وقد مضت ستة أشهر على الفصل الثالث، ونحن نرى الشيخ المصور في هذا المكان مضطربا، ولكن اضطرابه لا يطول؛ فقد أشرفت الفتاة من الثلمة بين الأغصان كما أشرفت في الفصل الأول، ويتلقاها الشيخ كما يتلقى الرجل الحياة، وقد كان استيأس منها، وهو يضمها إليه ويقبلها، وهي تتعلق به وتقبله، وهو صادق في حبه، وهي صادقة في مودتها، وهي حريصة على الخلوة ، تخشى الرقيب كما كانت تخشاه في المرة الأولى، وهي طاهرة الحديث ساذجة، صريحة. فانظر إليهما واسمع لحديثهما؛ هو مغتبط يريد أن يعود بها إلى باريس، ولكنها تكره باريس، فهو يريد أن يعيش معها في قرية من القرى، ولكنها لا تستطيع، ولماذا؟ لأنه أثناء هذه الأشهر الستة قد كتب إليها وكتبت إليه، وكان يستوحى عقله لا قلبه حين كان يكتب إليها، فكان يتمنى لها السعادة وينصح لها بشاب من سنها ومن طبقتها، وقد صدقت كتبه وأنفذت نصيحته، فتزوجت وهي مع ذلك تحبه وتخلص له! وهو يسمع هذا كله فكأنما يسمع القضاء عليه، وقد تجلد لآخر مرة فهو يسألها: «أسعيدة أنت مع هذا الزوج؟» تجيب إنها ليست شقية، فيسأل: «أيحبك؟» فتجيب: «نعم.» فيسأل: «أتحبينه؟» فتجيبه: «لم أفكر قط في هذا.» وانظر إليه قد أذعن للقضاء وآمن بأن شباب قلبه لن يجدي عليه شيئا، وهو يصرف الفتاة في رفق، ولا يطلب إليها إلا شيئا واحدا؛ هو أن تنصرف هذه المرة كما انصرفت في المرة الأولى متغنية تلك الأغنية الإيطالية، فتجيب في سذاجة إنها تستطيع أن تغني شيئا آخر أدق وأصعب من تلك الأغنية؛ فقد تقدمت في الموسيقى منذ تركته تقدما باهرا، ولكنه لا يريد إلا تلك الأغنية، فهي تنصرف وتركب دراجتها وتبعد، وإذا الهواء يحمل إليه من بعيد أنغام هذه الأغنية الإيطالية، وإذا شيء كالدوار قد أخذه، فيجلس ورأسه بين يديه، وهو يبكي، والهواء يحمل إليه الغناء.
نوفمبر سنة 1924
الوصل
قصة تمثيلية بقلم الكاتبين الفرنسيين «هنري دوفرنوا» و«موريس دونيه»
حدثتك منذ حين عن أول هذين الكاتبين حين لخصت لك قصة «القيثارة والجازباند»، وقلت في ذلك الحديث إني سأحدثك عن قصة أخرى لهذا الكاتب سميتها يومئذ «المثل»، وأنا أسميها اليوم اسما آخر هو «الوصل»، وربما كان اسم اليوم أقرب إلى موضوع القصة، ولكن كلا الاسمين لا يؤدي المعنى الفرنسي كما أراده الكاتبان حين سميا قصتهما، ولست أريد أن أضيع وقتي ولا وقتك في البحث عن ترجمة صحيحة دقيقة لهذه الكلمة، فيكفي أن تبحث في المعاجم اللغوية لتعلم أنهم يترجمونها بالحركة عامة، وبحركة الخطيب خاصة، وبالإشارة أحيانا، ويكفي أن تقرأ هذا الحديث لتعلم ماذا أراد الكاتبان في هذا اللفظ القصير الذي يدل على معنى كثير جدا.
سمها إذن «الوصل» أو سمها «المثل»، أو سمها ما شئت من الأسماء، ولكن تعرف موضوعها ومعناها قبل أن تطلق عليها اسما ما.
النقاد مختلفون في هذه القصة: يحمدها أكثرهم في غير تحفظ، ولا يثني عليها بعضهم إلا مع تحفظ قليل، ولكنهم كلهم مجمعون على أنها خير ما أخرج للناس في أول الفصل التمثيلي من هذه السنة، ولولا أن الكاتب الفرنسي المشهور «برنشتين» قد أظهر منذ أسابيع قصة سأحدثك عنها حين تصل إلي لقلت إنها خير ما أخرج للناس في الفصل التمثيلي كله إلى الآن، فلست أعرف قصة كهذه القصة بين ما قرأت أو رأيت هذا العام تمتاز بما تمتاز به قصتنا هذه من سرعة الحركة وخفة الروح أو سذاجة اللفظ والمعنى، في تعقيد شديد مع ذلك، ودقة لا تكاد تجد لها حدا. بل لست أعرف بين قصص هذا العام ولا قصص العام الماضي قصة فيها ما في قصتنا هذه من الجرأة والشجاعة اللتين لم يعتدهما التمثيل، واللتين لم تعرضا صاحبيهما لإخفاق أو اضطراب، وإنما ضمنتا لهما فوزا أجمع عليه جمهور النظارة والنقاد.
