وسلم إلي الخليفة أوراقا وطلب مني قراءتها، ورأيت في عينيه أنه يحدق النظر في لكي يعرف ضميري.
فوجدتها تحتوي على كشف أدوية مكتوب باللغة الألمانية، وخطاب بالإنجليزية إلى نيوفلد فيه أخبار عن الحالة في السودان، كذلك خطاب طويل من الجنرال «استيفنسن» ينبئ فيه بأنه منحه الإذن بدخول السودان مع القافلة القادمة، وفي الوقت نفسه يطلب معرفة أخبار وافية عن الحالة عموما.
ترجمت هذا الخطاب للخليفة غير أني تكتمت ما طلبه الجنرال من معرفة الأخبار، فقلت له إن ما يطلبه هذا الرجل هو السماح له في دخوله البلاد وهو يشتغل في التجارة كما أخبر الشيخ طاهر. وقد رأيت الخليفة في تلك اللحظة يحدق النظر بي، ثم أمرنا بالانصراف انتظارا لأوامره خارج الدار.
وقد اجتمع في ذلك الأوان عند البناء المسمى «الرقوبة» آلاف الناس بقصد رؤية الباشا الإنجليزي، وما هي إلا هنيهة حتى جاء بعض الضباط السود وأوثقوا يدي نيوفلد وأمروه بمغادرة الرقوبة، فوقفت أنا والقاضي «نور أنجرة» على كومة من الأحجار نرقب ما سيحدث.
وفي تلك اللحظة التي ظنها نيوفلد آخر حياته حدق بنظره إلى السماء ثم خر ساجدا دون أن يطلب إليه ذلك، فأمروه بالنهوض ومن ثم تقدم رجل يحمل أرغونا وابتدأ يعزف أنغاما مطربة فوق رأس نيوفلد. ولقد دهشت لما رأيت أن ذلك لم يربكه قط، واندفعت خادمته الحبشية بدافع الإخلاص لسيدها طالبة أن تقتل معه، ولكنها أعيدت إلى الرقوبة في الحال، وقد تيقنت حينئذ أنا والقاضي بأن الخليفة يداعب نيوفلد كما يداعب القط الفأر، وأن الحكم بإعدامه لم يصدر بعد، فحاولت أن أشير إليه ولكنه يظهر أنه لم يتنبه إلى إشارتي.
ثم عدنا بعد ذلك في حضرة الخليفة، فبادر الشيخ طاهر بقوله: «هل أنتم تصرون على إعدام هذا الرجل؟» ثم التفت إلى نور أنجرة وقال له: «ما رأيك وأنت الذي طلبت العفو عن نيوفلد وقلت إنه شجاع؟» ثم التفت إلي وقال: «ما رأيك أنت يا عبد القادر؟» فقلت: يا مولاي إن الرجل يستحق القتل، ولو كان هناك أي حاكم غيرك ما تأخر عن قتله، ولكن علو نفس مولاي الخليفة ورحمته لا شك بأنهما سيشملانه، خصوصا أنه اعتنق الدين الإسلامي، وأن رحمة الخليفة به لا محالة ستقوي عقيدته. وقد عفا عنه القاضي أحمد من قبل، كما أن الخليفة لم يكن في عزمه قط أن يقتله كما ظهر لي.
وحينئذ أمر الخليفة بإعادة نيوفلد إلى الرقوبة بعد أن فكت أغلاله، إلا أنه أصدر الأمر بأن يعرض على أنظار الجمهور، ثم أن يسجن بعد ذلك حتى صدور أوامر أخرى. ثم التفت الخليفة إلي وأمرني بألا أختلط مع نيوفلد بعد الآن، فانسحبنا جميعا ولكني لم أعدم الفرصة لأبلغ نيوفلد بما قضاه الخليفة من أنه سيعرض على أنظار الجمهور، وبعد ذلك نفذ الأمر وعرض على الأنظار.
وفي اليوم التالي استدعاني الخليفة وأبلغني أن النجومي يقول إن نيوفلد أغري بواسطة الحكومة ليتصل بالشيخ صالح الكباشي ويساعده على محاربة المهديين، فأوضحت للخليفة عدم صحة هذه الرواية؛ إذ إن أوراق نيوفلد صحيحة مستوفاة، وإن الحكومة على أي الحالات لا يعقل أن تعهد إليه بعمل كهذا. وقد تبادر إلى ذهني في أول الأمر أنه صدق قولي في هذا الصدد، ولكني تيقنت من الضد بما أظهره لي من الاحتقار وعدم الثقة مدة من الزمن.
وبعد أيام قليلة عقد الخليفة استعراضا كبيرا أخذ إليه نيوفلد مكبلا بالحديد وراكبا جملا، ولما التقى بالخليفة سأله عن آرائه فيما يختص بكتائبه، فأجابه بأنها بالرغم من وفرة عددها لا تزال الجيوش المصرية أحسن نظاما منها وتدريبا. وعند ذلك أمر الخليفة برده إلى «الرقوبة» سجينا.
ورغبة في الانتقام من الشيخ صالح الذي لم يقدم ولاءه للخليفة، أرسلت إليه حملة قضت على حياته وفرقت رجاله؛ وبهذا قضي على حياة آخر شيخ مخلص للحكومة المصرية.
अज्ञात पृष्ठ