وكان الكاتب يستطيع أن يسميها غير هذا الاسم، وأن يتخذ أي اسم من أسماء أشخاصها عنوانا لها. فجميع أشخاص هذه القصة خليقون أن يعطوها أسماءهم؛ لأنهم جميعا خليقون بالعناية، مثيرون في نفسك رغبة الاستطلاع، وباعثون فيها عاطفة قوية، عاطفة الإعجاب حينا وعاطفة الإشفاق حينا آخر، وعاطفة الغضب مرة وعاطفة الرضا مرة أخرى. كلهم خليق بالعناية، وكلهم يصلح موضوعا لبحث نفسي منتج قوي يلذ العقل ويلذ الشعور معا. وقد يكون هذا الاسم الذي اختاره المؤلف أظهر أسماء القصة، وقد يكون هذا الشخص الذي آثره الكاتب أشد أشخاص القصة استثارة لإعجاب الجماهير وعامة القراء والنظارة. ولكني أوثر على هذا الشخص مع إعجابي به وعطفي عليه شخصين آخرين: أحدهما يستحق الإعجاب المطلق والإجلال الذي لا حد له، والآخر يستحق شيئا من الإشفاق غير قليل ويدعو مع استحقاقه للإشفاق إلى شيء كثير من الروية والتفكير.
وليس هؤلاء الأشخاص الثلاثة وحدهم هم الذين يستحقون العناية ويضطرون القارئ إلى التأمل فيهم والتفكير في أمرهم، بل هناك أشخاص ثلاثة آخرون كلهم خليق بالتفكير، وكلهم يستثير في نفسك عاطفة قوية كما قلت. وفي الحق إني لست أدري: أنحن بإزاء قصة واحدة، أم قصتين، أم قصص ثلاث، أم أكثر من هذه القصص الثلاث أيضا؟ بل في الحق إني لست أدري: أنحن بإزاء قصة، أو قصص تدرس الأشخاص وحياتهم النفسية القيمة، أم نحن بإزاء قصة أو قصص تدرس طائفة من الأخلاق وضروبا من أطوار النفس الإنسانية عامة وألوانا من الحياة الإنسانية من حيث هي؟ وقد نكون بإزاء هذه القصص جميعا، وقد نستطيع أن ننظر إلى هذه القصة من جميع هذه الأنحاء. فمن أراد درس الأشخاص وما يمتازون به من قوة وضعف، وما يتصفون به من خلال تدعو إلى الإعجاب ونقائص تثير الغضب؛ وجد فيها حاجته، ومن أراد درس الآراء والنظريات الخلقية والعلمية وما بينها وبين حياة الناس من صلة وما لها في حياة الأفراد والجماعات من أثر؛ يجد فيها حاجته. ماذا أقول؟! إنك تستطيع أن تلتمس فيها شيئا آخر غير الأشخاص وحياتهم وعواطفهم، وغير النظريات العلمية وصلاتها وآثارها، تستطيع أن تلتمس فيها السياسة ومكانها من أهواء الأفراد والجماعات، وأثرها في نفوس الأفراد والجماعات أيضا. تستطيع أن تجد في هذه القصة الممتعة هذا كله وأكثر من هذا كله، وأنت تجده في دعة وهدوء واطمئنان لا يحول بينك وبين الحزن الشديد ولا يحرمك الابتسامة الخالصة الصافية، ولكنه يعطيك منهما حظا معتدلا يتيح لك أن تتعظ ولكن في غير يأس، وأن ترضى ولكن في غير إسراف، ويجلي لك الحياة كما هي مملوءة بالخير والشر، قد امتزج فيها الحلو والمر، والتأم فيها النعيم والشقاء. وأنت إلى هذه اللذة العقلية والقلبية لا تحرم اللذة الفنية أيضا؛ فاللفظ سهل حلو منوع رشيق، والأسلوب عذب سائغ مريح. تقرأ فلا يخيل إليك أنك تقرأ، وإنما تحس أنك تحيا وتشهد هذه الحركات والأطوار المختلفة التي تكون الناس وحياة الناس.
