وقف الأستاذ عن الكلام، وقد بدت على وجهه سيماء الخجل والرحمة والاحتقار جميعا. ثم قال بعد سكوت قصير: «كم أشقت المرأة من رجل، وكم مزقت من شمل، وكم كسرت من قلب! ولكن مسكينة هي عندما لا تكون شريرة! مهما علت في عين نفسها، ومهما تحررت من قيودها، ومهما بالغت المناديات بحقوقها في رفعها إلى مستوى الرجل فإن حياتها، كل حياتها، تظل في قبضة هذا الرجل الذي تزعم أنها مثيلته، وما هي في الواقع سوى ما يريد هو أن تكون، فإذا كان حرا نبيلا جعلها حرة نبيلة، وإن كان ذليلا حقيرا حقرها وأذلها، فهي ألعوبته، وهي عبدته، وهي الشيء الذي يتصرف به في سائر الأحوال. وبعض ذوي الضمائر من الرجال تروعهم هذه السلطة على المرأة، وهذه القدرة التي تهزأ بتقلب السياسة والاجتماع؛ لأنها أقوى من الاجتماع والسياسة وأمكن باستنادها على الطبيعة نفسها، فيحجمون عن الزواج خوفا من نفوسهم.»
ضايقتني هذه التعليقات على أهميتها؛ لأني كنت أرغب في استماع البقية، فقلت: «ثم ماذا جرى؟»
قال: «جرى أن ذلك المتحذلق كان مقترنا سرا بامرأة أخرى، وكان يحتاج إلى نقود فكان الزواج أسهل وسيلة للفوز بحاجته. وبعد ثلاثة أسابيع اختفى.» - «وكيف اختفى؟» - «خرج من منزله ولم يعد، فجنت زوجته في الأيام الأولى؛ إذ ظنت أنه قتل. ومرت الأسابيع فشاع خبر سفره مع زوجته الأولى، فأرسلوا يبحثون عنه في بلده بإيطاليا، وهنا غص السنيور ف. بريقه؛ لأنه إيطالي، ولكن ذهبت أتعاب البوليس سدى، ولم يجدوا له أثرا لا في إيطاليا ولا في غيرها من بلاد الغرب. ولم يطل حتى توفي والد هذه المرأة التي غدرت في شبابها، وفي حبها، وفي مالها، وفي مركزها، فأمست وحيدة فقيرة، والكنيسة لا تحل زواجها؛ لأن الرجل لم يكن مرتبطا مع زوجته الأولى بزواج كنسي، بل كان زواجه اتفاقيا فقط. القانون يعاقب على هذا، ولكن كيف يصل القانون إلى من ضاع في المجهول؟ ولو كسرت الكنيسة زواج المرأة لظل الناس في ريبة من أمرها؛ لأن المظلوم أكثر تعرضا للشبهات والتخمين من الظالم، لا سيما إذا كان المظلوم امرأة والظالم رجلا؛ لذلك ترين الناس يؤولون كل حركة تأتيها؛ لأنها حلت على ألسنتهم وصارت لأفواههم مضغة سائغة. ولو قضت أيامها بالصوم والصلاة والتقشف لما أنصفوها. ومهما نقدتهم الثمن غاليا فلا يبيعونها ذلك الاعتبار الوهمي الذي يتزلفون به لدى أهل الجاه والثروة والسلطان، أو لدى من أتقن «البلف» عليهم، فأي غاية لهذه المرأة من الحياة؟ لا هي طليقة تتصرف بأيامها، ولا هي مقيدة تجد في تحطيم قيودها تعزية وسلوى. هذه حياة بتراء أشقاها الرجل كما بتر وأشقى مثلها وقبلها كثيرات ...»
قلت: «ولكن كيف لم تشعر هي خلال الخطبة أنه يخادعها؟»
قال: «لا أدري كيف لم تفهم هي، ولم يلمح أهلها شيئا من ذلك.»
قلت: «لعله تزوجها مخلصا إلا أنه ظل يفكر في تلك التي ربما كانت على جمال عظيم.»
قال: «يقول الذين يعرفونها إنها عجوز شمطاء، ويتعجبون كيف يرضى بها هذا المتوقد المتأنق جارية.» ثم أطرق قليلا وقال: «ولكن ليس للشباب والجمال دخل في هذه المسائل. الجمال يبحث عنه في الصالون، والمسرح، والاجتماع، والشارع، والمرأة المليحة تجذب النظر عادة أكثر ممن كانت أقل ملاحة. على أن تأثيرها لا يتعدى ذلك، والتاريخ شاهد على قولي. وأقرب شواهد التاريخ نجدها في ولي عهد النمسا الذي نشبت الحرب إثر مقتله، وهو الذي أعرض عن جميع الأرشيدوقات النمساويات الباهرات الجمال، وعن جميع الأميرات في الدول المالكة، وتنازل عن العرش والتاج غير مرة ليتزوج بمن هي أقل النساء ظرفا وحسنا. وهي الكونتس دي شوتك وصيفة إحدى قريباته، التي صارت بعد زواجها الدوقة دي هوهنبرج، وقد قتلت معه في مفجعة سراجيفو.»
وعدل السنيور ف. جلوسه وأخذ يعزف قطعة حماسية حزينة من وضع بتهوفن وهي «مارش جنازة البطل» (Marcia funebre d’un eroe) . •••
رأيت البارحة، في حديقة بضواحي القاهرة، السيدة ذات الحكاية. فهمت الآن لماذا يتغير معنى عينيها، ولئن لم أدرك بعد تماما ماذا تعني كلمة «حياة بتراء»؛ فإني أدرك أن الحياة تهيئ لبعضهم ظروفا لم يحلموا بها، ولو حلموا لتلافوها مشيا على الأشواك والجمرات. وعلمت أن في ذلك القوام المعتدل، وفي ذلك الهيكل الذي يمثل القوة والأنفة قلبا، قد يكون جرحه الحب الصادق يوما إلا أنه اليوم يعذبه سرطان تتمدد منه الأصول في جميع نواحيه، ذلك السرطان العريق الذي لا يقتلع؛ احتقار الحياة وعدم الثقة بالناس.
ساعة مع عيلة غريبة
अज्ञात पृष्ठ