وكان جيش النجومي يسير ببطء لصعوبة جمع الرجال، وقد أضره أيضا خبر قتل الأمير حمد واد فايد وهزيمة الدراويش في واد حبشي أمام باخرة واحدة. وقد قيل لي بعد ذلك عند عودتي إلى مصر إن ربان الباخرة «صفية» عند إحرازها ذلك النصر كان اللورد تشارلس بريسفورد. ويقال إن النجومي عندما سمع بهذا النصر قال لرجاله إنه إذا عزم الإنجليز على الدخول إلى السودان فإنهم بالطبع سيقاتلونهم، أما إذا اتجهوا نحو الشمال فإنه لا قتال بينهم وبين رجاله، بل يحتلون البلاد التي جلوا عنها، وتأخر في سيره حتى بلغ متمة بعد جلاء الإنجليز عنها وعن جوبات، ومع أنه طاردهم إلى أبو كلبة فإنه لم يشتبك معهم في قتال.
وعندما جلت طلائع الإنجليز تحقق المهدي أن السودان بأجمعه قد أصبح ملكه، فطفح عندئذ سرورا، وأعلن هذا الخبر في المسجد، وأخذ يصف للدراويش فرار الإنجليز وكيف أن النبي قد أوحى أن الله قد خرق قربهم فماتوا جميعهم عطشا.
وفي اليوم الخامس لسقوط الخرطوم رأيت ثلة من الجنود أمام خيمتي الممزقة، فوضعوني على حمار وأنا في قيودي وساروا بي إلى السجن العمومي، وهناك طوقوا حولي عمودا وحلقة من الحديد يبلغ وزنهما ثمانية عشر رطلا، وكان هذا القيد الجديد يسمى «الحاجة فاطمة»، وكان لا يقيد به إلا من كانت جناياتهم خطيرة أو من يوصفون بالعناد من المسجونين.
وكنت أجهل السبب في سقوط مكانتي في عين الخليفة إلى هذا الحد، ولكن علمت بعد ذلك أن غوردون عندما عرف من خطابي أن القوة التي أرسلها المهدي إلى الخرطوم غير قوية أذاع هذا الخبر بين الجنود في خطوط الدفاع، وهذا المنشور الذي نشره غوردون وقعت منه نسخة في يد حمد واد سليمان وكيل بيت المال فسلمها للمهدي والخليفة، فتأكدت لديهما عندئذ الشبهات في خيانتي وتدبيري السابق لكي ألتحق بغوردون.
ووضعوني في زاوية من الزريبة الكبيرة - أي السجن العمومي - ومنعوني من محادثة أي إنسان بحيث إذا خالفت هذا الأمر فإن العقاب هو الجلد. وكنا في الليل أربط أنا وجميع المسجونين في سلسلة طويلة إلى شجرة، وفي الصباح يفك الرباط، وكان يربط معي بعض العبيد الذين قتلوا أسيادهم، وكنت أرى لبتون بك في زاوية أخرى من الزريبة وكان قد مضت عليه مدة في هذا المكان حتى ألفه، وكان قد أذن له في مخاطبة جميع من يريد باستثنائي أنا وحدي.
وفي اليوم الذي دخلت فيه السجن أفرج عن صالح واد المك، وكان أخوه وابنه وجميع قرابته تقريبا قد قتلوا، وأذن له أن يخرج ويبحث عله يجد أحدا منهم.
وكان طعامي سيئا للغاية، فشعرت كأني قد وقعت من الرمضاء في النار، فقد كنت قبلا أشكو من الجوع الذي كان يصيبني من وقت لآخر، ولكن الآن صرت لا أجد طعاما سوى الذرة الجافة آكلها كما يأكلها العبيد، وكان مع ذلك مقدار ما يعطى لي قليلا جدا. ورأتني وأنا في هذه الحال زوجة أحد السجانين، فأخذتها الشفقة وصارت تأخذ مني الذرة وتسلقه ثم تعيده إلي طريا فآكله، ولكن لم يأذن لها زوجها بأن تقدم لي طعاما آخر؛ لئلا يعرف رئيس السجانين ذلك فيبلغ الخبر للخليفة. وكنت أنام على الأرض وأضع تحت رأسي حجرا كوسادة ، وكان هذا يحدث لي صداعا مستمرا. ولكن حدث في أحد الأيام ونحن نساق إلى النهر لكي نغتسل أني وجدت في الطريق بطانة بردعة، يظهر أن صاحبها ألقاها لعدم فائدتها، فحملتها وخبأتها تحت ذراعي، ونمت عليها تلك الليلة كما ينام الملك على وسادة من زغب.
ولكن أحوالي أخذت في التحسن؛ فإن رئيس السجانين الذي لم يكن يكرهني صار يأذن لي بالتحدث مع سائر المساجين، وخفف قيودي. أما «الحاجة فاطمة» وأختها فكانتا لا تزالان في مكانهما، ولا يمكنني أن أقول إنهما كانتا تزيدان في رفاهيتي في تلك الأشهر المضنية التي قضيتها في السجن.
وبعد أيام حدثت حركة بين السجانين وأخبرني رئيسهم أن الخليفة سيأتي قريبا لزيارة السجن، فسألته عما يجب أن أفعله أمامه حتى أسترضيه، فنصح لي بأن أجيب فورا على الأسئلة التي توضع لي، وألا أشكو أي شكاية، وأن أبقى منكسرا ذليلا في الزاوية التي خصصت لي. وحوالي الظهر حضر الخليفة ومعه إخوته وملازموه وصار يطوف على الزوايا ويرى بعينيه ضحايا عدالته، وبدا لي من مسلك المساجين أن رئيس السجن نصح لهم بمثل ما نصح لي؛ فقد كانوا هادئين في مكانهم وقد حلت سلاسل البعض وأفرج عنهم، ثم اقترب الخليفة مني وهز رأسه إلي بعطف وقال: «عبد القادر، أنت طيب.»
فقلت: «أنا طيب يا سيدي.»
अज्ञात पृष्ठ