وفي هذه الأثناء لم يكن رءوف باشا مهملا أمر المهدي؛ فقد عرف من حديثه مع أبي السعود أن خطورة المسألة عظيمة جدا، فعزم على إرسال فصيلتين للقبض على المهدي، ووعد كلا من قائدي الفصيلتين بأن يرقيه إلى رتبة بكباشي إذا كان هو القابض عليه قبل الآخر، وأراد من ذلك أن يحثهما على الاجتهاد والمنافسة، ولكن عواقب هذا العمل كانت وخيمة جدا!
فإن الجيش الذي كان يقوده أبو السعود نزل الباخرة «إسماعيلية» وكان بها مدفع فبرحت الخرطوم في أغسطس سنة 1881 وسارت إلى أبة، وكان هذا الجيش مؤلفا من فصيلتين على كل منهما قائد، وقد اختلف هذان القائدان؛ الواحد مع الآخر والاثنان مع أبي السعود، وعرف محمد أحمد بالحملة الموجهة إليه فاستعان بقبيلتي دغيم وكنانة فأعانتاه، واستعد هو للمقاومة، وأخبر من حوله بأن النبي قد ظهر له وقال له إن كل من اشترك معه في هذا الجهاد سيعطى لقب «الشيخ عبد القادر الكيلاني» ولقب «أمير الأولياء»؛ وهما لقبان محترمان عند المسلمين، وعندما تفاقمت الحالة وعظم الخطر لم يتقدم للجهاد سوى عدد قليل سلموا أنفسهم وأموالهم للمهدي.
ووصلت الباخرة إلى أبة عند غروب الشمس، وعلى الرغم من أوامر أبي السعود نزلت الفصيلتان؛ لأن كل ضابط كان يرغب في الحصول على رتبة بكباشي قبل الآخر. أما أبو السعود الذي كان قد انغرس الخوف في قلبه منذ قال محمد أحمد إنه مولى البلاد، فقد وقف بالباخرة في وسط النهر ومعه مدفعه، وكان الضابطان كلاهما يجهلان المكان وكلاهما يرغب في الحصول على رتبة بكباشي، فسارا في طريقين مختلفين على الشواطئ المتوحلة قاصدين عشة محمد أحمد، ولكن محمد أحمد كان قد ترك عشته وأخذ أنصاره وتسلحوا كلهم بالسيوف والحراب والهراوات واختبئوا في الديس، والتقت الفصيلتان عند القرية كل منهما قد أتت من جهة مقابلة للجهة التي أتت منها الأخرى، وأطلقت كلتاهما النار على القرية الخالية من السكان فأصابت كل منهما الأخرى وحدثت خسائر خطيرة من الطرفين، وفي وسط هذا الارتباك هب أتباع المهدي من كمينهم وضربوا الجنود الذين كان قد فقدوا قوتهم المعنوية فتشتتوا في كل مكان، وتمكن بعض الجنود من أن يصل إلى الشاطئ وأن يسبحوا إلى الباخرة، ورعب أبو السعود وأراد أن يبحر بالباخرة إلى الخرطوم في الحال، ولكن الربان أشار عليه بالبقاء للصباح لعل بعض الفارين من الجنود يتمكنون من الوصول إلى الباخرة، ولكن لم يأت أحد، وفي الفجر أقلعت الباخرة تسير بأقصى سرعتها حاملة هذه الأخبار المحزنة.
ويمكن أن ندرك نتيجة انتصار محمد أحمد، فإن رجاله خرجوا من المعركة سالمين لم تنلهم خسائر قط، أو إذا كانوا قد أصيبوا فإصاباتهم كانت طفيفة جدا، وقد جرح محمد أحمد في ذراعه فضمد جرحه عبد الله التعايشي ونصح له ألا يخبر أتباعه به، وإلى هنا كان عدد أتباعه لا يزال صغيرا؛ لأن الناس كانوا يعتقدون أن الحكومة ستتخذ إجراءات فعالة لإخماد حركته.
