كلمة المعرب
النور
حديقة ساحرة
السلطان الغوري
الغروب
حب الوطن من الإيمان
قصر الأموات1
تأوهات مسلة
السحب والإحساس
خاتمة
كلمة المعرب
النور
حديقة ساحرة
السلطان الغوري
الغروب
حب الوطن من الإيمان
قصر الأموات1
تأوهات مسلة
السحب والإحساس
خاتمة
سوانح الأميرة
سوانح الأميرة
تأليف
قدرية حسين
ترجمة
عبد العزيز أمين الخانجي
كلمة المعرب
يهمني أن أقدم هذه السوانح المكتوبة بقلم حضرة صاحبة السمو أميرتنا المصرية الجليلة القدر كذكرى لنهضة مصر النسائية التي ظهرت بوادر خيراتها إبان نهضتنا السياسية.
أقول هذه الكلمة ولا مناص لي من إظهار الأسف لقلة الآثار الأدبية المصورة لحالتنا الروحية ونحن في هذا الدور الجديد، دور الانتقال من حالة لأخرى. ففي الوقت الذي يتصفح فيه أحفادنا الآثار الأدبية التي ظهرت في عالم المطبوعات في هذه الفترة، فترة التجدد والانتباه، سيجدون أكثرها مقفرة خالية من الصور الحقيقية التي تنم عن الروح العالية التي ظهرت بها أمتنا المصرية.
عندما يأخذ المؤرخون يوما ما في تحليل حالتنا الروحية والفكرية في فترتنا الاجتماعية هذه فسوف لا يجدون في آثارنا ومؤلفاتنا الوثائق اللازمة لتصوير الحالة تصويرا تاما.
كل أمة من الأمم غنية بآدابها وأشعارها المكتوبة في أوقات تجددها وانتباهها لأن هذه الأوقات هي موسم القول والكتابة والتفكير للكاتب والشاعر والفيلسوف، وحرام على حملة الأقلام والمفكرين أن يقفوا مكتوفي الأيدي أمام عواصف السياسة والاجتماع التي تهب على أمتهم في مثل هذه الظروف.
أنا لا أنكر أن فريقا من كتابنا وشعرائنا قاموا بما يجب عليهم، سواء بالكتابة في الصحف اليومية أو بنشر الرسائل والمؤلفات التي تنم عن روح مصر في هذه الأيام، غير أن ما كتب في ذلك قليل لا يشفي الغليل، لا سيما المؤلفات الدالة على نهضتنا النسائية فإنها نادرة جدا لا تتجاوز الاثنين أو الثلاثة.
لا يمكن إنكار ما للنساء في عصرنا الحاضر من الأثر البين في رقي الأمم، إذ إن أثرهن في رقي العصر الحاضر لا يقل عن أثر الرجال فيه.
وكل إنسان ينظر إلى هذه النظرية بعين «الازدراء» ولا يضع نصب عينه الوصول بأمته إلى مستوى الرقي من هذا السبيل - بقدر ما تسمح حالتنا الاجتماعية - خليق بأن يوضع اسمه في قائمة المحافظين، الذين لا يودون لأمتهم الرقي والفلاح.
يؤلمني بأن أقول: إن طراز معيشتنا الحالية لا تتفق مع روح العدل والإنصاف؛ فإننا معشر الرجال أنانيون نحو نسائنا إلى حد غير محمود. فالنساء عندنا محرومات من لذة الاشتراك معنا في المساعي الحيوية، بعيدات كل البعد عن الوقوف على مدهشات المدنية ورقي عصرنا الحاضر، واجبهن في الحياة الاجتماعية أن يكن لعبا في أيدي الرجال، لعبا يحتفظ بها في أوقات جدتها ثم تحطم أو تلقى في زوايا الإهمال والنسيان فيما بعد.
وقد اعتدنا على هذا النوع من العيش وأنسنا به كل الأنس، حتى أصبح الرجل منا إذا رأى أن امرأته جميلة وولودة اكتفى بهاتين المزيتين ولم يطلب المزيد.
إذا أنا اليوم رفعت صوتي الضعيف منددا بهذه الحالة فليس ذلك معناه أنني أريد لنسائنا أن يطفرن طفرة يصلن بها إلى مثل الحالة النسائية التي عليها نساء الغرب في يومنا هذا، لأن مثل هذه الأمنية ضرب من المحال لما بيننا وبين الوصول إلى تلك الغاية من الحوائل والموانع. وكل ما أطلبه اليوم هو انتشال المرأة من حالة الجمود الغارقة فيه بقدر الإمكان. والوصول إلى هذه الغاية لا يأتي إلا من طريق تعويد الناشئات من بناتنا على التفكير وتربية ملكات الفهم والذوق فيهن بالوسائل العلمية. لا يكفي أن نرى بين ظهرانينا فاضلة أو فاضلتين يشتهرن في عالم الأدب، بل يجب أن نعمل على توسيع دائرتي العلم والعرفان بين بناتنا حتى نطمئن ونعلم بأننا واقفون على الدهليز المؤدي إلى الرقي حقيقة.
علينا أن نعمل على إكثار مدارس البنات وتهذيب أصول التربية والتعليم التي تطبق في تلك المدارس، إذ لا جدال في أن الأصول المتبعة الآن هي من بقايا الأصول البالية التي كانت تطبق في القرون الوسطى. وإلا فمن منا ينكر بأن البنات في مصر لا يستفدن من المدارس سوى قشور من العلم لا تجدي ولا تنفع. هذه حقيقة يقرني عليها الواقفون على الحقائق، الناظرون في أحوال التعليم نظرة إنصاف وعدل.
إلا أن الأمر لا يوجب القنوط واليأس إلى حد أن نتقاعد عن سبيل الإصلاح، فإننا ولله الحمد في إبان نهضة نسائية تبشرنا بحسن المستقبل وإقبال شباننا على تعضيد هذه النهضة يبعث فينا قوى الآمال، فإنني ما كدت أتقدم إلى إخواني المصريين بكتابي «الخواطر» و«السراب» حتى تهافتوا عليهما أيما تهافت فطبع كل منهما طبعتين في بحر سنة واحدة.
إزاء هذا التشجيع رأيت اليوم أن أتحفهم بسوانح سموها، وهي مقالات مختارة من كتاب «تموجات أفكار» المطبوع باللغة التركية. والطريقة التي سرت عليها في جمع هذه السوانح هي ترجمة المقالات المكتوبة عن مصر ولمصر.
بقي لي أن أشكر سيدي وولي نعمتي حضرة صاحب السعادة الأستاذ أحمد زكي باشا الذي تفضل علي بإعارة النسخة التركية من خزانته الزكية أدامها الله عامرة بوجوده لينفع مصر بعلمه وعمله، والله أسأل أن يعيننا جميعا على ما فيه إنهاض مصر، إنه عليم بالنيات.
القاهرة، 10 نوفمبر سنة 1920
عبد العزيز أمين الخانجي
النور
مهداة إلى قبر جدي الأكبر ساكن الجنان
الفصل ربيع، والعالم أجمع مغمور في لطافته ونعومته، أما الوقت فكان مساء، وكنت إذ ذاك جالسة على سطح سفينتنا المسماة «فيض رباني» الراسية أمام «قصر الدوبارة» أشنف السمع بنغمات النسيم. وكانت الكواكب العديدة المتألقة في كبد السماء تعكس أشعتها على سطح النيل لتؤلف خطا من النجوم تتلألأ كالجواهر النفيسة على صفحة تلك المرآة الصافية.
كانت الليلة ساكنة وكل ما حوالي في سكون وصموت، ولولا أصوات الدعاء والابتهال التي ينقلها الأثير إلى مسمعي من حين لآخر لخيل لي أن العالم مسترسل في النوم.
أما المصابيح التي على جسر قصر النيل، الممتدة كسلسلة من النور على طول الطريق المؤدي إلى الأهرامات فكنت أرى شعاع أنوارها على النيل كسطور من الذهب نمقتها يد كاتب متفنن على صفحة بيضاء.
ربما كانت هذه الليلة تفضل أياما عديدة؛ لأنها كانت في نظري زاهية زاهرة مملوءة بالأسرار والخيالات.
وكان النسيم يلاعب أشجار الحدائق القريبة منا فتتمايل كالمروحة على شجيرات الورد والياسمين لتنشر في الفضاء أريجها، وكنت كلما صوبت النظر إلى ظلال تلك الأشجار ظننتها حراسا تخفر شاطئ النيل في سكون الليل.
إن النجوم وهي تتمتع بمرأى هذه الليلة الجميلة تشرف أيضا على أماكن أخرى، وتعرض محاسنها بلا شك على صفحات أنهر غير النيل، ولكن ألا تظن معي أيها القارئ أنها تفضل سطح النيل الرائق على كل مرايا العالم؟
في هذه الليلة المباركة تجتمع كلمة المسلمين من كافة أنحاء العالم لأمر واحد، وتتجه نفوسهم بشعور واحد إلى الدعوة والاسترحام ولو لمدة وجيزة. وإنك لتجدهم في هذه الليلة سكارى وما هم بسكارى، غارقين في حلم معنوي وقد هدأت ضربات قلوبهم.
في هذه الليلة المباركة تقام الشعائر الإسلامية بإجلال وإعظام في كافة المساجد من أقصى المعمورة لأقصاها، وفي هذه الليلة تسطع الأضواء من على المنائر ببهجة وإشراق. كل هذا احتفاء بالليلة التي ولد فيها سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام.
كل المآذن الواقعة على مد بصري كانت مزينة بالأنوار ترفل في ثياب من البهجة والإشراق، إلا أن مئذنتي جامع جدي الأكبر محمد علي، تمتازان عليهن بما يبدو على زينتها من روعة وجلال، إذ إن الشرفات المحيطة بهاتين المئذنتين المائستين كانت تلمع في وسط السماء كأربع من الأسورة المرصعة بالجواهر الساطعة. وما كنت أرفع بصري نحوهما إلا وتمتلئ جوانب نفسي بالعظمة والإجلال.
