ولكن إذا وصل إلى دارة بعض الفارين وأخذوا يشيعون الإشاعات المقلقة عن حالتنا، فيجب اعتقالهم حتى أعود، ثم كتبت أنا بضعة أسطر لجوتفريث روث أصف له الحالة وأخبره بأني سأرجع إلى دارة قريبا مع الباقي من جيشنا، وأنه يجب أن يتشجع ويبعث الرجاء في نفوس من حوله، وكتبت أيضا بضعة أسطر لأمي وإخوتي أودعهم؛ لأنه لم يكن من الممكن أن نتنبأ بما تنتهي إليه هذه القلاقل، ورجوت جوتفريث روث أن يوصل هذه السطور في حالة قتلي إلى أهلي في وطني.
وتناولت الخطابات الثلاثة وقمت إلى عبد الله أم درامة شيخ العرب المصرية الذين يقطنون قريبا من دارة، فأيقظته وقلت له: «أين أخوك سلامة؟»
فقال وهو يشير إلى رجل نائم في جانبه: «هاكه» ثم أيقظه.
فقلت: «يمكنك يا سلامة أن تخدمني الآن أجل خدمة، وهي خدمة تفيدك أنت أيضا؛ إني أريد منك أن تأخذ هذه الخطابات التي تراها وتذهب بها إلى دارة، وتسلمها للرجل الأوروبي المسمى روث وقد رأيته معي مرارا، واركب جوادي الذي كثيرا ما مدحته في هذه المهمة، وعليك أن تسافر الآن، وعندما تبلغ خط العدو المحيط بنا الآن اركض جوادك؛ فإنهم كلهم نيام فيمكنك أن تختفي في الظلام قبل أن يعدوا خيولهم للعدو وراءك، ومتى جزت خطوطهم فأنت آمن، وعندئذ تبلغ دارة في بحر يومين، وسأكافئك بإعطائك فرسي السوداء التي في الإصطبل في دارة.»
وبينما أنا أتكلم كان سلامة يشد حزامه على وسطه وكل ما قاله لي: «أين الخطابات؟»
فناولتها له فأخذها وقال: «إن شاء الله وبمعونة الله سأوصل هذه الخطابات إلى أصحابها، ولكني أفضل أن أركب فرسي؛ فإنه وإن لم يكن يجري بسرعة فرسك إلا أنه يقوى على حملي، فهو يعرفني وأنا أعرفه، وفي مثل هذه المهمة يكون التعارف مفيدا.»
وأخذ يسرج فرسه، وكتبت أنا رقعة إلى روث وطلبت منه أن يسلم الفرس السوداء لحامل الخطابات وناولتها لسلامة بعدما أخبرته بمضمونها، ثم قاد فرسه إلى الباب وكان هناك سيد أغا فولة يتململ على فراشه؛ إذ كان مجروحا في ساقه اليمنى وذراعه اليسرى، فأخبرته بمهمة سلامة فأمر له بفتح الباب، وامتطى سلامة فرسه وحمل في يده اليمنى رمحه وفي اليسرى جملة مطارد صغيرة يزرق بها العدو على بعد وشرع في السير.
فقلت له: «مع سلامة الله.» فقال: «أنا واثق بالله.» واتأد في سيره أولا حتى اقترب من خطوط العدو وهو يسير على حذر، ثم سمعت دبدبة سريعة ثم عيارا أو عيارين، ثم خيم السكوت كأنه الموت! فقلنا جميعا: «ليكن الله معه.» وعدنا إلى الزريبة وقد بلغ منا الإعياء، وما هو أن انطرحنا حتى نمنا.
ولما استيقظت في الفجر وجدت الرجال يشتغلون في التحصين، وكان كما تنبأت، فإن العدو عاود الهجوم، ونشط إطلاق النار من الجانبين مدة ، ولكن بالنسبة لمكاننا المشرف اضطر العدو إلى التقهقر بعد أن أوقعنا به وكبدناه خسارة جسيمة، وقد قتل وجرح منا عدد قليل، وكان من القتلى علي واد حجاز وهو جعالي شجاع، ولما كانت نيتنا البقاء هنا بضعة أيام، فإن رجالنا جدوا في تحصين الزريبة، وأخذنا ندفن من ماتوا منا، وكان الفساد قد انتشر في أجسامهم وامتلأ الهواء برائحتهم.
وقضينا في الزريبة خمسة أيام كان العدو يهاجمنا فيها مرة أو مرتين كل يوم، وقد حدث في اليوم الثالث أن كريمة نور قائد مدفعية المادبو قتل، فثبطت عزائم العدو وفتروا في هجومهم عن ذي قبل.
अज्ञात पृष्ठ