أكتوبر سنة 1924
في ملاهي باريس
زوج ألين
كنت أريد أن أضحك حين ذهبت إلى ملعب «ميشيل» لأشهد تمثيل هذه القصة «زوج ألين»، وكنت واثقا بأنني سأضحك وأضحك كثيرا؛ لأن العنوان في نفسه مضحك، ولأن القصة كانت تمثل لأول مرة، فلم يكن النقاد قد كتبوا عنها بعد، ولأن أسماء الممثلين الذين اشتركوا في تمثيلها كانت تدل على طائفة من الذين مهروا في الفن المضحك، فأسرعت إلى الملعب مبتهجا، وكأني كنت أضحك مقدما، وكذلك شأن الناس في باريس يذوقون مقدما ما يبتغون من لذة؛ لأنهم يعلمون أن هذه اللذة ستكون قوية حادة، وأنهم سيظفرون منها بأكثر مما يبتغون.
ذهبنا إلى الملعب ضاحكين ولم يكد يرفع الستار حتى أغرقنا في الضحك، ولكن ما هي إلا دقائق حتى استحال هذا الضحك إلى حزن وعبوس، وحتى أحسسنا في أنفسنا شعورا غريبا ليس من اليسير تفسيره؛ لأنه شيء ليس بالسرور الخالص ولا بالحزن الخالص، أو قل إنه شيء أبلغ أثرا في النفس من الحزن الخالص، ولكنه يكرهك مع ذلك على الابتسام، وربما أكرهك على الضحك والإغراق فيه؛ تبسم وأنت عابس، وتضحك وأنت محزون؛ ذلك لأن الممثل يعرض عليك من خصال الإنسان ما يضحكك مظهره أردت أو لم ترد، وما يحزنك مخبره رضيت أو لم ترض.
لا يكاد يرفع الستار حتى ترى امرأة متقدمة في السن أقرب إلى الشيخوخة منها إلى التوسط في العمر، لباسها ملائم لسنها وملائم لمصدرها ولطبقتها الاجتماعية، فلا تكاد تسمع حديثها حتى تحس أنها ليست من باريس، وإنما وفدت من الأقاليم، وحتى تفهم أنها من هذه الطبقة الغامضة التي لا تبلغ أوساط الناس ولا تريد أن تنحط إلى سفلتهم، قد مات عنها زوجها وترك لها ابنة هي «ألين»، وهي بارعة الجمال، رشيقة القد، عذبة الصوت. وقد ضاقت الحياة بها وبابنتها، فلجأتا إلى باريس، وآواهما رجل موسيقي بارع في فنه، ولكنه سيئ الحظ بهذا الفن، لا يكسب حياته إلا بمشقة. أحب الفتاة فآواها وآوى أمها، وأصبح أستاذها وعشيقها والقيم على حياتها، وقد مهرت الفتاة في الغناء كما مهرت في الرقص، وتقدمت إلى أحد الملاعب الباريسية، فقبلت فيه مغنية راقصة، وهي تبدأ عملها هذه الليلة وأمها تنتظرها متأثرة، مضطربة فرحة، مشفقة تقدر الفوز وتريد أن تحتفل به، فهي تعد مائدة عليها من الطعام والشراب هذه الألوان التي لا يرضاها الموسرون، ولا يظفر بها المعسرون إلا بعد الجهد والعناء، وهي تتحدث بكل ما في نفسها إلى خادم لها حديثة السن، خفيفة الحركة مسرفة في القول، فلا تكاد تسمع حوارهما حتى يأخذك الضحك فتغرق فيه حين ترى هذه المرأة التي تكاد تكون شيخة تتحدث في لهجة الجد إلى هذه الفتاة التي تكاد تكون طفلة، وهما في هذا الحديث الذي تريانه جدا ونضحك نحن منه، إذ يدخل الموسيقي فرحا، قد ملأه الفرح اضطرابا؛ فهو يبكي ولكن بكاءه نفسه مضحك، وهو يعلن إلى الأم فوز ابنتها، ويحاول أن يمثل لها هذا الفوز، فيجتهد في تقليد الفتاة حين غنت بعض المقطوعات التي أعجب بها الجمهور، والأم سعيدة مغتبطة ولكنها مع ذلك ليست راضية؛ لأنها تكره الملاهي، وكانت تود لو استطاعت أن تجد عنها منصرفا لابنتها، أما الموسيقي فسعيد بهذا الفوز ولكنه مشفق منه؛ مشفق لأنه يخشى أن تنصرف الفتاة عنه إلى هؤلاء النظارة الأغنياء الذين سيرونها في الملهى وسيتملقونها.