هاتان المنارتان المرتفعتان نحو العلاء بذلك القد الرشيق كأشجار السرو، هما ميزة ذلك الجامع الجليل الشأن، إذ يجذبان الأنظار من أبعاد شاسعة، ويستقبلان الغرباء القادمين إلى مصر من دروبها المختلفة المؤدية إليها، بالتأهيل والترحيب.
كانتا منتصبتين في الفضاء كالتمثال، يراهما القاصي والداني ويشاهد قديهما المائسين، الواقف عند أطراف الصحراء المتوهجة رمالها توهج التبر، ويبصرهما المشرف على مصر من أعلى ذروة في جبل المقطم، كما كان الواقف على سطح النيل المزركش يمتع أيضا أنظاره بمرآهما. وإن العين لا تمل النظر إليهما وقت أن تأذن الشمس بالمغيب، حيث ترسل الغزالة عليهما خيوطها الذهبية الدقيقة، فيظهران في تلك اللحظة كلوحة بديعة نقشتها الطبيعة بمزيج من ألوانها المفرحة الآخذة بمجامع القلوب، فلا يسع الرائي عندئذ إلا أن يرمق ذلك العرش السحري بعين الإجلال والتعظيم.
محمد علي، وما أدراك ما محمد علي! وإنها لسعادة كبرى لمن كانت مثلي أن تقلب الطرف في صفحات التاريخ، باحثة عن حسنات ذلك البطل، نافخ روح العلم والنور في مصرنا العزيزة. ولكن ما العمل وأنا لا يسعني إلا إظهار الأسف لعجز يراعتي عن بلوغ هذه الأمنية! لأنني أعلم تماما أن الكتابة عن حياته المملوءة بالأسرار والمعجزات في حاجة إلى قلم كاتب خطير وتحقيقات مؤرخ قدير.
إن ذكراه لتمر الآن من أمام ناظري كسيارة لامعة وأنا أحدق النظر في المنارتين، ورؤيا جامعه الشريف يعيد إلى الذهن اسمه الكريم تحف به آيات الحفاوة والتقديس.
وهذه الكلمات الصادرة من أعماق قلب تهتز أوتاره باحترامه وإجلاله، أقدمها اليوم إلى أنواره الساطعة كذكرى لهذه الليلة الساحرة. •••
ذلكم البطل الخالد الذكر، صاحب العزمات الماضية، والأفكار العالية، والآمال الكبار، هو أول من نشر المدنية الحديثة في مصر، وأول من أيقظ البلاد من نومها العميق، وأول من أخذ بيدها إلى سبل السعادة ومباهج الحياة الصحيحة. عاش في صباه أميا لا يعرف القراءة والكتابة، لكنه كان سراج أمته، أبدل ظلامها نورا، فانتعشت على يديه روح المعارف والفنون. وبفضل مساعيه اتسعت دائرة الصناعات، وتقدمت الزراعة وارتقت أساليب التجارة.
في عهده الزاهر، بدئ بزراعة القطن وقصب السكر؛ وهما الدرتان اللامعتان في تاج الزراعة المصرية، وبذلك خطت مصر خطوتها الأولى في سبيل الرقي والفلاح. وإن التاريخ لن ينسى مجهوداته الكبرى في سبيل تنشيط الصناعات، وما كان لمصانع الأقمشة الصوفية والحريرية، ومعامل الزجاج المنشأة في عهده من الأثر البين في تجديد حبل المواصلات بين مصر وأوروبا.
المدارس الحربية، ومعاهد الفنون والعلوم المؤسسة في عهده من طب، وهندسة، وإدارة من أكبر المظاهر الدالة على اهتمامه بتشجيع وسائل العلوم والفنون.
أراد أن يستفيد من فيضان النيل السنوي وألا يدع تلك المياه العذبة، وفيها إكسير الحياة لأرض مصر، تذهب هباء، فوجه همته العالية إلى تقسيمها على الأراضي بطرق فنية مما زاد الخير والنماء في محصول البلاد. ونظر بعد ذلك إلى النيل في أوقات الفيضان فألفاه جاريا على غير نظام، يغمر الأراضي والقرى المرتفعة ويتركها جزرا يتعذر الوصول إليها لإحاطة المياه بها من جميع جهاتها، فضلا عما يصيب الأهالي من الخوف والقلق خشية طغيانه، فأمر بإنشاء القناطر الخيرية عند مفترع النيل، وبذا خلص البلاد من أكبر الويلات والشرور.
كانت المماليك حين ذاك شعلة فتن ودسائس يخشى منهم على حكومته المشروعة، فدبر لهم تلك المكيدة التي قطعت دابرهم، فانتهت المشاحنات والمنازعات بانتهاء أمرهم وعاد الأمن إلى نصابه مرة أخرى. وبعد أن خلص البلاد من شر فتنهم أخذ يبذر بذور الائتلاف والاتحاد بين العناصر المختلفة في مصر، فجمع كلمتهم وألف بين قلوبهم. ثم اهتم بعد ذلك بتحسين الحالة الاقتصادية ليوطد عرش ملكه على مهاد الراحة والطمأنينة.
وقد اهتم بترقية الجيش من الوجهة الفنية، فأحضر مهرة الأساتذة من أوروبا لتدريب أتباعه ومريديه الذين كان يرسلهم للصعيد بعد إتمام تعلمهم؛ حيث كانت مهمتهم تشكيل فرق جديدة من العساكر النظامية والمتطوعة. ولكي يأمن شر عساكره اللانظاميين فتح لهم أبواب الحرب في مجاهل السودان، وكان كلما قل عديدهم في القاهرة سد نقصهم من الفرق النظامية المتدربة بأسوان.
فكر بعد ذلك في إيجاد أسطول لمصر وتعزيز الحامية بفرق الهجانة، الأمر الذي كان له أحسن أثر في انتصاراته على الوهابيين الذين عاثوا في الأراضي المقدسة فسادا، واستفحل خطرهم لدرجة أنهم داسوا على حقوق المسلمين في الحرمين الشريفين، ووقفوا حجر عثرة في سبيل أدائهم فريضة الحج. فما كاد يصدر إليه الأمر السلطاني بتأديبهم حتى أخذ في إعداد الأخشاب اللازمة لعمل السفن في بولاق ومن ثم أمر بنقلها إلى السويس لبناء الأسطول الذي أقل العساكر المصرية إلى أرض الحجاز، وبذلك تمكن من التغلب على تلك الفرقة الظالمة.
كان رحمه الله متصفا بالشهامة والذكاء يضع الأشياء في مواضعها، ويقدر لكل أمر قدره، وكان مجلسه على الدوام حافلا بكبار أهل العلم ورجال الفضل والعرفان، وكان يستفيد من فضائلهم ويسترشد بهديهم في معضلات الأمور، فضلا عن المجهودات التي بذلها في سبيل تنوير أذهان الأمة بنور العلم.
وبفضل الشجيرات المتنوعة وبذور النباتات المختلفة التي تعب كثيرا في سبيل إحضارها وزرعها في أطراف المملكة أصبحت مصر جنات تجري من تحتها الأنهار.
لم يفته - رحمه الله - قول النبي
صلى الله عليه وسلم : «ساعة من عالم متكئ على فراشه ينظر في علمه خير من عبادة سبعين عاما.»
1
فبذل جهده في سبيل تنوير أذهان الأمة بنور المعارف وتزيين ربوع البلاد بشارات العلم.
وكان من صفاته الشخصية الشهامة والذكاء، ومن خصائصه أن يضع الأشياء في مواضعها، ويقدر لكل أمر قدره. أما مجلسه فكان على الدوام حافلا بكبار أهل العلم ورجال الفضل والعرفان، يستفيد من فضائلهم ويسترشد بتجاريبهم في الحياة كما أسلفنا.
عند شبوب نار الثورة اليونانية في بلاد المورة كان شبله الأكبر إبراهيم باشا على رأس الجنود العثمانية يقودها إلى مواطن الظفر والفخار، ونظرا لإخلاصه وهمته العالية التي ظهر بها في هذه الحروب لم يكتف السلطان بتشريف قدر محمد علي الكبير بالدعاء له في إحدى الفرمانات بقوله: «أبقاك الله لي وللأمة».
بل أهدى إليه ولابنه الأكبر سيفين مرصعين بالجواهر تلطيفا لهما. وأعقب هذه الثورة اندلاع نار الفتن في كريد فتكفل بها ابنه الأكبر إبراهيم باشا أيضا، الذي تمكن من قمعها وتهدئة الخواطر فيها بمدة صغيرة.
عرفت الدولة لمحمد علي هذه الخدمات الصادقة وقدرتها حق قدرها، فوجهت إليه ولاية جدة واليمن وكريد في آن واحد. إلا أن هذه التلطيفات السامية التي نالها محمد علي الكبير بفضل مساعيه وأعمال ابنه الأكبر إبراهيم أحفظت عليه صدور رجال الدولة وحركت في نفوسهم عوامل الحقد والحسد؛ مما سبب حادثة «الشام» المشئومة، ولكن لم تمض مدة كبيرة حتى أصلح الزمان ما أفسده الحسد، وأسدل نقاب النسيان على تلك الحادثة، فعاد محمد علي إلى إخلاصه وعادت التلطيفات السلطانية إلى مجراها السابق.
كان غيورا على نفع مصر متفانيا في محبتها؛ يدلك على ذلك أنه لم يكد يسمع بوجود معادن الذهب في سنار حتى تكبد بنفسه مشقة السفر إلى مجاهل السودان على ظهور الإبل بغية الاستكشاف والاستطلاع، وحبا في إسعاد مصر رغم ما كان يعانيه من آلام الكبر.