ولكني لا أريد أن أطيل في تقريظ القصة أو نقدها، فهي في نفسها طويلة، وإنما أريد أن أظهرك عليها في تلخيص شديد ودون إلحاح في المقدمات. وكيف أظهرك على هذه القصة التي هي في حقيقة الأمر طائفة من القصص، دون أن أقدم إليك أشخاصها قبل كل شيء؟ فحياتهم معقدة، ونفوسهم على سذاجتها شديدة التركيب، وكلهم يمثل لونا من ألوان الناس وناحية من نواحي الحياة الاجتماعية. فهم ليسوا أفرادا، وإنما هم جماعات، وحظوظهم من الحياة ليست حظوظ الأفراد، وإنما هي النتائج الطبيعية التي تنتهي إليها حياة الجماعات وما يختلف عليها من الأطوار.
تجد في هذه القصة شخص هذا الرجل الذي كان غنيا واسع الغنى ومثريا ضخم الثروة، وشريفا مؤثل المجد، نشأ في أسرة منصرفة إلى ما يدعو إليه الشرف من ضروب المجد والزخرف والزينة واللهو. ولكنه انصرف إلى العلم، فأحبه وتهالك عليه، ووقف على تحصيله والنبوغ فيه جهوده وأوقاته وثروته، وأبلى في ذلك أحسن البلاء، ولكنه لم يظفر من هذا كله بشيء، وإنما استقبل الهرم والشيخوخة في فقر وبؤس وشقاء. على أن هذا كله لم يغير من هذه النفوس الراضية التي كونها البحث العلمي وعلمها أن تكون جلدة قوية شديدة الاحتمال، فهي مبتسمة أبدا، وهي راضية أبدا، وهي طيبة شديدة الميل إلى العفو والمغفرة ومعونة الضعفاء والإغضاء عن هفوات الناس، هذا الشخص هو البارون «فون ديرهلويك ».
وتجد في القصة شخصا آخر نشأ في أسرة بائسة معدمة، فذاق ألوان الألم وتقلب في ضروب الشقاء، ولكنه أحب العلم كما أحبه ذلك الرجل الغني، ولم يقف عليه مالا ولا ثروة، وإنما وقف عليه ذكاء وقوة فوفق لكثير، وإذا هو يظفر بالاختراع بعد الاختراع، وإذا هو يستعين بالأغنياء وأصحاب الثروة على تحقيق آماله العلمية، فيخدعونه ويعبثون به، ويستغلون ذكاءه وعلمه، وهو يعلم هذا ولا يحسن الدفاع عن نفسه، فيتعزى عن آلام الحياة بالعلم مرة وبالخمرة مرة أخرى، حتى يعرض له الحب، فإذا هو قد أضاء نفسه وملأ قلبه ونظم حياته وبرأه من داء الخمر، فانصرف إلى العلم وجد فيه، وفرغ للحب واستعان به، وإذا هو عالم، وإذا هو غني قد ظفر بكل ما كان يريد من علم وحب وسعادة. ولكنه لا يكاد يستمتع بنتيجة هذه الحياة الطويلة الشاقة، حتى تظهر له الخيانة فتقضي على كل ما كان قد حصل وأفاد، وتصرفه عن هذا البحث المنظم المنتج إلى ذلك البحث المشوش المضطرب، تصرفه عن العلم والحب إلى العلم والخمر، فما يزال يبحث ويشرب حتى يقتله البحث والشرب. وهذا الشخص هو «ميشيل بوبير»، والذي اتخذ الكاتب اسمه عنوانا لهذه القصة.
وتجد فيها شخصا آخر ذكيا قوي الذكاء، غنيا موفور الغنى، قد اجتهد في أن يجعل ذكاءه وثروته وسيلة إلى استغلال العلم والعلماء، ولكن ذكاءه أعظم من ثروته، وأمله أوسع من جهده، فهو يمضي أمامه غير مقدر للظروف ولا متبصر في العواقب، مستغل هذا العالم وآثاره، فيفقره ويفقر نفسه، ولكنه يجد في نفسه من القوة ما ينهضه من كبوته، فما يزال يمضي في طريقه متخلصا من كل ضائقة، ناهضا من كل عثرة، حتى يعرض له الحب الآثم من جهة والحرص على الثراء من جهة أخرى، وإذا هو قد انتهى إلى الضائقة التي لا مخلص منها، وإذا هو بين اثنين: الموت والسجن، فيؤثر الموت، وهذا الشخص هو: «ديلا روزويه» زعيم الأسرة التي تدرسها هذه القصة.