تحس منه الأم ذلك، وتحس أيضا أنه يحاول كتمان هذا الخوف، وقد أقبلت الفتاة فرحة، مبتهجة، متأثرة، فهي تقبل أمها وتضم عاشقها وتشكره، ولكن لن يتاح لهؤلاء الناس أن يحتفلوا بهذا الفوز فيما بينهم، فقد أقبل مدير الملهى وأعوانه ورجل غني من زعماء الصناعة يهنئون الفتاة بهذا الفوز، ويدعونها إلى أن تنفق معهم شطرا من الليل في حانة من هذه الحانات التي يذهب إليها الباريسيون إذا خرجوا من الملاعب فيأكلون ويشربون ويعبثون، ونحن نحس أنهم عرضوا ذلك على الفتاة فقبلته قبل أن تعود إلى أهلها ، ولكنها تظهر التردد الآن؛ لأنها لا تريد أن تترك صاحبها، فما أسرع ما يدعو القوم صاحبها إلى الذهاب معهم فيعتذر ويلحون وتظهر هي الرغبة فيقبل كارها، وينصرفون على أن يرسلوا إليهما السيارة بعد حين. فإذا خلا العاشقان رأينا هذه الأشياء التي تطير القلوب سرورا وتقطعها حزنا؛ رأينا هذا الموسيقي يريد أن يلبس زي السمر، فإذا ثيابه وأدواته من الرداءة والبلى بحيث يخجله ذلك ويؤذيه، ولكنه مبتسم يجتهد في أن يكون حسن الزينة، وإذا هو يفتقد أزراره، فإذا وجد منها واحدا أخطأه الآخر، وصاحبته تتزين، وقد أعارها الملعب ثوب الرقص فهي فيه خلابة بارعة، ولكن كثيرا من أدوات الزينة ينقصها، وهي تشكو ذلك مغتاظة، فإذا أحست من صاحبها الألم ابتسمت وتكلفت تهوين الأمر عليه، وصاحبها يعدها بمضاعفة العمل ليكسب لها ما تحتاج إليه. وقد أقبلت السيارة، فانظر إلى الأم مبتهجة، مفتونة بجمال ابنتها. وانظر إليها تتبع ابنتها وقد أخذت بفضل ثوبها حتى لا يصيبه غبار السلم. وانظر إلى الخادم الطفلة تسبقهم جميعا وفي يدها الشمعة تضئ السلم. وانظر إلى العاشق محزونا يتكلف الابتهاج، وبائسا يتكلف النعيم.
فإذا كان الفصل الثاني فقد تغير هذا كله، وسترى قوما تنكرهم؛ لأن النعمة ألمت بهم فأزالت كل ما رأيت في الفصل الماضي من مظاهر البؤس؛ ذلك لأن «ألين» قد اشتهر أمرها وظهر نبوغها، فابتسمت لها الثروة، وأصبحت لا تشكو عسرا ولا ضيقا، وظهرت آثار ذلك حولها.
فأما أمها فليست شيخة ولا كالشيخة، وإنما هي امرأة نصف فيها قوة وشباب، تلبس على آخر بدع، وتزدان على آخر طراز، وقد تغيرت لهجتها فهي باريسية، وتغير صوتها فهو رخيم، وتغيرت حركاتها فهي رشيقة ممتازة.
وأما الموسيقي فقد أصبح شابا قويا بادي الظرف حسن الزينة رائع المنظر، وقد اقترن بصاحبته. وكذلك الخادم تغيرت وامتازت، والغريب أنها ليست وحدها في البيت بل يشاركها غلام عليه العناية بغرف الاستقبال وما إليها. ولسنا في باريس ولا في ذلك البيت الذي يضاء بالشمع ويخشى غباره على فضل الثياب، وإنما نحن في بيت أنيق فخم في مصطاف على ساحل البحر يجمع أرقى الطبقات وأغناها إذا أقبل الصيف من كل عام، ونحن نرى مدير الملعب وصاحبته وأعوانه وذلك الرجل الغني يترددون على «ألين» فيلعبون ويقصفون، ونحن نرى زوج «ألين» سعيدا مغتبطا ينبئ صديقه بأن الله قد أذن له أن يكون غنيا، وأنه يضع قصة موسيقية ستنال الجائزة من غير شك، وأنه سيكون ناقدا موسيقيا لصحيفة كبيرة، وأن كل شيء في الحياة يبسم له. ولكن انظر إلى القوم قد أقبلوا، وانظر إلى الموسيقي قد خرج مع صديقه في بعض شأنه، وانظر إلى «ألين» قد خلت إلى الرجل الغني في حين يجلس الآخرون أمام غرفة الاستقبال يرقبون عودة الزوج وكأنهم يلعبون، واسمع إلى هذا الحديث يقع بين «ألين» وبين صاحبها الغني، فإذا هما عاشقان، وإذا هي تخون زوجها، وإذا هذه الخيانة مصدر ما ترى من نعيم! ولكن هذا الرجل ضيق الصدر بهذا الزوج الغبي؛ ضيق الصدر لأنه يريد أن يستأثر بصاحبته، وهذا الزوج الغبي يحول بينه وبين ذلك، وفي الحق أغبي هذا الزوج حقا أم هو متغاب؟! أليس يتكلف الغفلة ليستمتع بنعيم الحياة؟! ذلك شيء يفترضه الغني وتأباه «ألين»، وهما في الحديث والعبث إذ يسمعان صياح أصحابهما الذين يلعبون: «لقد أقبل فلان! لقد أقبل فلان!»
अज्ञात पृष्ठ