وبالإجمال أراني مهما أسهبت لا أستطيع وصف عمل من أعماله الكبيرة من كل الوجوه وصفا يستكمل الأعراض ويستوفي الأجزاء، وإن المتصدر لترجمة ذلكم البطل الخالد الذكر، الجامع في رأسه ذكاء رجال عدة، أحر به أن يكون ملما بعظمة الأيام السالفة وما بها من مظاهر الأبهة والوجاهة، وكذلك بجميع الصفات والمزايا التي يجب أن يتحلى بها كبار رجال التاريخ ليمكن له أن يأتينا بصورة صحيحة من شخصيته وجلائل أعماله.
وكل ما أستطيع إثباته الآن هو أن عصر محمد علي كان عصر تدبير وقوة، وأن شخصيته كانت فذة عميقة لم يسبر غورها تماما بعد.
في مبدأ حكمه كانت معارفه العلمية ضئيلة وتجاريبه في الحياة قليلة، ومع ذلك فقد تمكن في مدة قصيرة من انتشال البلاد من وهدة الاحتضار وإيصالها في بضع سنوات إلى أوج السعادة والإقبال بعد أن فهم حاجاتها ولوازمها وكساها بثياب العلم والنور.
في عهده فتحت أبواب الرزق على مصراعيها، وفي زمنه مهد السبيل لإشراق شمس المدنية على ربوع هذه البلاد، الأمر الذي أدى إلى رقيها السريع ونجاحها الباهر. ولو أن الخلف اقتفى أثره في سبيل إصلاحاته وحافظ على محاسن آثاره، فمن يدري إلى أي حد كانت تصل سعادة مصر المادية، وفي أي درجة من العز والإقبال تكون حياتها المعنوية؟
عند زيارته الأخيرة لعاصمة الإسلام ارتاحت نفسه الكريمة إلى رؤية الجامع المعروف ب «نور عثماني» ووقع شكله المعماري من نفسه موقع الرضى والاستحسان، فأمر عند عودته إلى مصر ببناء جامع يماثله في الشكل والهيئة واختار له مكانا في القلعة التي بناها صلاح الدين الأيوبي، إلا أن الأيام لم تمهله ليرى الجامع الذي أمر ببنائه، فقد اغتالته المنية قبل إتمامه، بعد أن سلخ خمسا وأربعين ربيعا قضاها في سبيل إسعاد مصر، فدفن في الجهة اليسرى من جامعه المذكور رحمه الله رحمة واسعة.
في نفس العصر الذي عاش فيه محمد علي ولعب دوره الخطير على مسرح التاريخ، كان يعيش عظيم آخر من عظماء التاريخ هو نابليون الأكبر، فخر فرنسا وأكبر علم في تاريخها، تدرب هذا القائد في مدارس فرنسا الحربية ثم أظهر نبوغه وعبقريته في جملة وقائع استولى فيها على أهم العواصم الأوروبية، وجعل نفسه الحاكم المطلق لا على فرنسا فقط بل على نصف أوروبا، وبذلك خلد لنفسه ذكرى دائمة محفوفة بالمجد والعظمة في طيات التاريخ. إلا أن تاج المجد الذي تقلده كلف وطنه فرنسا ثمنا غاليا هو خرابها وانحلال قواها لمدة سنين. وتلك العظمة الكاذبة التي تربع على عرشها كانت واهية الأساس لم ترد عنه عادية النفي وتحمل آلام الغربة في جزيرة تبعد مئات الأميال عن أرض فرنسا.
أما محمد علي فقد كان مناط أمله توطيد ملكه على أساس ثابت، وكانت همته موجهة بالأكثر إلى راحة مصر في مستقبل أيامها، ولذلك كان أهم عمل له هو وضع حد للفتن والدسائس وتطهير مصر من أمراضها المزمنة، وإن التاريخ ليسطر له بالفخر والإعجاب أنه ما انتقل إلى رحمة الله إلا بعد أن مهد السبيل إلى إسعاد مصر فتقلد خلفه زمام الإدارة، وهي على أتم نظام وترتيب.
فلو أراد ناقد منصف أن يوازن بين عملي هذين البطلين اللذين عاشا في عصر واحد ونظر إلى آثارهما نظرة إنصاف، فمن منهما يفوز بنصيب أكبر من إجلاله وتقديره؟ أهو ذلك الفاتح الأمي الذي أبدل ظلام مصر بالنور؟ أم ذلك القائد الذي أراد أن يسخر العالم بعبقريته ونبوغه؟
هذه هي الليلة الوحيدة التي أرى فيها عظمة جدي الأكبر متجلية بأبهج مظاهرها، بل يخيل لي في هذه اللحظة أن أنوار تلك العظمة كانت تتماوج على سطح النيل المتلألئ بالأنوار السابحة فيه.
أما القلعة المتعالية بالبهجة والإشراق على جبل المقطم فكنت أراها كالإكليل المرصع يزيده هيبة وإجلالا.
أما الدعوات الصادرة من قلوب الحاضرين في جامع القلعة تلك الليلة فكانت تخيل لي أنها تمتزج بالأدعية المخطوطة في اللوحات النادرة المعلقة على جوانبه لتكون كالوحي المقدس ينير القلوب بشعلة الغفران ويذكي فيها شرارة الأمل.
ومما زاد بهجة هذه الليلة ظهور البدر شيئا فشيئا من وراء المآذن والقباب بعد أن كان محتجبا عن الأنظار خلف ستار رقيق من الضباب. وما كاد يظهر ويمزج نوره بأضواء الكواكب القريبة منه حتى غمر العالم بطوفان من الفضة. وجماع هذه الحالات الروحية اللطيفة كانت تدفع النفوس إلى الابتهال باستنزال أنوار الرحمة والغفران على روح ساكن الجنان، جدي الأكبر محمد علي.
مصر، 11 ربيع الأول سنة 1333ه
حديقة ساحرة
إلى أستاذي الفاضل حضرة علي تقي أفندي
لا أدري كيف أصف بهجة الربيع في هذه الليلة؟
لو كنت شاعرة، أجيد نظم القوافي لوصفت ما يخالجني من الانفعالات النفسية شعرا، ولو كنت بلبلا لشدوت في الحال بقصيدة الطبيعة الغرامية، أو كنت رسامة لخلدت بريشتي ذكرى هذه الليلة الشبيهة بليالي الفردوس.
ولكن من يستطيع وصف هذه اللوحة البديعة؟! ليلة شرقية زاهرة ذات أريج لطيف وحالة جذابة لا يمكن نسيانها إلى الأبد، وصفاء ليل يقف الإنسان أمامه حائرا باهتا.
كانت النباتات مسترسلة في نومها، وقد هدأت تغاريد الطيور، وخفتت ترنيمات العصافير، وشمل الصمت جميع ما في الحديقة، فليس ثمت صوت أو حس يخل بلطافة المكان.
وبعد حين ظهر البدر بوجهه المنير من وراء الغابة فحيا الكائنات مبتسما، ناشرا أنواره في الفضاء. وكان النسيم المعطر يهب كالمروحة بين آونة وأخرى على وجوه الأزهار فيوقظها رويدا رويدا من سباتها العميق.
لم تكن هناك نسمة حية تتمتع بمرأى هذا المشهد الرائع، اللهم إلا جماعة الأزهار وطائفة الشجيرات الآخذة في الصحو على مهلها. فبهجة هذا المنظر وبهاؤه، وروح هذا المشهد الرائع وجلاله إنما كانت أزهار هذه الحديقة المقفرة، تلك التي كانت ترسل مع هبات النسيم ابتساماتها العطرة للكائنات المحيطة بها.
الضوء الحاصل من وجود القمر ولمعان النجوم في الأفق كان ساطعا باهرا يظهر ما خفي من ألوان هاته الزهور ويشف عما لها من شكل وقوام، وكان يخيل للرائي أن كل زهرة منها تحمل بين جنبيها شكرا خفيا تذيعه للعالم حالما تنتبه من نومها الهادئ .
إن الناظر إلى هذه الحديقة وهي مقسمة إلى طرائق مختلفة من الزهور التي تحاكي بألوانها علائم السماء من صفرة وزرقة وحمرة وخضرة وبياض ليخال له أن في كل زاوية منها أثرا للحسن والتأثر وعلامة للحياة، وحيثما سرح نظره لا يقع إلا على تماثيل صغيرة من الورود والرياحين تنشر أريجها الذكي في الفضاء.
كان زهر الليمون المتساقط يحرك كوامن النفس بأريج رائحته الشديدة بينما زهر الزنزلخت
1
يرسل سلامه المعطر من على منبره العالي. أما الأقاح والأرجوان والمنثور فكانوا على مقربة من بعض كأنما هم خلان يتنادمون على بساط واحد.
الورد في هذه الحديقة فريد في لونه، مقطوع القرين في شكله! الأبيض منه ملتف برداء الطهر والعفاف، والمشرب بالحمرة يتبسم سرورا، والأصفر يتثنى دلالا، أما الأحمر القاني، ملك الأزهار وسيد الورود، فكان يضرم في أرجاء الحديقة نار العشق ولهيب الهيام.
كل الأزهار والرياحين تجل الوردة الحمراء وتقدسها وكل منها تفاخر بوجودها، حتى الشجيرات الملتفة حولها كانت تضمها إلى نفسها بلهفة واشتياق لتستمد منها البهجة والبهاء، أما زهر العسل والياسمين - أصفره وأبيضه - فيظهران الإجلال لسيدة الورود بالضحايا التي يسردانها أمام مليكتهم بين حين وآخر.