ثم تجد في هذه القصة شخصا رابعا هو امرأة ، هذه المرأة خليقة بإعجابك كله، وخليقة بإشفاقك كله، وخليقة أن تكون المثل الأعلى للنساء. أحبت زوجها، وكلفت به وأخلصت له، وقدمت له ثروة ضخمة يوم تزوجته، ووقفت حياتها كلها على معونته وتشجيعه ومواساته وتربية ابنتها. أخلصت في هذا كله راضية مبتسمة، ثم أحست من زوجها الخيانة والإثم، فتألمت ولكن في صمت، وبكت ولكن في استخفاء، ثم رأت زوجها وقد تورط في الإثم وألحت عليه أثقال الحياة، فعفت له عن خيانته وردت إليه قلبها وحبها كاملين، وبدأت تغتبط بهذه الحياة المقبلة يملؤها البؤس والشقاء، ولكن يضيئها الحب والوفاء. غير أن زوجها يسألها أيهما خليق بالعناية والحرص: الحياة أم الشرف؟ فتجيبه: الشرف. فتقتل زوجها بهذا الجواب، وتعرض أسرتها لحياة ملؤها الشر والمكروه، على أنها تحتمل هذا الشر راضية مطمئنة، وتجاهده قوية جلدة، وتكاد تنتصر عليه. قد أخلصت لزوجها ما عاش، وهي الآن مخلصة لابنتها، وهي تكاد تجني ثمرة هذا الإخلاص، ولكن الخيانة كانت تنتظرها، فهي لا تظفر من هذه الحياة الطويلة الشاقة إلا بهذا الإذعان المر الهادئ للقضاء، وهذه المرأة هي زعيمة الأسرة التي يدرسها الكاتب في هذه القصة.
وامرأة أخرى تجدها في هذه القصة، خليقة بالتفكير والروية، خليقة بالعناية والدرس؛ لأنها تمثل التربية السيئة وأثرها في الحياة، ولأنها تمثل هذه الظروف المنكرة التي تعرض للشباب ولما يتهيأ لمقاومتها، فتفسد عليه أمره وتصرفه عن طريق الرشد إلى طريق الغي والفساد. نشأت في ثروة وعز بين أب يحبها ويسرف في حبها، وأم تؤثرها وتحنو عليها، فلم تذق للشقاء طعما ولم تبل مرارة الحاجة، ولم تعرف كيف تحتمل الحرمان، وإنما كانت موضوع عناية هذين الأبوين حتى شبت ناعمة راضية طامعة، لا ترضى من الحياة بما فيها، وإنما تستزيدها الخير وتطلب إليها ما لا تملك. وقد قرأت كتبا وقصصا أفسدت عليها عقلها أو كادت تفسده، فهي منصرفة إلى الخيال مغرقة في الأمل، لا ترى الحياة كما هي ولا ترضاها كما هي. ثم عرض لها فتى جميل فاتن غني، أظهر لها الحب فأحبته وما كان إلا مخادعا ، ثم حاولت أن تقاومه وتتقي شره فلم تجد إلى ذلك سبيلا، فتورطت في الإثم، ولكنها استطاعت بعد ذلك أن تندم وتمحو خطيئتها. وما كان أسعدها بأن تجد الحياة الهادئة المستقيمة، وأن تخلص لزوج يحبها ويكلف بها، وقد وجدت هذا كله وكادت تظفر بالسعادة لولا أنها أرادت أن تكون هذه السعادة خالصة صافية، فاعترفت لزوجها بالإثم فقتلت زوجها بهذا الاعتراف، واضطرت هي إلى أن تتردى في الهوة التي كانت قد خلصت منها فعاشت فيها حينا، ثم جاهدت حتى خلصت منها مرة أخرى، ولكنها لم تجد بعد هذا الخلاص إلا الحزن والشقاء والندم الذي اتخذته قرينا لحياتها، وهذه الفتاة هي «هيلين» بطلة هذه القصة.
وهل أذكر لك هذا الفتى المخادع الذي أشرت إليه والذي لا يرى الحياة إلا لعبا ولهوا، ولا يرى الأخلاق إلا سخفا وهزؤا، والذي لا يرى النساء إلا لذة ومتعة؟ ...
وهل أذكر لك هذه الخادم التي أحبت سادتها ووفت لهم وشاركتهم في الخير وأعانتهم على الشر، ولكنها رأت آثام الحياة ونقائصها، فآثرت أن تترك هذه الآثام والنقائص وأن تفارق باريس.
अज्ञात पृष्ठ