وأخذ عبد الله وإخوته يحضون محمد أحمد على أن يجعل المسافة بينه وبين الحكومة بعيدة، فعول بناء على حضهم أن يقوم إلى جنوبي كردفان، ولكي لا يفهم أتباعه أنه ينوي الفرار من وجه الحكومة أذاع بينهم أنه قد أوحي إليه أن يذهب إلى جبل ماسة، والمأثور في السودان أن المهدي يخرج من جبل ماسة، وهذا الجبل في شمالي أفريقيا، ولكن المهدي تغلب على هذه الصعوبة بأن أطلق اسم جبل ماسة على جبل غدير الكائن بكردوفان، وقبل أن يغادر أبة عين خلفاءه الأربعة طبقا للوحي: وأولهم الذي كان يمثل أبا بكر الصديق كان عبد الله التعايشي، وثانيهم الذي يمثل عمر بن الخطاب كان علي واد هلو من قبيلة دغيم، وثالثهم الذي يمثل عثمان بن عفان لم يعين وقتئذ، وقد عرض بعد ذلك هذا المنصب على الشيخ السنوسي فرفضه، أما الرابع فكان علي الكرار، وكان من أقارب المهدي، وكان صبيا.
ورفض أصحاب القوارب أولا نقل أتباع المهدي على النيل؛ لأنهم كانوا يخشون أن تعدهم الحكومة مشتركين مع محمد أحمد وأتباعه، وكان قد انضم إليهم فريق من قبيلتي دغيم وكنانة العربيتين، ولكن محمد أحمد تغلب على معارضتهم وجعلهم ينقلونه في النهاية هو ورجاله إلى الشاطئ الآخر، وسار الجميع إلى دار قمر، وكان محمد أحمد يدعو السكان إلى الانضمام إليه ويطلب إليهم أن يذهبوا معه إلى جبل ماسة، واشتدت الحماسة عندئذ بين رجاله، وكانت لا تفوت فرصة يخبرون فيها السكان عن المعجزات التي يأتيها المهدي.
وحدث مرة أنه وقف برجاله في أحد الأمكنة وكان قريبا منه ضابط معه ستون جنديا، وكان هذا الضابط المدعو محمد جمعة يجمع الضرائب، وخطر في باله أن يهاجم المهدي ويقبض عليه، ولكنه خوفا من تبعة هذا العمل أرسل إلى الأبيض يستشير ولاة الأمر، ولكن قبل أن تأتيه التعليمات من الأبيض كان المهدي قد جاز المكان برجاله. وبعد سنوات لقيت محمد جمعة وهو في حالة تعيسة في أم درمان وقال لي: «لو كنت أعرف بأنه سيقضى علي بأن أمشي حافيا وأن أستجدي من الناس كسرة الخبز، لما طلبت تعليمات من الأبيض وتركت هذا الدنقلاوي الشقي يفر من يدي، لقد كان أفضل لي أن أقتل من أن أعيش هذه المعيشة التعسة.»
وأتيحت فرصة أخرى للقبض على المهدي ولكنها فاتت أيضا؛ فقد كان جيجار باشا قد انتدب لمهمة تحقيق اختلاس حدث باتفاق بين موظف في الأبيض وبين تاجر سوداني ثري يدعى عبد الهادي، وسمع جيجار باشا بأن المهدي قريب منه، وذلك حوالي آخر سبتمبر، فأنفذ إليه محمد سعيد باشا ومعه أربع فصائل من الجنود للقبض عليه وإحضاره للأبيض، ولكن الحملة، إما عن قصد أو إهمال، أخفقت في مهمتها؛ فإن الجنود على ما يظهر حطوا رحالهم في المكان الذي نام فيه أتباع المهدي في الليلة السابقة، وبعد أن أضاعوا ثلاثة أيام بلا فائدة عادوا إلى الأبيض وهم موسومون بالخوف من قتال المهدي؛ فزادت بذلك كرامة المهدي ووجاهته.
وكانت نية محمد أحمد أن يقضي بعض الوقت في جبل تاج الله، وسمع مك آدم بذلك فأرسل إليه أحد أبنائه بهدايا من القمح والغنم ومعه رسالة منه ينصح له فيها بالتوغل بعيدا في الداخلية، فاستمر في سيره، وبعد مشقات طويلة بلغ جبل غدير حيث كان يوجد قسم من قبيلة كنانة غير السكان الأصليين.
وكان راشد بك في ذلك الوقت حاكما على فشودة، وكان يعرف حركات المهدي؛ ولذلك عول على الغارة عليه قبل أن يتقوى بمن ينضم إليه، وكان في فشودة رجل ألماني يدعى برجوف، وكان في الأصل يشتغل بالفتوغرافية في الخرطوم، فأرسله رءوف باشا مفتشا لقمع تجارة الرقيق في أعالي النيل.
अज्ञात पृष्ठ