قلت حين حدثتك عن «القيثارة والجازباند» إنها قصة تمثيلية، أخذت من أحدوثة قصصية، وكذلك الشأن في هذه القصة التي أحدثك عنها اليوم؛ فقد وضع «هنري دوفرنوا» طائفة من الأحاديث القصار، يظهر أنها خلبت كتاب التمثيل فأقبلوا إليها يستغلونها كما يستغل منجم من مناجم الذهب، وقد عادت عليهم هذه الأحاديث بثمرات عظيمة القيمة، ولقد صدق بعض النقاد حين قال يكفي أن نعلم أن «موريس دونيه» عرض اشتراكه على «هنري دوفرنوا» في تحويل أحدوثته هذه إلى قصة تمثيلية، لنقدر براعة الكاتب القصصي وقيمة هذه الأحدوثة، فموريس دونيه شيخ من شيوخ التمثيل الحديث، يكفي أن يوضع اسمه على قصة تمثيلية ليضمن لها البقاء. قلت إن في هذه القصة جرأة وشجاعة ليس للتمثيل بهما عهد، وهذه الجرأة ترجع إلى أمرين؛ الأول: أن القصة التمثيلية قد خالفت الأحدوثة؛ فإنه بينما تنتهي الأحدوثة في لين ودعة وشيء من اليأس المؤلم، إذا القصة التمثيلية تنتهي في عنف وقوة تضطرب لهما النفس وينخلع لهما القلب. تنتهي الأحدوثة في دموع، وتنتهي القصة التمثيلية في دم مسفوك. الثاني: أن في الأحدوثة صلة يمكن أن تقرأ أخبارها وتقص أنباؤها، بل نحن لا نكاد نقرأ حديثا قصصيا طويلا أو قصيرا إلا وجدنا فيه هذه الصلة الجنسية قد فصلت أخبارها تفصيلا ونمقت أنباؤها تنميقا، فنقرأ هذا كله دون أن نعجب له أو نضيق به؛ ذلك لأننا لا نرى هذه الصلة، وإنما نتوهمها توهما، ونترك للخيال استقصاءها، فإذا عرضت هذه الصلة على الحس وأكرهنا على أن نراها بأعيننا، فلذلك في نفوسنا أثر يخالف أثر القراءة، ولذلك في شعورنا وحياتنا وأوضاعنا الاجتماعية تأثير عنيف بغيض ثقيل على النفس، يحملنا على أن ننفر نفورا شديدا، وعلى أن يأخذنا شيء من الغضب والاشمئزاز لا حد له.
قل إننا مخطئون في هذا الغضب أو قل إننا مصيبون، فذلك شيء لا يعنينا، وإنما الذي يعنينا هو هذه الحقيقة الواقعة، وهي أن غرائزنا تثور ونفوسنا تشمئز إذا رأينا هذه الصلة الجنسية رأي العين، وإن كنا نعلم حق العلم أنها صلة طبيعية كغيرها من الصلات، وقد اجترأ الكاتبان على أن يعرضا هذه الصلة على النظارة في ملعب التمثيل، بل هما اجترآ على أن يعرضاها على شخصين غير النظارة، وهذه الجرأة نفسها غريبة مخالفة لمألوف الناس، فأنت تعلم أن هذه الصلة الجنسية التي نكره نحن أن نراها، ولا نريد أن نفكر فيها إلا توهما هي أشد الأشياء نكرا بالقياس إلى الأطفال والصبيان المحدثين، فنحن نكره أن نرى هذه الصلة ولكننا نستبيح لأنفسنا أن نتحدث عنها، في حين نحرص كل الحرص على ألا يرى الأطفال والشبان المحدثون شيئا يشير إليها، وعلى ألا يسمعوا لفظا يحمل على التفكير فيها، ومع ذلك فسترى أن القصة تدور كلها على أن شابين محدثين قد رأيا ما لم يكن ينبغي أن يرياه.
كان المنتظر أن يغضب الجمهور لهذه المشاهد، وأن ينكر هذه الجرأة في قصة جدية لا يراد بها العبث ولا اللهو، وإنما يراد بها العظة والتأديب، ومع ذلك فلم يغضب الجمهور ولم ينكر، وإنما تأثر ورضي، بل أعجب إعجابا شديدا؛ ذلك لأن الكاتبين قدرا هذا كله فاصطنعا في هذا الأمر الدقيق مهارة قوية جدا؛ عرضا هذه الصلة ولم يعرضاها، لم يشيرا إليها بالألفاظ وإنما قدما لها مقدماتها كلها، حتى إذا أوشكت هذه المقدمات أن تنتج نتائجها أو أخذت تنتجها أسدل الستار، فأرضيا العقل وأرضيا الحياء الاجتماعي معا.
अज्ञात पृष्ठ