على بعد من هذه الجماعة، بالقرب من الغدير الصافي، كنت ترى الزنابق وزهر السمسم تستعرض محاسنها على صفحة تلك المرآة، بينما كنت ترى الغليسين
2
تهتز دلالا بعناقيدها وزهرة الثالوث مطرقة بسيماها اللطيف. وكانت أنوار اللجين الآخذة في الظهور على مهل من خلال غصون النخيل تزيد بهاء الأشجار وغصونها، وتكسب الحديقة معنى شعريا جميلا. أما أرواح العشاق الذين هبطوا الأرض في هذه الليلة فقد أيقظوا العالم بحفيف أجنحتهم الغير منظورة وجعلوا الحديقة منتدى عشق وهيام. «جبارس»، مارس سنة 1911
السلطان الغوري
في القاهرة شوارع ضيقة، كثيرة المنعرجات والمنعطفات لم تزل محافظة على غرابتها القديمة وميزتها القومية العتيقة حتى يومنا هذا رغم تطاول السنين والأيام عليها.
ففي ذات يوم من أيام الربيع المتوهج بالحرارة والنور، كنت مارة بإحدى هاته الشوارع، بينما النسيم يهب عليلا من جهة الشمال، وبينما أشعة الشمس الذهبية تهج الأنظار.
كان الطريق هادئا ساكنا يسوق المرء إلى أودية الخيال وحرارة الجو بما فيها من وحشة وانقباض تدعوه إلى طلب الراحة وتذكره بأيام الصيف الشديدة الوطأة.
اجتزت الطريق متأملة باستغراب فيما حولي من الحوانيت الصغيرة الممتدة على طول الطريق يمينا ويسارا، إذ كانت المناديل الحمراء المعلقة عليها تجعل لها شكلا لطيفا، أما أصحاب هذه الحوانيت؛ فالبعض منهم في انتظار زبائنهم وهم مضطجعون يراود النعاس أجفانهم، والبعض الآخر يقطع الوقت بالأحاديث الفاترة، كأنما شدة هذا اليوم القائظ قد نفذت إلى أعماق قلوبهم فصيرتهم في هذه الحالة. وكان يبدو على سيماهم الاستسلام للهدوء المحيط بهم وعدم الاكتراث لمدهشات المدنية. هكذا كانت تمر بهم الساعات وهم في لذة باطنية محفوفة براحة البال وهدوء الضمير؛ لأنهم في أمان من الاضطرابات التي تلحق أولئك الذين يضنيهم إجهاد الفكر في سبيل العمل. إننا لو أحصينا الحوادث المؤلمة التي اعترضت أيام هنائهم ومواسم سرورهم، فكم يبلغ عددها يا ترى؟ ولو فرضنا أن أيام حياتهم ضمت إلى بعضها كحبات المسبحة الواحدة، فكم علامة وقف يصادفها الإنسان بها؟
بعد أن تركت «باب زويلة» بقليل، ذلك الباب الرهيب الذي كان مشنقة في أيام المماليك، وقع نظري على بناءين شامخين: أحدهما على اليسار، والثاني على اليمين، والبناءان يلوح عليهما أثر القدم عند أول نظرة يلقيها الإنسان عليهما، لأن الأيام والليالي كانت قد لونت حائطيهما بلون ثابت لا يزول مدى الأيام.
كان يرتفع من جانب البناء الواقع على يساري منارة مربعة، يرى الناظر من خلال تزييناتها زرقة السماء وأطراف السحب، فأدركت للحال أنه مسجد قديم، وعندما ارتقيت السلالم المؤدية إلى مدخل الجامع كان أول أمر ألفت نظري هو الباب المحلى بالنقوش العربية النفيسة والأشكال الهندسية الجميلة. أثر نفيس يدل على غرام الأوائل بالفنون وولعهم بكل ما هو بديع وجميل.
تركت بعد ذلك ضوء الشارع لأدخل في قتام المسجد، وكان لا بد لي من وقفة عند عتبة إيوانه الصغير ليعتاد النظر على تمييز الأشياء، إلا أن النسيم البارد الآتي من صميم ذلك المسجد المقدس لطف ما بي، ولم يلجئني إلى إطالة الوقوف.
ما أجمل هذا المكان! ملجأ للإسلام بعيد عن حرارة اليوم، في أمان من ضوضاء العالم وضجيج الحياة! سكونه العميق ينفذ إلى قرارة النفس فيسكن ما بها من الآلام، وأنواره النافذة إليه من منوره المتوسط كانت تنتشر في أرجائه وزواياه لتنير الكتابات المنقوشة على الحائط، وتظهر للأنظار التزيينات المتعددة الموجودة به.
أما المنبر والقيشاني المحلى به الجامع فكانا آية في دقة الصناعة، وكلاهما كانا كلوحة فنية تسترعي الأنظار بجميل شكلها. وبالإجمال فإن دقة الصناعة التي كنت ألمحها في الأشكال المتعددة المصنوعة من العاج والصدف جعلتني في دهشة عظيمة، وبعد أن تأملت هذه الأشياء جلست باحترام على الدرج الموجود بجانب المحراب واستسلمت لتأملاتي. كنت أفكر في الغاية التي بني هذا المسجد لأجلها، فأقول في نفسي: هل كان بناؤه بدافع مقدس، أم أنه نتيجة لغرور العصور الاستبدادية؟
رباه، ما أجمل حسنه الرائق! إن معاني الآيات الكريمة المنقوشة على أطراف الجامع تمتزج بالأنوار الواصلة إليه من خلال نوافذه، فتكسب دقائق الأثير المالئة أطرافه حالة روحية توقع الهيبة في النفوس، وكان يخيل لي أن الأدعية التي تقرأ فيه بإخلاص والدعوات الصالحة والأحاديث الشريفة التي يرتلها المصلون أثناء عبادتهم ما زال صداها يرن في قبته الجميلة، ففي كل ركن أثر من الهيبة والجلال، وفي كل زاوية حالة روحية تجذب النفوس وتدعوها إلى التأمل والتفكير.
خطر لي وأنا غارقة في سكون المسجد وجلاله مظاهر الطنطنة التي يراها الإنسان في المعابد التي تقام فيها شعائر الأديان الأخرى، تلك المعابد المملوءة بالهياكل الثمينة والصور الجميلة والرسوم البديعة والمراسم المبهرجة.
نحن في صلواتنا نضع نصب أعيننا أننا بين يدي الخالق عز وجل، فنراعي السكون ونلازم جانب الهدوء. أما هم فقد أرادوا تقوية أسس الدين بأصوات «الأورغ» وبذلك مزجوا الروحانيات بالضجيج والضوضاء.
ابتدأنا في التأخر والتقهقر منذ اليوم الذي أهملنا فيه أوامر ديننا الحنيف. فلو كنا انقدنا إليه تماما فأتمرنا بأوامره واجتنبنا نواهيه من يدري في أي ذروة عليا من درجات السعادة كنا الآن؟
أراد أصحاب الأديان الأخرى الوصول إلى ما يؤثر فيهم فاجتهدوا وجدوا في إصلاح معتقداتهم غير المنطقية بتلك المراسم والحفلات، أما نحن المسلمين فقد أهملنا في المحافظة على عقائدنا الدينية المبنية على أساسات منطقية معقولة، ولذلك أخذنا في طريق التقهقر وسبيل الاندحار.
هم قلبوا الباطل وألبسوه صورة الصحيح فاستفادوا دنيويا، أما نحن فقد تركنا مناهج الحق وسرنا في طرق معوجة لم توصلنا إلى الغاية المنشودة وهي السعادة. قد هجر الغرب المتمدن ذلك الطريق المزخرف في الاعتقاد فوضحت أمامه سبل الحياة، أما نحن فابتعدنا عن أنوار ديننا الحنيف وسرنا نتخبط على غير هدى، ونتسكع في دياجير الجهل إلى أن وقعنا في هوة التأخر.
وصلنا إلى حالة نكاد نفقد فيها بهاءنا وبريقنا، نظير اللآلئ التي يطول عليها القدم من غير أن تستعمل. فإذا رغبنا في الحياة وأردنا ألا نندثر كالأمم التي بادت لجهلها ولم يبق لها سوى اسمها في صفحات التاريخ، وجب علينا أن نحيد عن طريق الضلال لنسلك مناهج الحق والاستقامة.
كنت مطرقة أتأمل فيما حولي من السكون فمر من أمامي رجلان واتجها نحو الباب، ثم فتحا إحدى نوافذ الإيوان وأطلا منها على الخارج حيث الزقاق القديم الملتوي التواء الثعبان. رفعت نظري نحوهما وهما يتحادثان فطرقت أذني كلمة صغيرة استرعت كل انتباهي إذ كان أحدهما يقول: «لما شيد «السلطان الغوري» هذا المسجد أمر أيضا ببناء مقبرته أمامه.» هذا كل ما سمعته لأنني عدت ثانية إلى الغوص في لجج التفكير. كنت أفكر في اسم السلطان الغوري، ذلك الاسم المحفوف بالخواطر الموجعة والتذكارات المؤلمة فقلت في نفسي: إذن أنا الآن في نفس الجامع الذي بناه السلطان الغوري! ما أغرب هذه الصدفة!
حلقت ثانية في جو التأملات فطار بي الفكر إلى الماضي البعيد، إلى الوقائع الدموية التي شهدتها أرض الشام بين جيوش السلطان سليم المنتصرة على جند «الشاه إسماعيل» وجيوش السلطان الغوري صاحب هذا المسجد.
تصادم الجيشان في (مرج دابق) فاشتبكا مع بعضهما في قتال عنيف، ورأى الغوري أن جيشه آخذ في الهزيمة والإدبار فلم ير بدا من الفرار. ابتعد عن ميدان المعركة وفي صحبته أحد الجنود من أتباعه ووقف بالقرب من أحد الأنهار بحجة الوضوء، حيث فرش له الجندي سجادة الصلاة، وما كاد يرتمي عليها متمددا حتى فاضت روحه.
