साउत अक्माक
صوت الأعماق: قراءات ودراسات في الفلسفة والنفس
शैलियों
ج. س. مل
الحرية قيمة كبرى، بل هي أساس القيم وشرطها، ووسيطها الذي يأتي بها إلى الوجود.
ومن ثم فالحرية لا تحدها إلا حرية مثلها. وحرية الفرد لا تحدها إلا حرية الآخرين. وما دام الفرد لم يتدخل فيما لا يعنيه ولم يشكل إزعاجا للآخرين، ولم يتحرش بغيره فيما يخصهم، ولم يعد أن سلك وفقا لميوله وأحكامه فيما يخصه، فإن نفس الدواعي التي توجب حرية الرأي توجب أيضا ترك الفرد وشأنه في وضع آرائه موضع التطبيق على مسئوليته.
إن البشر غير معصومين، وإن الحقائق التي يرونها هي في الأغلب أنصاف حقائق فقط، وإن وحدة الرأي غير مستحبة ما لم يكن ذلك نتاج مقارنة كاملة وحرة للآراء المتعارضة، وإن التنوع ليس شرا بل خير إلى أن يبلغ البشر قدرة أكبر بكثير مما هم عليه الآن في تمييز جميع جوانب الحقيقة؛ تلك مبادئ تسري على طرائق الفعل لدى البشر بقدر ما تسري على آرائهم. ومثلما أن من المفيد وجود تنوع من الآراء ما دام الكمال في البشر غير وارد، كذلك من المفيد وجود كثرة متنوعة من تجارب العيش، ومن المفيد أن يفسح المجال لتنوع الشخصيات ما دام ذلك لا يمس الآخرين بأذى. وباختصار، من المستحب، في الأمور التي لا تعني الآخرين أساسا، أن تؤكد الفردية نفسها، فحيثما كانت قاعدة السلوك هي عادات الآخرين وتقاليدهم لا شخصية الفرد ذاته، فقد تم إهدار مكون أساسي من مكونات السعادة البشرية وإهدار للمكون الرئيسي بحق لتقدم الفرد والمجتمع.
قلما فهم أحد خارج ألمانيا، مجرد فهم، معنى المذهب الذي قال به فيلهلم فون همبولت وجعله موضوع إحدى دراساته، والذي يفيد بأن «غاية الإنسان، أو ذلك الذي توجبه إملاءات العقل الأزلية الثابتة وليس ما تومئ إليه الرغبات الغامضة والعارضة، هي إنماء قدراته أعلى إنماء وأشده انسجاما ليصبح كلا مكتملا ومتسقا.» ومن ثم فإن «الهدف الذي يجب على كل كائن إنساني أن يصرف إليه جهده بلا انقطاع، والذي ينبغي بخاصة على من يريد التأثير في رفاقه من البشر أن يضعه نصب عينيه على الدوام، هو الفردية؛ فردية القدرة وفردية النمو.» ولتحقيق ذلك ثمة شرطان أساسيان هما «الحرية، وتنوع المواقف». ومن اتحاد هذين الشرطين تنشأ «القوة الفردية والتعدد المتنوع»، اللذان يجتمعان معا فيشكلان «الأصالة الإبداعية»
originality .
إن ذلك الذي لا يفعل أي شيء إلا لأنه ما جرت به العادة، لا يقوم بأي اختيار. إنه لا يكتسب خبرة لا في تمييز ما هو أفضل ولا في الرغبة فيه ؛ فالقدرات الذهنية والخلقية، شأنها شأن القدرات العضلية، لا تتحسن إلا بالاستعمال. وليس ثمة مرانة حقيقية لقدرات المرء حين يفعل شيئا لمجرد أن الآخرين يفعلون هذا الشيء، ولا حين يعتقد شيئا لمجرد أن الآخرين يعتقدونه. وإذا لم يتأسس رأي المرء على عقله الشخصي حصرا فلن يمكن لتبنيه هذا الرأي أن يقوي عقله، بل الأرجح أن يضعفه. وإذا لم تكن بواعث فعله متفقة مع مشاعره وشخصيته، فلن يؤدي هذا الفعل بمشاعره وشخصيته إلى غير التبلد والخمول بدلا من النشاط والحيوية. ومن يترك للعالم، أو لبقعته التي يعيش فيها، اختيار خطته في الحياة نيابة عنه، لا يحتاج إلا إلى ملكة واحدة تمتاز بها القرود وهي ملكة التقليد. لقد أصبح كل فرد في زمننا الراهن، من أعلى طبقات المجتمع إلى أدناها، يعيش كأنه تحت عين رقابة عدائية ومخيفة، فنجده في جميع الأمور، سواء منها ما يخص الآخرين أو ما يخصه وحده، لا يسأل نفسه: ماذا أفضل؟ أو: ما الذي يتيح لأفضل ملكاتي وأعلاها أن تنشط على سجيتها ويمكنها من أن تنمو وتزدهر؟ بل يسأل: ما الذي يليق بمركزي؟ أو: ما الذي يفعله عادة من هم في مثل وضعي وظروفي المالية؟ هكذا ينتفي الاختيار وتنتحر القيمة، وهكذا ينحني العقل نفسه لنير العبودية، وهكذا تذبل الملكات الإنسانية ولا تعود للشخص طبيعة خاصة ولا آراء ولا مشاعر ولا رغبات. فهل هذه هي الحال المرجوة للطبيعة البشرية؟!
