وكان قد جهده التعب فنزل عن المنبر واحتسى جرعة ماء بعد أن جف ريقه من تعبه طول النهار، ولكن خاطر السلطة الجديدة وأنه الحاكم للقطر السوداني كان يؤنسه ويشد من عزمه، ولم يترك المنبر إلا بعد أن ألح عليه كبار أتباعه بذلك.
وقبل أن يترك المنبر طلب أمراءه وجعلهم يقسمون يمين الولاء على حدة، وأمرهم بلزوم طاعته وطاعة أخيه يعقوب، ونصح لهم بأن يعيشوا على وفاق بعضهم مع البعض لأنهم أغراب؛ وذلك لكي يكافحوا دسائس أهل البلاد التي نزلوا فيها، ثم حضهم على لزوم تعاليم المهدي.
وكنا قد تأخرنا إلى ما بعد منتصف الليل، فلم أرغب في الذهاب إلى منزلي، وانطرحت على الأرض حيث أنا أسمع روايات الناس عن موت المهدي واستعدادهم لطاعة الخليفة.
والآن يمكننا أن نتساءل، ماذا فعل المهدي لإحياء الدين؟ وما هي تعاليمه؟
لقد دعا إلى الزهد، وكان يجحد الملذات الدنيوية وغرور هذا العالم، وهدم النظام الاجتماعي ونظام الموظفين، وسوى بين الأغنياء والفقراء، واختار الجبة المرقعة لباسا عاما لجميع الناس، وضم المذاهب الأربعة: المالكي والشافعي والحنفي والحنبلي، إلى مذهب واحد، ولم يكن اختلافها كبيرا، فإنه مقصور على كيفية الوضوء والسجود وكيفية عقد الزواج وما إلى ذلك. واختار بضع آيات من القرآن سماها الراتب، وكان يأمر المصلين بتلاوتها بعد صلاة الصبح وصلاة العصر.
وقد سهل على الناس عملية الوضوء ومنعهم من الشراب، وكان السودانيون لا يعقدون زواجا بدون أن يشربوا. وأنزل قيمة المهر إلى عشرة ريالات وثوبين للبكر، وخمسة ريالات وثوبين للثيب. ومن أعطى أكثر من ذلك كان يصادر في أملاكه. وقصرت وليمة العرس على طبق من اللبن وآخر من البلح؛ وكان يقصد تيسير الزواج. وكان يحتم على الآباء والأوصياء زواج بناتهم، وهن بعد صغيرات.
ومنع الرقص واللعب، وكل من خالف ذلك يعاقب بالجلد وتصفى أملاكه. وكان السباب يعاقب عليه بحساب ثمانين جلدة لكل كلمة بذيئة والحبس سبعة أيام. ومنع استعمال الخمور والمريسة وتدخين التبغ، ومن خالف هذه الأوامر يعاقب بالجلد والحبس ثمانية أيام ومصادرة أملاكه. وكان السارق يعاقب بقطع يده اليمنى، فإذا عاد إلى السرقة قطعت اليسرى.
ولما كانت عادة الرجال في عرب السودان إرسال شعورهم أمر المهدي بحلقها، وكذلك أمر بمنع النوح على الموتى أو ندبهم، ومنع الولائم التي تقام في المآتم، ومن خالف ذلك تصفى أملاكه.
ولما كان المهدي يخشى فرار جنوده، لعلمه بما يقاسونه من المعيشة التي رتبها لهم، ولعلمه أيضا بأن مذهبه قد لا يعد صحيحا في نظر المسلمين الآخرين؛ منع السودانيين من الحج إلى مكة، ومنع المواصلات بين السودان والأقطار المحيطة به.
وكان يعاقب كل من يصرح بالشك في صحة مذهبه ويشهد عليه اثنان بقطع يده اليمنى وساقه اليسرى، وكان يستغني أحيانا عن شهادة الشاهدين بما يدعيه من إيحاء النبي له وإثباته جناية المتهم أو براءته.
अज्ञात पृष्ठ