وعندما خمدت نيران المعركة، لاحظ السلطان سليم أن الغوري لم يكن بين القتلى أو الأسرى فأمر بالبحث عنه في كل جهة. فتقدم إليه أحد جنوده وأخبره بأنه رأى جثة الغوري على مقربة من شاطئ النهر، إلا أن سليما داخله الشك في صدق الخبر فأرسل معه «جنديا» ليأتيه بالخبر اليقين.
ظن ذلك «الشاويش» الأبله أنه إذا أحضر رأس الغوري لمولاه ينال استحسانه ورضاه، فما كاد يصل إلى مكان الجثة حتى فصل الرأس عنها وحمله مفتخرا إلى المعسكر. إلا أن السلطان سليم احتدم غيظا لرؤية هذا المنظر البشع وهاله أن يرى الحاكم المغلوب مهانا بعد مماته ومقطوع الرأس كمجرم عادي، فأمر بإعدام ذلك الجندي الأحمق.
كنت أفكر في كل هذه الحوادث فيأخذني العجب للخاتمة السوداء التي انتهت بها حياة ذلك السلطان، الآمر ببناء مقبرته على ذلك النمط المكلف مع أن جثته بقيت في مكان ورأسه في مكان آخر، ولم يعرف له مدفن حقيقي حتى الآن!
تصفحت بعين الخيال الأيام التي مرت على مصر بعد هذه الحادثة، فتمثل لناظري استيلاء السلطان سليم على مصر بعد موقعة «العادلية» فصلب «طومان باي»، خلف الغوري، على باب زويلة فالحرائق والمذابح العامة ثم طلوع عصر جديد باندحار المماليك ودوام التحكمات المتسلسلة على مصر. وما يلي ذلك من أيام حكم السلطان سليم في مصر وسلطنته الزاهرة في سراي النيل والصفحات المشرقة من حياته الجنونية.
استعرضت في ذاكرتي كل هذه الحوادث التي مرت بنظام آخذة بعضها برقاب بعض، إلى أن تذكرت الكلمة الخالدة التي فاه بها السلطان سليم عندما نظر إلى خريطة البحر الأبيض حيث قال: «إن هذا البحر أصغر من أن يخفق عليه لواءان، فليخفق في أرجائه لواؤنا فقط.» وقد ذكرتني كلمة هذا السلطان الخالد، علم زمانه في البطولة والشجاعة بكلمة أخرى أمر بكتابتها على باب سرايه في المنيل وهي:
الملك لله وحده، والذين يأملون الحصول عليه بالقوة والغلبة يضطرون إلى إرجاعه في نهاية الأمر. نحن العاجزين لو كان لنا أن نملك حفنة من التراب على وجه الأرض لكنا شركاء لله عز وجل.
خادم الفقراء
سليم
ولما تركت حدائق المنيل وأزهارها المعطرة وخيالاتها اللطيفة راجعة إلى أحضان الحقيقة، كان الجو قد اعتدل وأخذت الأنوار النافذة من قبة المسجد في الزوال، فشكرا لشمس الربيع التي قادتني إلى هذا الخيال!
مصر، كانون الثاني 1912
الغروب
خيالات
كان للشمس وقت العصر سحر خاص يولد السرور والنشاط وينشر على الكائنات رقة ينسى المرء معها ما قاساه من شدة الحر طول يومه، كما أن طراوة النسيم التي تتخلل دقائق الهواء كانت تحيي نفس الإنسان بلطفها الساحر ويحلو وقعها لديه، كأنما هي أماني العاشق بساعة الوصال. وكانت القبة الزرقاء في صفاء جاذب تدهش العيون بزرقتها. أما أمواج البحر اللامعة فكانت تتلألأ على الساحل فتكسبه حلة لطيفة بابتساماتها الحلوة ودلالها العذب.
وعلى كثب، كانت رياض النخيل التي تزين الرمال الذهبية بمنظرها البهيج تنشر في كل الأرجاء ظلالها المنقوشة «كالدنتلا» بينما كان منظر الكروم الزمردية يدعو النفوس المتعطشة إلى نزهة في ذلك المساء.
لم يكن في الإمكان مقاومة دلال الطبيعة، فما كدت أنظر البحر يتبسم أمامي، وأرى ذلك المنظر المعروض على الأنظار عند رمال الشاطئ، حتى لبيت تلك الدعوة اللطيفة فقمت متجهة نحو خرائب قانوب
1
المجاورة لنا حيث ارتقيت قمة التل الذي يتوج تلك الأطلال الدارسة لأمتع النفس بمنظر الغروب.
هذه المدينة معروفة منذ حروب «ترواده» الشهيرة، التي هي من أغرب الفصول في كتاب أساطير الأولين. وقد سميت كذلك لأن «قانوبس» أحد الأدلاء الذين رافقوا الملك «مينالاس» في حروبه كان قد عرج على الإسكندرية فصدمت العواصف سفينته وأغرقتها في ذلك المكان، أما هو فما كاد ينجو من الغرق وتطأ أقدامه الساحل حتى فاضت روحه في تلك البقعة التي أطلق الناس عليها اسم «قانوب» ذكرى لهذه الحادثة.
عرف الإسكندريون واليونانيون مزايا هذه البقعة من جهة الموقع والمناخ، فجعلوها مقر لهوهم وسرورهم، فلم يمض عليها زمن كبير حتى اشتهرت بمعابدها النفيسة وحماماتها اللطيفة ومراقصها التي تجذب إليها عشاق اللهو والطرب من كل حدب وصوب.
في مدة قليلة وفي زمن وجيز ازدهت هذه المدينة وارتقت إلى أن بلغت عرش الإقبال، ثم ما لبثت أن أخذت في سبيل التدهور والسقوط لانهماك أهلها في المناعم والملاذ، وما هي إلا عشية وضحاها حتى طوي بساط ذلك السرور كأن لم يكن منشورا بالأمس، ولم يبق من مظاهر تلك الأفراح والمسرات إلا اسم ضئيل في صفحات التاريخ يكاد يمحى لضآلته.
ننظر الآن إلى هاته الأطلال فنستعيد إلى الذهن ذكرى ذلك الماضي البعيد ونحن غارقون في لجج الحيرة والتأمل.
في وسط تلك الخرائب والأطلال لا يوجد سوى أثر واحد محافظ على شكله القديم، هو معبد صغير في وسطها يجذب الأنظار بأعمدته المزخرفة ذات الألوان البديعة.
كانت أنوار المغرب تنعكس على تلك الأعمدة الرخامية الناصعة في تلك الخرائب المنسية مما يجعل لها شكلا خياليا بديعا.
الأسرار الكامنة في الحجرات الدارسة والرفوف والحوائط المتداعية والأعمدة الواقعة وفتات الأحجار المبعثرة هنا وهناك، كل هذه ألسنة تنطق بحوادث عالم زائل وسطور صدق تعرض للأنظار دروس الاعتبار.
إن هذا المعبد الشهير بقية أطلال مدينة «قانوب» الزاهرة، تلك المدينة التي هي تذكار السلف للخلف، كان يتوهج بالنور من تأثير شمس الصيف الساحرة، وكان يخيل لي أن الخواطر المعطرة ما زالت تتماوج في أرجاء هذه الخرائب، وأن الآمال الذهبية تهتز حتى الآن في دقائق الأثير المحيطة بهذا العرش، عرش المسرات والأفراح المدرج إلى الأبد في أكفان العدم والنسيان.
من يدري كم من الرءوس انحنت بخشوع أمام تلك الأعمدة الملقاة على الأرض الآن بحالة ذل وانكسار؟ إنني لا أكاد أذكر أبهة الماضي وسلطانه حتى تتجسم أمام أنظاري الصفحات الخالدة من عظمة هذه المدينة القديمة. وبتأثير الانعكاس الأزلي كنت أشتم في الهواء روائح الزمن القديم ويخيل لي أن في كل زاوية أثرا للحس والحياة.
بعد أن حييت بإجلال وإعظام المعابد الخربة والأعمدة المتداعية والحجرات المهشمة من خرائب قانوب الحاوية في عرصاتها آثار مدينة زاهية زاهرة، أخذت في إتمام نزهتي ووجهتي خليج أبي قير، وكان البحر إذ ذاك يداعب الرمال الذهبية عند الساحل وشمس الغروب تفيض على كل الجهات بأنوارها الباهرة.
تتبعت طول الساحل ولما يبق على غروب الشمس إلا مقدار طول الحربة، إلى أن وصلت إلى القلعة المسماة بطابية الترك؛ وهي أعلى الطوابي المحيطة بأبي قير.
هنالك رأيت منظرا بديعا ترقص له حبات القلوب. رأيت المدينة تحتي ملتفة بثياب بيضاء تسترها غلالة رقيقة من ذرات الرمال. وأشجار النخيل الشامخة بأنفها نحو العلاء، مصطفة بترتيب واحد تزين الطريق بعناقيدها الصفراء والحمراء، والخليج متمخضا أمامي بأهميته التاريخية، وقد بدا في حلة من الأنوار الذهبية، بينما الشمس تطبع عليه قبلتها الأخيرة، وفي ناحية أخرى كنت ألمح مقبرتين ينشران على العالم آثار الهيبة والخشوع وعلى اليسار من هذا الموقع كان بضعة أفراد من الإنجليز تتلهى بلعبة «التنيس».
وهناك على الساحل كانت جماعات من السماكين مشغولين بسحب شباكهم ينظرون إلى ما قسم الله به عليهم بلهفة واشتياق، وكنت أسمع فوق رأسي طنين تلك الآلة، آلة الطيران التي هي معجزة عصرنا تحلق في الجو طائرة كالنسور، وكلما ارتفعت ظهرت للأعيان كأنها واقفة لا تتحرك، وبالإجمال لم يكن هناك سوى الصمت والدهشة والبهاء!
على بعد شاسع بالقرب من جزيرة نلسون الواقعة في عرض البحر كنقطة استناد كنت أرى جملة نقط بيضاء تقترب نحو الساحل، وبعد قليل تبينت تلك النقط البيضاء التي كنت إخالها أشرعة تتحرك، فإذا هي قوارب صيد من النوع المسمى «نابوليتان» يقتربن إلى الشاطئ كسرب من طيور البحر.
