذيب ابن طاهر في ذلك ، وأن هذا من خرافاته وكذباته الشنيعة، التي تصدر عن المجازفة ، ورقة الديانة ، ومن مبالغته في كذبه قوله : أنه كان مشهورا عن الشيخ ، وأنه لم ينقل عن أحد من العلماء أنه أنكره عليه ، ومن تدليس هذا الرجل الناقل عن ابن طاهر أنه نقل كذبه ، ولم ينقل تكذيب العلماء له في هذا النقل ، ومبالغتهم في الرد عليه .
قوله : وكان إبراهيم بن سعد من علماء المدينة يقول بإباحته ، ولا يحدث حديثا حتى يضرب به .
पृष्ठ 26