وقد أقبل صديقهما دي روشار؛ قصتا عليه القصة وألحتا عليه في أن يحاول صرف الشاب عن هذه المغنية الأجنبية فيعدهما، وينبئهما بأن الأمر يعنيه كما يعنيهما؛ لأنه يحب القسيس كما تحبانه، ويعلن إليهما أيضا أنه سينتظر الشاب ليتحدث إليه، فتنصرفان عنه. ولا يكاد يخلو إلى نفسه حتى تقبل المغنية فيلقاها دهشا، أما هي فيصيبها شيء من الذهول، ثم يتحدثان فتفهم من حديثهما أن الحب قد اتصل قويا عنيفا بينها وبين الشاب، وأن هذا الحب على قوته وعنفه طاهر بريء، يقوم على أكذوبة أو على طائفة من الأكاذيب، فإن الفتاة لم تستطع أن تنبئ صاحبها بحقيقة أمرها ولا بما تشتمل عليه حياتها من الآثام، وإنما تركته يصورها كما أراد له خياله وحبه، نقية طاهرة مثالا للفضيلة والبراءة والطهر. وهي تستعذب هذا الحب الأفلاطوني، ولا تريد أن تكذب ظن الشاب، ولم تكذب ظنه وستعود إلى أوروبا بعد خمسة عشر يوما، فتنقطع بينهما الأسباب، وتكون قد سعدت في حياتها بحلم لذيذ. ولكن «دي روشار» يلفتها إلى أن الأمر أشد خطرا مما تظن، فالشاب يحبها حقا، وسيطلب إليها أن تكون زوجة وليس إلى ذلك من سبيل، وهو يقترح عليها أن تسافر من الغد وأن تنصرف الآن دون أن تراه، وهي مستعدة للانصراف، ولكن القسيس قد أقبل، وما يكاد يراها وتراه حتى ينسيا كل شيء، وينصرف كل منهما إلى صاحبه.
ويضطر دي روشار إلى أن يدعهما حينا، وهنا موقف بين العاشقين شديد التأثير حقا، فيه لين ودعة وعذوبة، وفيه حب يبلغ به العنف أقصاه ، ولكنه سعيد كله غبطة وأمل، ثم فيه أمل تتفطر له القلوب وتتفرق له النفوس شعاعا. انظر إليه راضيا مغتبطا شديد الابتهاج بزيارتها إياه، انظر إليه في وداعة الطفل يظهرها على ما في غرفته من متاع، انظر إليه يظهرها على صورة أمه التي ماتت شابة. واسمع له يتحدث عن أمه: يصفها بالجمال وعذوبة الخلق ورضا النفس، واسمع له يذكر أمه وما كانت تشعر به لو أنها رأت صاحبته. ثم انظر إليه يهدي إلى صاحبته عقد أمه، وهي تأخذ هذا العقد وتطوق به جيدها، ثم اسمع لهما يغنيان معا صوتا كانت أمه تغنيه، ثم انظر إليهما وقد نسيا كل شيء وفني كل منهما في صاحبه، وقد أقبل إليها فضمها بين ذراعيه لحظة ثم أطلقها وهو يطلب إليها أن تكون له زوجا. هنا تعود الفتاة إلى نفسها وتذكر حياتها الآثمة ويحس منها هذا، ولكنه قسيس وهو يحب، فما أسرع ما ينتهي به حبه ودينه ومركزه الديني أيضا إلى العفو، فهو ينسى ماضيها، بل يمحوه وهو يلح عليها في أن تكون له زوجا، وهو يعلن إليها مبتهجا أنه سيدعو عمتيه ودي روشار لينبئهما النبأ.