كنت أراقب هذا المنظر البديع، منظر قدوم هؤلاء السماكين من مسافات شاسعة تبعد عن المدينة أربعة أو خمسة أيام، ثم اقترابهم بهيئة منتظمة إلى شاطئ البحر، فيأخذني الإعجاب بسعيهم وإقدامهم فأقول في نفسي أجدر بهذا النشاط أن يكون درس اعتبار لسماكينا الكسولين. ثم انتقل الخاطر فجأة إلى تفاصيل وقعة حدثت في نفس المكان وبنفس هذه الصورة منذ مائة وأربع عشرة سنة.
حاول أسطول نابليون في ذلك العهد الالتجاء بهذا الخليج، وباغته الأميرال الإنجليزي «نلسون» بأسطوله حيث دمر معظم سفن الفرنسيين، وأغرق البقية في أعماق البحر.
لم تستغرق المعركة أكثر من ثلاث ساعات، ومع ذلك فقد كانت رهيبة دمر في خلالها معظم الأسطول الفرنسي، وما سلم منه لم ينج من العطب، وإن الناظر في الخليج وقت هدوء البحر ليمكنه أن يرى تلك السفن التي تقوم بالملايين وهي في قاعه. وقد حاول كثير من كبار الماليين تخليص تلك الثروة الطائلة من قبضة البحر في أزمنة مختلفة إلا أن مساعيهم ذهبت أدراج الريح، وظلت تلك السفن في مرقدها الهادئ حتى يومنا هذا.
وفي النهاية وصلت قوارب الصيد النابولية إلى الساحل، فرأيت أصحابها منهمكين في طي الأشرعة وهم ينشدون الأهازيج والأغاني. وبينما كنت أرى أشكال قبعاتهم المنعكسة في البحر بألوانها المختلفة كانت الشمس أتمت غروبها وغاص قرصها الذهبي في لجة الخليج ناشرا في أرجاء المكان ضوءا قرمزيا.
وفي ذلك الوقت، أي في الوقت الذي بدأت فيه الأنوار على سطح البحر تخبو والأضواء التي في السماء تتضاءل والرسوم والأشكال التي تكونت في السحب تضمحل، نزلت من المكان الذي كنت فيه وقفلت إلى مسكني راجعة على مهل، طامسة بأقدامي طنافس الرمال الناعمة التي فرشتها يد الطبيعة لتزين شاطئ البحر.
وكان الهواء إذ ذاك محاطا بسنار رقيق، شفافته تكسب المناظر نوعا من الإبهام والغموض.
هنا وهناك لمحت بعض نماذج من المساكن الأولية لبني الإنسان، أو بالحري خياما نصبها البدو في ذلك القفر، نظرت إلى تلك الخيام فإذا بأضواء الأسرجة تشع من خلالها، وإذا بأصحابها منهمكين بإحضار طعام المساء. كان فريق من هؤلاء البدو قافلين نحو خيامهم وهم يسوقون الإبل أمامهم، وفريق آخر كان جالسا أمام خيمته بتلك الكيفية الخاصة بالبدو، بينما البعض متمدد على الرمال مسترسل في بحار الخيال والتأمل، والبعض في عزلة عن رفاقه يترنم بالأناشيد الشجية، وفي ناحية من هؤلاء كنت ترى لفيفا منهم يتناول الطعام مع عائلته، وفريقا آخر يتنادمون حلقات حلقات مع الأصحاب والخلان.
كنت أرى على وجوههم آثار السرور، وألمح في خيامهم أمارات الأنس والبشر، وفي قلوبهم علامات البساطة وراحة النفس. وبالإجمال كانت تلك البقعة صحراء خالية تملصت من قيود الضجيج ولجب المدينة. فمن منا يحكم بعد ذلك بفقدان السعادة من هذا الوجود، وهو يرى مثل هذا المنظر الرائع، منظر السرور والنشاط في مثل هذه الصحراء البعيدة عن أنوار مدنية العالم العائشين فيه؟ إن الاشتراك بالفكر والحس في حياة القناعة والسذاجة التي يقضيها هؤلاء البدو الناعمو البال لمما يبعث الطمأنينة والهدوء إلى قرارة النفوس. أفلا تشعر معي أيها القارئ أن من يعيش بعيدا عن مدنيتنا الحاضرة يستيقظ في عالم الهدوء والإيناس، حيث يرى نفسه محفوفا براحة الضمير والسرور المعنوي؟
عندما رجعت إلى مقر سكني كانت الكائنات قد استرسلت في سكونها العميق واختفت عن أنظار الحس تحت ستار الخفاء.
وكنت أسمع أغاني المساء المعنوية تتماوج في الفضاء وهي تدعو «الكائنات الحية» إلى النوم والراحة.
أما سراي المعمورة، إحدى المعجزات التي تمت على يد الفن، فكانت نجومها الكهربائية تسطع بالبهجة والإشراق.
وبالإجمال فإن آثار الحياة الظاهرة في داخل السراي وخارجها كانت تستعد لاستقبال هذه الليلة الروحية الزاهرة بالابتسامات.
مصر، في 20 جمادى الثانية سنة 1329
حب الوطن من الإيمان
إن بشرى نبينا الجليل الشأن، القائلة بأن حب الوطن جزء من الإيمان لها وقع كبير في نفوس المؤمنين وأثر جليل عند الذين يعرفون معنى الإخلاص في الإيمان.
جعل النبي حب الوطن مقياسا للإيمان الخالص، فما أعظم هذه الحكمة! وما أجلها سعادة لدى النفوس النقية أن تكون قلوبهم مفطورة بحب أوطانهم! طوبى لكم يا أصحاب القلوب الطاهرة فقد جبلتم على حب الوطن، فأصبحتم محبين له وأصبح محبوبا لكم. صرتم من عشاقه وصار معشوقا لكم. وإن الحكمة الرائعة التي تنطوي عليها هذه السنة النبوية الجليلة الشأن لفي غنى عن الشرح والبيان؛ لأن الوطن هو منبت فضائلنا، منه نقتطف ورود الحمية وأزهار الشجاعة.
وطننا مجموعة نفيسة تضم بين دفتيها ذكرى كياننا، ففيها تجد ذكرى أيام السلف وحوادثهم، وفي طيات صحائفها تدون أعمالنا الحاضرة يوما فيوما.
إن الأعمال التي سيقوم بها أولادنا وأحفادنا في الأيام المقبلة ستدون أيضا في صفحات هذه المجموعة، فلنحتفظ بهذا الأثر النفيس ولنحرص عليه كل الحرص.
إن وطننا المحبوب، المحدد بدماء أسلافنا الأعزاء، ذلك الوطن المفدى الذي تركه لنا الأجداد وديعة بعد أن قاموا بتحصينه، لا بالحجارة والحصون، بل بعظامهم وجماجمهم يطلب منا التفاني في خدمته؛ لأن زماننا زمن عصيب يقتضي السعي والإقدام. فلنخدم وطننا ولنحرص عليه لأنه بالحرص عليه نحرص على حياتنا، وبالتفاني في خدمته نخدم أنفسنا.
إن المحب الحقيقي لا يحجم عن بذل النفس والنفيس وتضحية أعز ما لديه في سبيل الوصول إلى رضى المحبوب، فلتكن تضحيتنا إذن في سبيل الوطن بقدر محبتنا له.
لنبرهن على أننا نعز الوطن ونهيم بحبه بالفعل لا بالقول. لنضع نصب أعيننا الدماء الزكية التي أراقها أبطال الوطن في سبيل أوطانهم، ولنفكر على الدوام بأن الخلف سينظر يوما ما إلى أعمالنا فينقدها كما ننقد نحن اليوم آثار السلف، وبمثل ذلك ليكن سعينا جليلا في سبيل خدمته.
ننظر اليوم إلى آثار أسلافنا فتدهشنا أعمالهم، فلنحاول نحن أيضا أن ندهش أبصار أحفادنا بجليل ما سنتركه من الآثار والمآثر. لنجتهد ولنبرهن للعالم من طريق حب الوطن بأن قلوبنا مملوءة بالإيمان الصادق، وبأننا نعلم تماما بأن حب الوطن من الإيمان.
القاهرة، 19 ربيع الأول سنة 1328
قصر الأموات1
إحدى صحف الماضي
اليوم فقط أسعفني الحظ فزرت مقابر الجثث الشهيرة التي ظلت راقدة نحو ثلاثة آلاف عام في وادي الملوك براحة وهدوء، وهي في مقرها الحالي في سراي «قصر النيل» ذلك القصر المحتشم. لم أضطرب ولم يلحقني الضيق والكمد، كما لو كنت في وادي الملوك المبطن بالحجارة الملساء، بل تمكنت من رؤية تلك الآثار بكل راحة وهدوء وأنا في هذا الملجأ الأمين الموجودة فيه جثث الفراعنة بين ثنايا الجبال الصناعية لهذا القصر.
فكنت أسير في طرقاته غير هيابة ولا وجلة إلى أن وجدت نفسي في صالة كبرى أمام باب ضخم فولجته في الحال . عند ذلك استقبلني صف من الهياكل الأبدية، وهي مصطفة بترتيب واحد على يمين ويسار المدخل الكبير. نظرت إلى هذه التماثيل فخيل لي أنها تنظر إلى ما حولها بازدراء واحتقار، نعم فهذه الآثار الفرعونية الخالدة، هذه التماثيل العظيمة المنحوتة من الجرانيت الملون كانت تدل بسكونها وصموتها عما مر عليها من الخطوب العظيمة والحوادث الجسيمة.