نعم هذه هي الحال وفقا لنظرية «كلفن» التي تقول بأن الإرادة الذاتية هي خطيئة الإنسان الكبرى، وأن كل الخير الذي يمكن للبشرية أن تفعله ينحصر في «الطاعة»: ليس لك من خيار، ومن ثم فإن عليك أن تفعل كذا ولا تفعل غير ذلك. و«أيما شيء ليس فريضة فهو ذنب»، هكذا يكون الخير هو استئصال الفردية وسحق الملكات والقدرات والمشاعر. غير أن العقل يكون أكثر اتساقا مع نفسه لو ذهب إلى أن الله قد خلق للإنسان ملكات لكي تنمو، وقدرات لكي تستخدم، وممكنات لكي تتحقق، ويكون العقل أكثر اتساقا مع نفسه لو ذهب إلى أن الله قد أسبغ على طبيعة الإنسان ما أسبغ بهدف تحقيق أغراض أخرى غير مجرد محوها! إن الكائنات البشرية لن تكون شيئا نبيلا جديرا بالتأمل بأن تقضي على كل ما بداخلها من فرادة وتميز، وتمسخه إلى تشابه واطراد، وإنما تكون كذلك بأن تشجع التفرد وتهيب به وتنميه من غير اصطدام بمصالح الآخرين وحقوقهم. وكلما كانت حياة الفرد، الذي هو لبنة المجتمع، أكثر امتلاء كانت حياة المجتمع، الذي هو مجموع أفراده، أكثر امتلاء أيضا.
ويتحدث مل عن أهمية الفكر الابتكاري والتلقائية المبدعة في حياة المجتمع البشري. إن المبدعين هم الذين يكتشفون الحقائق ويذيعونها، وبدونهم ما كان للبشرية أن تعرف شيئا. والعقول العبقرية عادة ما تكون قلة متفردة من أعضاء المجتمع، وعادة ما يكون ذكاؤها وأفكارها غير منسجمة مع القوالب التي شكلها المجتمع واتخذها. غير أن هذه القلة هم «ملح الأرض»، وبدونهم تتحول حياة البشر إلى بحيرة راكدة؛ فهم لا يقدمون فقط ما هو خير وصالح مما لم يكن موجودا من قبل، وإنما هم الذين يبعثون الحياة فيما هو موجود. إن من الخير أن تكون هناك شخصيات متعاقبة من المبدعين يمنعون الحياة البشرية من التخثر، ويمنعون الحضارة من الانحطاط، ويمنعون البشر من التحول إلى قطيع، ويمنعون العقائد والممارسات من التحول إلى محض تراث وعادات (أي إلى أمور ميتة ومن ثم لا تحتمل أي صدمة من أي شيء حي). إنهم دائما قلة، ولكن من الضروري لكي يظهروا أن نحافظ على التربة التي ينمون فيها؛ فالعبقرية لا يسعها أن تتنفس إلا في مناخ من الحرية، والعباقرة أكثر فردية من غيرهم من البشر، ومن ثم فهم أقل قدرة على أن يضغطوا أنفسهم داخل قوالب المجتمع.
من الخير إذن أن نفسح للعبقرية مجال التفتح، وأن نمنح العبقرية حرية التعبير عن نفسها في الفكر والفعل، وأن نحميها من سطوة الرأي العام، أو من سطوة الحكومة الديمقراطية وهي تعكس سطوة الرأي العام؛ فالجماهير هي دائما كتلة من البشر المتوسطي القدرات ، يفكر لهم أشخاص على شاكلتهم يوجهون إليهم الخطاب أو يتحدثون باسمهم ارتجالا، أو من خلال الصحف ووسائل الإعلام. ولن يتسنى لمجتمع أن يعلو فوق «الوسطية» (النصفية)
अज्ञात पृष्ठ