فلا تكاد تسمع اسم دي روشار حتى تضطرب ويريبه هذا الاضطراب. والعجب أنه نسي كل ماضيها وعفا عن آثامها جميعا، ولكنه شديد الحرص على أن يعلم أنه لم يكن بينها وبين هذا الرجل شيء؛ هو يلح عليها وهي تتردد، حتى إذا أشفقت عليه من الحق كذبت وزعمت له أنه لم يكن بينها وبين هذا الرجل شيء، فيستحلفها على التوراة فتهم بإقسام اليمين، ولكن دي روشار قد أقبل، فينبئه القسيس بحبه وخطبته، ولكنه لا يرى منه ابتهاجا فيريبه ذلك. وانظر إليه قد اندفع به الحب والريب، حتى انتهى إلى ذهول يشبه الجنون؛ فهو ماثل أمام هذا الرجل وهذه المرأة يستحلفهما على التوراة أن لم يكن بينهما شيء. فأما الرجل فقد رق له فكذب عليه، وأما المرأة فقد كان حبها من القوة والصدق والإخلاص بحيث حال بينها وبين الكذب مرة أخرى . فاسمع لها تعلن في صراحة وألم أنها كذبت، وأن هذا الرجل قد كذب أيضا، وأنها كانت خلته منذ سنتين، وأن آثامها في الحياة أكثر عددا من صلوات القسيس، وأنها اتخذت جسمها تجارة، وأنها لا تصلح له زوجا، وأنها تنبئه بهذا كله لأنها تحبه حقا. أما هو فقد فقد رشده أو كاد، وهو الآن جالس مطرق وقد انصرف عنه الرجل، وهمت هي أن تحدثه فلم يسمع لها فتنصرف، حتى إذا سمع الباب يغلق من دونها أغرق في البكاء كأنه طفل. •••
فإذا كان الفصل الثالث، فنحن في الفندق الذي تقيم فيه المغنية، وقد مضت أيام على ما كان في الفصل الثاني. ونحن نرى خادم المغنية قد جلست إلى النار تهيئ طعام سيدتها، وفي الغرفة اضطراب يدل على استعداد للسفر. وأنا أعفيك - كارها - من ضروب الحوار المضحك بين هذه الخادم وأهل الفندق، وأعفيك أيضا من كثير من الحوار اللذيذ، لأنتهي بك مسرعا إلى القصة.
فقد أقبل دي روشار معلنا أن المغنية قد ظفرت في مسرح الأوبرا بفوز لا يشبهه فوز، وأنه ينتظرها في هذه الغرفة، وما هي إلا أن تقبل الفتاة رائعة مروعة أيضا قد أنفقت جهدا عظيما لتخفي ما تحس من ألم، ولتؤدي واجبها في الأوبرا. وقد انتهت من هذا الجهد ووصلت الآن إلى غرفتها، فتستطيع أن تستسلم لآلامها وهي مستسلمة لهذه الآلام. أليست منصرفة عن صاحبها هذا، منصرفة عن خادمها، منصرفة عن هذه الجموع التي أقبلت من الأوبرا تشيعها وتهتف باسمها، منصرفة عن كل شيء، وقد ألقت بنفسها على الأرض مفكرة أو كالمفكرة والناس يحاورونها ويلحون عليها، وهي لا تجيب إلا في كره وسخط. وانظر إليها تنهر خادمها في عنف، ثم لا تلبث أن ترق لهذه الخادم فتقبلها في حنان. وانظر إليها معرضة عن صاحبها، حتى إذا هم أن ينصرف أمسكته، هي ذاهلة لا تفكر إلا في صاحبها القسيس وما بعثت في نفسه من الألم منذ حين، وهي تتحدث بذلك إلى نفسها مرة وإلى صاحبها مرة أخرى، حتى إذا عجزت الخادم وعجز صاحبها عن تسليتها أو حملها على أن تأكل، انصرفا عنها فخلت إلى نفسها. وما هي إلا أن أقبلت على الصلاة جاثية، ولكن بابها يطرق مرة ومرة ومرة أخرى، فتنهض وتفتح الباب وإذا القسيس مقبل في شكل بشع رائع، مضطرب أشد الاضطراب، ظاهر الذهول، حائر الطرف، لا يكاد يبين، قد جلل الثلج ثيابه، ودلت هيئته على أنه قد هام على وجهه غير قليل، وهو يرتعش من البرد. فإذا سألته فيم أقبل؟ أجابها أجمل جواب وأبدعه وأشده في النفوس تأثيرا، أجابها: لقد خرجت فهمت ساعات لا أدري أين أنا وإلى أي وجه أقصد، ولقيتني فتاة سألتني عن طريقها وكنت أنت هذه الفتاة. منذ ذلك الوقت اختلفت علي صور منك لا تحصى، رأيتك طفلة بائسة تعسة، ورأيتك فتاة تتغنى في الشوارع، ورأيتك باغية تسرف في الإثم، ورأيتك لاهية، ورأيتك جميلة، ورأيتك دميمة، رأيتك في عزة، ورأيتك في ذلة، وأحاطت بي منك صور لا تحصى، ومضيت وهذه الصور من حولي حتى مررت بكنيسة كاثوليكية من كنائسكم، فدخلت وجثيت وصليت وفهمت ... فهمت أني آثم ... آثم حقا، مسرف في الإثم، فهمت أني أشر، فهمت أني مقصر لم أؤد واجبي. كان حقا علي أن أنقذك بعد أن رأيتك فيما رأيتك فيه من إثم وذل وألم، ولكني آثرت نفسي عليك ففررت منك ... نعم فهمت وجئت الآن لأؤدي هذا الواجب.