لم يكن في مقدور الإنسان عدم التأثر بتلك النظرات العميقة التي يسطع نور ضيائها من عيون تلك التماثيل، تلك النظرات المملوءة بالتحية والمؤانسة. إن الناظر إلى هاته التماثيل يتصور أنها - وهي جالسة على تلك القواعد المحكمة - تستعرض أمامها سلسلة العصور التي مرت عليها وتذكر شوارع «منفيس» المزدانة بالأعمدة وطرقاتها المحفوفة بالمعابد النادرة ومواسمها الحارة فتقيس ماضيها الخلاب بحاضرها. فكنت ترى على سيما هاته الهياكل أثر السرور، وعلى شفاهها ابتسامة السخرية والاستهزاء، وفي عيونها بريق اللذة، وفي أعماق قلوبها سر الآخرة.
بمثل هذه الصورة كانت هذه الهياكل الجرانيتية الملونة بالحمرة والسواد، جالسة جلسة الفلاسفة تستعرض انقلابات العالم وتبدلاته العظيمة وتطوراته العجيبة.
تركت بعد ذلك هذه التماثيل ذات العيون الصافية في تأملاتها وخطوت نحو الأمام لمشاهدة الآثار الموجودة في القاعة السفلية، بعد أن توقفت في دهاليز عديدة ومررت على جملة أبواب، فكنت أرى كل الغرف ملأى بالآثار النفيسة التي تعيد إلى الذهن آثار الماضي وخيالاته.
فهاكم آثار مدنية بعيدة مجهولة، هاكم هياكل ومعابد وأعمدة ومقابر «أرمنت» و«منفيس» و«الكرنك» و«الأقصر»، تلك المدن الزاهرة منذ آلاف السنين، تزين الآن هذا القصر الساكن وتزيد مجموعة الآثار الموجودة قيمة تذكاراتها النفيسة.
الأوجه الضاحكة البارزة من الحوائط والرءوس العديدة والابتسامات الممزوجة بالهجو والسخرية، كلها كانت تتركني في حيرة واضطراب، ثم التفت إلى الجهة اليسرى من صالة صغيرة فرأيت عينين سوداوين تتأملان في محيط الصالة. هاتان الدرتان النفيستان اللتان تزينان ذلك الرأس الجميل، لا بد وأن يكونا عيني الملكة «تابا» لأن نظراتها الحادة كانت تتعقب المرء فتؤثر عليه بسحرها الخاص.
وقد تمكنت هذه المرأة الفتانة من الزواج بفرعون زمانها مع أنها لم تكن أصيلة أو ذات نسب عريق في المجد، وعلى مر الأيام زادت عظمتها وكبرت أبهتها حتى انقاد الجميع إلى أمرها وحكمها، ثم انتهزت فرصة ممات «أمانوس الثالث» فشاركت ابنها البكر في الحكم وأدت لمصر خدمات جليلة بما أبدته من الحنكة العالية والذكاء الفطري في تدبير الأمور.
تشبه هذه الملكة نوعا ما السلطانة «كوسم»
2
في الفكر والقدرة؛ لأنها هي أيضا نالت موقعا هاما من الإجلال والإعظام في أيام حكم ابنها السلطان إبراهيم حتى أصبح في يدها مقاليد كل الأمور.
وقد اشتهر عن كلتا هاتين الملكتين الذكاء والقدرة في تولي الحكم، إلا أن التاريخ يذكر اسميهما مقرونا بالشدة والغرور.
أصحاب العلم والعرفان يزداد عددهم على مر السنين والأيام، إلا أن منزلتهم العلمية وقيمتهم المعنوية هي هي في كل عصر وكل زمان، فالملكة «تايا» التي كانت سببا في رفاهية وتقدم مصر في عصرها منذ ستة آلاف سنة مضت، ظهرت عظمتها في القرن الحادي عشر من الهجرة في شخص السلطانة «كوسم».
كنت أمتع النظر بمرأى الآثار العديدة، وأقف أمام مدهشات كثيرة لا تعد. إلى أن مررت بجانب أحد الأبواب فاستلفت نظري أحد التماثيل بشكله المعنوي. كان التمثال هو الهيكل المعروف «بشيخ البلد» ذلك التذكار الباقي من أيام الفراعنة، مصنوع بشكل فني بديع، وفي يده عصاه التي يحث بها قومه على الجد والعمل.
الشرق شرق في كل زمان؛ فالكسل إحدى مميزاته الممزوجة بحالته الروحية تلك الميزة التي يسعى الشرقيون في رفعها وإزالتها في كل حين وآن.
طفت بعد ذلك في أنحاء تلك الغرفة العجيبة الموجود بها عجول «ايبيس» ومنها انتقلت إلى غرفة أخرى، رأيت بها الأميرة «نوفريت» المرتدية بجلبابها الأبيض الناصع تنظر إلى ما حولها بعينيها الجميلتين، حيث كانت جالسة على كرسي سلطنتها جلسة من يستمع أحاديث نخبة من الخلان الأصفياء. فتركت غرفتها ببطء خشية الإخلال بالسحر المعنوي الضارب في أطنابه وتابعت المسير باحثة عن إحدى ملكات الشعر والخيال. فنقبت عنها في كل حجرة وصالة، ولكن ذهبت كل أتعابي أدراج الرياح ؛ لأنني لم أعثر على أي أثر يدل عليها. كنت أبحث عن ملكة لها حادث خاص في التاريخ، تلك هي «نيتوقريس» ذات الخدود الوردية. يذكر عنها التاريخ أنها كانت تسبح ذات يوم من أيام الصيف في مياه النيل فتركت حذاءيها المزركشين على شاطئه الذهبي، وبينما كانت الشمس ترسل أشعتها على الحذاءين فيزداد بريقهما انقض عليهما طائر واحتمل أحدهما على منقاره حتى «منفيس» وألقاه أمام فرعون ذلك العهد الذي كان مجتمعا بأركان دولته وأعيان مملكته في ميدان فسيح.
فلما رأى الملك ذلك الحذاء الصغير عول على أن يبحث عن صاحبته، وما زال يفتش عنها حتى وجدها واقترن بها أخيرا. وقد تركت هذه الملكة لنفسها صحائف خالدة في تاريخ مصر ما زالت مشرقة الجوانب حتى يومنا هذا، وهي نفسها التي أمرت بإتمام الهرم الموجود بالجيزة ودفنت داخله، غير أنه مما يوجب الأسف أن هذه الملكة الجميلة «نيتوقريس» لم يعثر لها على قبر أو تمثال، وقد ازددت أسفا عندما سمعت بأن تاريخ حياتها مدون على صحيفة من ورق «الپابيروس» ضمن معروضات متحف «تورينو»!
وقد ظلت قصة هذه الملكة كحكاية خرافية ولم يبق لها في التاريخ مزية أكثر من ذكر اسمها الموسيقي.
إلى هنا كنت قد أتممت زيارة البهو السفلي فارتقيت السلالم المؤدية إلى القاعات العلوية ودخلت الدائرة الخاصة بالحيوانات المقدسة، فوقع نظري على جملة من القطط والكبوش والتماسيح والقردة والفيران والطيور المعروفة بأبي قردان، وكانت جميعها مرتبة داخل دواليب من الزجاج ترمق المتفرجين شزرا بعيونها الزجاجية الباردة.
كان يلوح لي أن أنواع التقديس وضروب الاحترام التي نالتها هذه الحيوانات وهي حية أكسبتها الجمود البادي عليها الآن، إذ كان الناظر إليها وهي مصفحة بأنواع الحلي الذهبية يخيل إليه أنها في انتظار الذين عبدوها حينا من الدهر.
أي حس عميق يا ترى يسوق الناس إلى إيفاء واجباتهم الدينية في مختلف العصور والأيام حتى يجعلهم يلجئون إلى مثل هذا النوع من العبادة، عبادة عيون الحيوانات ومناقير الطيور؟!
قرب الآن ميعاد غروب الشمس، إذ كانت أشعتها النافذة من القبة الكبيرة تلون الموجودات بلون أحمر وتنشر في أرجاء القصر ألوانا مختلفة من الهيبة والخشوع.
الإطارات والنوافذ والحوائط والمدافن أصبحت جميعها في طوفان من اللون القرمزي، وكان يخيل للناظر أن الهياكل والتماثيل أخذت في الانتباه والصحو، وأن التوابيت تلتهب بالنيران.
هنا في هذا المكان يرى الإنسان الابن بجانب الأب والحفيد في محاذاة الجد، والكل نائم في صف واحد بعضهم مسدل النقاب على وجهه، والبعض يختال في ثيابه وحلله، والبعض راقد بلا ثوب ولا كفن.
هؤلاء الأعيان والذوات الذين كانوا ينفرون من بعضهم البعض وهم أحياء، جمعهم الموت على حظيرة واحدة في هذه المقابر الغرانيتية التي تزين هذا القصر، وقد اختلط حابلهم بنابلهم، فالعدو بجانب العدو، والخصم مجاور للمخاصم، والحاكم على قيد أمتار من المحكوم، فكم من الملوك الذين يقرأ الخلف تاريخهم الآن على الأعمدة ليلم بأعمالهم وآثارهم قد لبوا الدعوة إلى هذا الموعد!
إن هؤلاء الذين دفنوا ردحا من الزمن في طي الصحاري وبطون الجبال قد تلاقوا الآن في هذا المكان، وها هم ينتظرون بفروغ صبر الساعة التي تنعتق فيها أجسادهم من هذا الجمود الأزلي.
ألقيت نظرة أخيرة على هذه الموميات الذهبية، فخيل لي أنها تستعد لمسامرة ليلية، وأن كلا منها تنتظر انقطاع صوت الأقدام على إثر غروب الشمس لتقفز من زاويتها الساكنة إلى بساط المنادمة والمصاحبة.
