साउत अक्माक
صوت الأعماق: قراءات ودراسات في الفلسفة والنفس
शैलियों
91
الذاكرة الشفاهية
تتألف الكلمات في الثقافة الشفاهية (أي التي لم تعرف الكتابة والتدوين) من أصوات، ومن أصوات فقط. ومن شأن ذلك أن يفرض ضوابط على أنماط التعبير، بل على أنماط التفكير؛ ذلك أن «حالة المعرفة» تعني الاحتفاظ بمادة المعرفة وإمكان استعادتها، الأمر الذي يمنح الذاكرة وآلياتها سطوة كبرى في «عملية المعرفة». في الثقافة الشفاهية يجد المرء نفسه مدفوعا إلى أن يصوغ تفكيره بطريقة يمكن تذكرها، إن كان له أن يظفر بمعرفة على الإطلاق. لا مندوحة للمرء في الثقافة الشفاهية من أن يصب تفكيره نفسه داخل أنماط حافزة للتذكر وقابلة للتكرار الشفاهي. هنالك يتعين عليه أن يجبل مادة الفكر في أنماط ثقيلة الإيقاع، متوازنة، أو في جمل متكررة أو متعارضة أو مسجوعة، أو في ثيمات ثابتة، أو في أمثال رنانة سهلة الترديد، وهو مدفوع بحاجته التذكرية إلى أن يلصق بالأشياء أوصافا صارخة فاقعا لونها، وأن يضفي الإيقاع ويتشبث به كأنما يحبس فيه الطليق ويعبئ السائب! وأن يستعين بحركات الجسم وإشارات اليد كأنه يثبت بها الكلمات ويسد عليها كل مهرب، أو كأنه يكمل بها رسم موقف وجودي يسهم فيه الجسد بقسط كبير. تهيب الشفاهية بالمرء أن يفكر بعقل الجماعة، وأن يعتصم بالأنماط الواردة والنماذج المألوفة والصيغ الجماعية الثابتة. إن الحاجة التذكرية هنا هي التي تملي تركيب العبارة وتحدد مجال الفكر الذي يمكن للمرء أن يروده.
ومن سمات الحفظ الشفاهي أنه يخضع للتغير نتيجة للضغوط الاجتماعية المباشرة. لا يملك الراوي الشفاهي روايته ملكية تامة أبدا. إنه منغمس في تفاعل مباشر مع مستمع حي، ومن شأن توقعات المستمعين واستباقاتهم أن تعمل على تثبيت الموضوعات والصيغ. ينجرف المتحدث الشفاهي بعقل الجماعة ويميل لميل الجمهور ويقول ما يريد منه الجمهور أن يقوله، يقول «ما يطلبه المستمعون!» إن جاز التعبير. وحين ينقطع الطلب على سلسلة من الأنساب (سلسلة المهزومين مثلا) تميل هذه السلسلة للاختفاء أو التحوير. هكذا تسمح الثقافة الشفاهية للأجزاء المؤلمة من الماضي بأن تنسى بسبب مقتضيات الحاضر المستمر، وهكذا تحتم الشفاهية دائما شيئا من الكذب والتحوير والتحريف بحكم طبيعة الذاكرة الشفاهية ذاتها.
وبحكم طبيعة الذاكرة الشفاهية وابتغاء العون التذكري تلجأ الثقافة الشفاهية إلى المبالغة البطولية، وتضخيم الشخصيات إيجابا وسلبا، والتهويل والإغراب والاستقطاب الذهني؛ ذلك أن من الاقتصاد العقلي أن تسرف في الوصف كي تدخر في الجهد التذكري، وأن تحول العادي إلى غير عادي، وأن تزيد من ثقل الشخصيات وتمد من أقطارها وتبرز من آثارها حتى تتيح لها الدوام والبقاء. فهي على كل حال لن تبقى إلا ببقاء الذاكرة ولن تذهب إلا بذهابها.
من عمل الشفاهية أن تلقي بعقلك في عالم من الهول والجلل والشخصيات البطولية؛ لا رغبة في التأمل ولا ميلا للبطولة، بل لسبب أبسط من ذلك وأكثر تواضعا، وهو أن تصوغ الخبرة في شكل يمكن تذكره! وبعد أن سادت الكتابة وظهرت الطباعة تغيرت بنية العقل وقنع برؤية الأشياء بحجمها الطبيعي، واستغنى عن الشخصية الأسطورية وشكر لها خدماتها القديمة. لقد أسعفته الكتابية بالذاكرة الدقيقة والتدوين الأمين، ولم يعد بحاجة إلى بطل أسطوري لكي يثبت له المعرفة ويحفظها من الفناء.
92
المتغيرات المستقلة: مكونات الإطار النسبي
في هذا القسم نبحث أهم «المتغيرات المستقلة»، أي التي تؤثر على غيرها من المتغيرات (التابعة) التي فصلناها آنفا، وتجعل منها أمورا نسبية، آخذين بالاعتبار أن هذه المتغيرات المستقلة، شأنها شأن المتغيرات التابعة، غير منفصلة بعضها عن بعض انفصالا تاما، وأن هناك تداخلا كبيرا بين بعض هذه العوامل وبعضها الآخر («اللغة» و«الدين» مثلا هي جوانب هامة وأساسية من جوانب «الثفافة»). ونحن إن كنا نفصلها ونعزلها فبغرض الدراسة والبحث وليس استجابة لحقيقة واقعة.
قائمة بأهم المتغيرات المستقلة
अज्ञात पृष्ठ