أما هي، فما كادت تسمع حديثه هذا حتى أخذها شيء من الذهول أشبه شيء بذهول الصوفية. وفي الحق إنها تغيرت تغيرا تاما، وانقطعت الصلة بين حياتها القديمة وحياتها الجديدة. فاسمع لها تهون على صاحبها القسيس وتنبئه بأنه قد بلغ ما كان يريد؛ لأنه قد استنقذها من الآثام وطهرها من الرجس، فجحدت حياتها الماضية وابتدأت حياة جديدة، أو قل: خلعت شخصها الأول واستحالت شخصا جديدا. واسمع له وهو يسألها أن تعده ألا تقوم منذ اليوم على إثم، وألا تكون منذ اليوم أداة لهو وعبث، فتدفع له كتابا قد كانت كتبته فيه هذا الوعد، ولكن قراءة هذا الكتاب تغير من صاحبنا كل شيء. فانظر إلى نفسه وعواطفه وشهواته الإنسانية، وقد ثارت ثورة عنيفة منكرة، فمزقت ثياب القسيس وألقتها عنه، وإذا هو رجل قائم يحس ويشعر ويحب ويشتهي ويرى أمامه موضوع حبه وشهواته، وإذا هو يعلن هذا إلى الفتاة في عنف ويسرع إليها فيضمها إليه، وإذا هي تضطرب بين ذراعيه اضطراب الطامع المشفق، يرغبها حبها في الإسماح، ويصرفها ما نذرت عن اللهو، وإذا هي تضرع إليه أن يخليها، وترغب إليه في ألا يكون كغيره من الناس وألا يتخذ جسمها كما اتخذوه متاعا. وإذا هي تعلن إليه في ضراعة وإشفاق ورهبة أن أمرها بين يديه، إن شاء تركها صالحة وإن شاء ردها إلى حيث كانت من الإثم والفساد. وإذا كلماتها ورغبتها وإشفاقها تؤثر في هذا الرجل، فتنطلق ذراعاه عنها قليلا قليلا. وإذا هو جاث مطرق مغرق في تفكير عميق، ولكن الليل انتصف وابتدأت السنة ودقت أجراس الكنائس، وانطلقت بالصلوات ألسنة المؤمنين. وكأن هذا كله قد انتهى إلى القسيس فأيقظه من نومه، فينهض متثاقلا، ويمر يده على جبينه، يعتذر ويستأذن في الانصراف ليلحق بالمصلين. وانظر إليه يخرج متثاقلا، وإن الظلمة لتنشر في الغرفة شيئا فشيئا حتى تغمرها وتخفي فيها كل شيء. وإذا المسرح يتغير فجأة كما تغير في أول القصة، وإذا نحن في حجرة الأسقف حين تركناه في أول القصة يقص على حفيده ما كان من أمره في شبابه، والفتى يسأله: ثم ماذا كان من أمر هذه المغنية؟! فيجيبه: لم أعلم من أمرها شيئا، إنما قصصت عليك هذه القصة لتعلم أن تقدم السن بي لم ينسني أني كنت شابا وأني قد أحببت، ففكر في أمر زواجك قبل أن تقدم عليه، وادع لي أختك فإنها لم تتم لي قراءة الصحيفة.
ويخرج الفتى، فيدعو أخته فتقبل وتستأنف القراءة، فإذا هي في الأخبار البرقية، وإذا هي تقرأ هذا العنوان: موت مغنية شهيرة «كافاليني». فإذا سمع الأسقف هذا الاسم اضطرب قليلا، وطلب إلى الفتاة أن تقرأ، فتقرأ أن هذه المغنية التي ماتت قد انقطعت عن الغناء وانصرفت عن المجد وزخرف الحياة في ريعان شبابها منذ سنة 1873، ووقفت ثروتها الضخمة على أعمال البر. وإن الفتاة لتقرأ وإذا الأجراس تدق، فقد انتصف الليل وابتدأت السنة. وألقت الفتاة صحيفتها، وتقبل على جدها تهنئه وتقبله، ولكنها ترتد عنه قائلة: أرى خدك مبتلا! ... وخدك الآخر ... إنك تبكي ... كلا يا ابنتي، ولكن أين أخوك؟ فتدعو له الفتى، فإذا أقبل مهنئا دفع الشيخ إليه الصحيفة وقال له: اقرأ هذا. فإذا حاول الفتى أن يظهر شيئا من الدهش دعاه الشيخ إلى الصمت قائلا: أتذكر صاحبتك الممثلة، اتخذها زوجا. وإنه ليقول ذلك وإن القصة لتنتهي، بينما تصل إلى الآذان من بعيد جدا أنغام هذا الصوت الذي سمعناه أول القصة. «أتعرف ذلك البلد الذي يزهر فيه البرتقال ...؟»
نوفمبر 1926
أنتوانيت سابرييه
قصة تمثيلية للكاتب الفرنسي «رومان كولوس»
अज्ञात पृष्ठ