الخاطر، الفصل "١٦٧": "إنني رجل حُبِّبَ إلي العلم من زمن الطفولة، فتشاغلت به، ثم لم يحبب إلي فن واحد بل فنون، ثم لم تقتصر همتي في فن على بعضه بل أروم استقصاءه".
وقد سخر للعلم كل وقته وماله، قال: "فلما بلغت دفعوا لي عشرين دينارًا ودارين، وقالوا لي: هذه التركة كلها، فأخذت الدنانير، واشتريت بها كتب العلم، وبعت الدارين، وأنفقت ثمنها في طلب العلم، ولم يبق لي شيء من المال".
لم تكن مسيرة ابن الجوزي العلمية سهلة، بل لاقى فيها الشدائد، لكن حلاوة العلم كانت تذلل له كل صعب، قال ﵀: ولقد كنت في حلاوة طلبي للعلم ألقى من الشدائد ما هو عندي أحلى من العسل، لأجل ما أطلب وأرجو. كنت في زمان الصبا آخذ معي أرغفة يابسة، فأخرج إلى طلب الحديث، وأقعد على نهر عيسى، فلا أقدر على أكلها إلا عند الماء؛ فكلما أكلت لقمة شربت عليها، وعين همتي لا ترى إلا لذة تحصيل العلم، فأثمر ذلك عندي أني عرفت بكثرة سماعي لحديث وسير الرسول ﷺ وأحواله وآدابه، وأحوال الصحابة وتابعيهم؛ فصرت في معرفة طريقة كابن أجود.
٥- شيوخه وحرصه على العلم:
تردد ابن الجوزي على علماء عصره ينهل من علمهم، حتى بلغ عدد شيوخه تسعة وثمانين شيخًا كسر كتابًا لذكرهم هو "مشيخة ابن الجوزي"١؛ إلا أن أبرز شيوخه الذين تركوا أثرًا في شخصيته أربعة هم:
أ- محمد بن ناصر السلامي: أبو الفضل "٤٦٧-٥٥٠هـ"، الإمام المتحدث الحافظ، ربي يتيمًا في كفالة جده لأمه أبي حكيم الخبري، الذي لقنه القرآن، وسمعه الحديث، وقرأ ما لا يوصف كثرة، وحصل الأصول، وجمع وألف، وبعد صيته، وكان فصيحًا، مليح القراءة، قوي العربية، بارعًا في اللغة، جم الفضائل، ثقةً، ثبتًا، حسن الطريقة، متدينًا، فقيرًا متعففًا، نظيفًا نزهًا، وقف كتبه، ولم يعقب٢.
_________
١ طبع في الشركة التونسية عام "١٩٧٧م"، بتحقيق الاستاذ محفوظ.
٢ لم يعقب: ليس له أولاد.
1 / 11