في وسط هؤلاء الحكام المغرورين الذين ظلوا تحت أطباق النسيان مدة مديدة في وادي الملوك والمعروضين الآن لحرارة الشمس في هذا القصر المحتشم، كان «رمسيس» الأكبر راقدا في مقره الأبدي، ملتفا بأكفانه المنسوجة من ألياف نبات الصبر الناعمة، داخل دولاب من الزجاج. الهيكل العظمي لهذا الملك العظيم كان يشف عن مهابة وجلال، فجبهته الواسعة تستر تحتها أمارات القوة والاستبداد، وأنفه الأقنى يدل على الغطرسة والكبر، وعيناه المجوفتان يشفان عن السطوة، بينما شفتاه الرقيقتان تنمان عما كان له من قوة وإرادة.
ها هو «رمسيس الأكبر» الذي تحكم في حياته على العالم بجيوشه، يرفع الآن قبضته اليابسة بالتهديد كأنما يريد أن يتحكم على العالم الروحاني أيضا ويملي أوامره الملوكية على المشاهير الملتفين حوله في هذا القصر.
هذه اليد المرفوعة لغرض خاص، هل كان رفعها إطاعة لأوامر ملك الموت؟ أم أنها رفعت لغضبه من مفارقته مقره الهادئ في «وادي الملوك»؟ أم لأنه اضطرب من حرارة الشمس بعد رقاده الطويل في أعماق الأرض فرفع يده ليتقيها؟ وبالإجمال فالمرء يحار في تعليل ذلك.
قبل هذا التاريخ باثنين وعشرين عاما أمر الخديو السابق المرحوم «توفيق باشا» بإخراج جثته من تابوته المذهب وأن يجرد من أكفانه التي يبلغ طولها أربعة آلاف متر أمام جمع من العلماء والأعيان، فظهرت علامات الغضب والاغبرار على محياه حتى ذعر الخفراء والمتفرجون وارتدوا إلى الوراء، ويظهر أنه احتدم غيظا لإخراجه فجأة من الأعماق المظلمة التي ظل فيها ستة آلاف عام إلى وجه الأرض، فرفع إحدى يديه اللتين كانتا مطبقتين على صدره ليهدد العالم. ومنذ ذلك الحين أخذ وجهه يزداد عبوسة.
إن هذا الملك الذي أضاف صحائف خالدة على تاريخ مصر بفتوحاته الشهيرة، والذي كان يلقبه اليونانيون بالمعبود القادر، أوصى وهو مدفوع بتربيته الفكرية وإحساساته الموروثة بأن تدفن جثته في أقصى وأعمق نقطة من وادي الملوك، ليظل جسده بعيدا عن الأنظار في أمان من السرقة حتى أبد الآبدين. ولكن وا أسفاه لم تمكنه الأيام من إتمام رغبته كما أراد، فإن المقابر التي بذل الفراعنة في تشييدها وبنائها النفس والنفيس، غير مبالين بما ضاع في ذلك السبيل من مال الأمة وأرواحها، قد ناوأها الزمان ولعبت فيها الأيدي وكشف ما كان تحتها من الأسرار فظلت دروس عبرة لأنظار الناس. هؤلاء الفراعنة الذين عملوا لكل أمر حسابا، هؤلاء الحكام الذين ابتلاهم الدهر بفكرة الخلود، لم يعملوا لهذا الدور الغادر، دور المدنية الحديثة حسابا ولم يدر بخلدهم إمكان ما وقع لهم اليوم.
لو أنهم ظلوا في أمكنتهم، في تلك الطرق الخفية من وادي الملوك لكان لأجسادهم المحنطة نصيب أوفر من الخلود، غير أنه الآن قد حكم عليهم بالفناء منذ الساعة التي أخرجوا فيها من محيطهم السابق إلى وجه الأرض. إن عظامهم اليابسة المحنطة بالأدوية والعقاقير قد قاومت مرور الأيام والأعوام، ولكنها لا تستطيع اليوم مقاومة نور الشمس.
إن «رمسيس الأكبر» الذي دوخ أمما عديدة ومدها بالنور والضياء، والذي كان سببا في شهرة عائلته ورفع ذكرها، تملكت حب الشهرة في نفسه لدرجة عظيمة حتى أصبح أسيرا لها طول حياته. رغم فتوحاته العديدة وانتصاراته الباهرة، كان في ريب من خلود اسمه ودوام ذكره، فأمر ببناء المعبد المعروف باسم «رمسسيوم» بالأقصر، ذلك المعبد الذي ظل مكانا مقدسا حتى أيام إسكندر المقدوني، وحافظ على مكانته حتى في أيام المسيحيين.
وقد ظلت أعمدته الملونة العديدة محافظة على نفاستها وقيمتها، وبقيت مظهرا لتقدير الناس وإعجابهم ومدارا لذكر اسم «رمسيس» إلى الأبد.
كل هاتيك الآثار والمباني لم تطفئ تعطشه الشديد إلى حب الشهرة والخلود، إذ كان على الدوام في ريب من الأيام على اسمه المحفوظ بالسطوة والبأس، فعمد إلى تشييد هياكل عظيمة مشابهة له في وسط الصحراء أملا في تخليد محياه المهيب. ففي كل عمل من أعماله أثر من آثار الأنانية، وفي كل حركاته مظهر من مظاهر الغرور، وبالإجمال فقد كان عنوان المهابة والعظمة وتمثالا مجسما للغرور.
ها أنا ذا أراه الآن أمامي راقدا في تابوته البلوري كبقية الأموات المجاورة له، ولم تبق له مزية من مزايا شهرته منذ اليوم الذي أخرج فيه من مقبره الملوكي وحل هذا المكان. وبعد سنين قلائل تتحلل عظامه فتفسد وتتفكك فينقلب إلى كمية من التراب لا تكاد تملأ الكف، وعندها لا يبقى له في الوجود سوى ذكراه المحفوفة بالغرور. فقل لي بربك من الذي يصدق بخلود «رمسيس» بعد زوال هذه المظاهر الدالة على عظمته؟ وما يبقى إذ ذاك من تلك القدرة والكبر والعظمة والسطوة؟
إن رمسيس الراقد في تابوته البلوري والملتف بأكفانه الصفراء المنسوجة من ألياف نبات الصبر ليس الآن بينه وبين بقية الأموات المحفوظة في هذا القصر أدنى فرق. فكل التوابيت مصطفة بترتيب واحد ونظام واحد وكلها مصنوعة من الخشب والزجاج وعلى جميعها لوحات صغيرة كتب فيها اسم الميت وأسرته . وعندما اقتربت من تابوت «رمسيس» لأقرأ اسم هذا الحاكم المغرور في الورقة البيضاء المعلقة عند قدمه كم وددت أن يضاف على اسمه هذه الكلمة التي قالها الشاعر المرحوم ضيا باشا:
بوقبه ده قالان همان برخوش صدايمش
3
تأوهات مسلة
مبتكرة
خيل لي أنها تتأوه فتقول: «آه، من يستطيع إسكات أوجاعي المتأصلة في أعماق قلبي، ومن أين لي ذلك الذي يخفف عن آلام نفسي ويداوي جراحها ببلسم كلماته المسلية؟
إنني حتى اليوم أعجب لأمر نفسي، ولا أدري لماذا حكم علي بمثل هذا النفي المؤبد والشقاء الدائم. أنظر حولي فلا أجد رفيقا أحدثه بما بين جوانحي من الأوجاع والتأملات أو صديقا يشاركني في أصدق العواطف والإحساسات. أكل الدهر علي وشرب وتطاولت الأعوام والأجيال وأنا ما زلت في مكاني هذا لا أتحول ولا أتبدل. إن القوم هنا قدروني حق قدري وأغرقوني بطوفان من إعجابهم وإعظامهم ثم أحلوني صدر ميدانهم الفسيح، لأحرك في نفوسهم كامن الفضول، ورفعوا قامتي نحو العلاء لأشرف عليهم من سماء مجدي وخيلائي. فما أكثر القادمين لزيارتي في هذا المكان! وما أشد إعجاب الملتفين حولي، المتحدثين بشأني!
ينظر القوم إلي وأنا في مكاني هذا، وسط هذا الميدان العظيم المعدود من أكبر مشاهد هذه العاصمة التي هي مهبط أنوار المدنية الحديثة، نظرهم إلى نقطة تصل مدنية الأزمنة القديمة بالرقي الحديث.
لا غرو ولا عجب؛ فإن هيئتي الشرقية من أكبر الدوافع على جذب الأنظار، فهم يعلمون بأنني أثر من آثار العصور السالفة وإحدى بقايا تلك العظمة الفرعونية الجليلة الشأن، فلا تكاد عيونهم تقع علي حتى يتركوا ما حولي من التماثيل والهياكل الحديثة المحيطة بي، ويقتربوا مني ليقرءوا على وجهي تاريخ أيامي الأولى. أنا الآن تحت أسرهم وفي قبضة يدهم، فهم يعتزون بي ويفاخرون بوجودي بينهم لجليل قدري في الأيام السالفة ولمكانتي السامية بين وقائع العصور الخالية. ولكن مع هذا الاعتبار والاحترام، ورغم كل هذا الإعزاز والإكرام فأنا لا أزال حتى يومي هذا أعاني آلام الوحدة وأوجاع الانفراد.» عندما وصلت المسلة إلى هذا الحد من القول كان النهار قد بلغ غايته وأذن بالأفول، آخذا أهبته لوداع سلطنته إلى الغد، وكانت أنوار الشمس القرمزية قد أغرقت كل ما في الميدان من الألوان المتعددة، وانعكست عليها سهام الأشعة الذهبية الصادرة من السماء حتى خيل لي أنها تلتهب بألسنة النيران.
تركتني هذه الأنات والآهات في حيرة شديدة وجعلتني أشعر بأنني أمام لغز غريب تعجز العقول عن إدراك كنهه، وقد هالني الأمر حتى وقفت متعجبة أنتظر نهاية هذه الشكاوى المتجسدة والآلام المفزعة.
اشتد إذ ذاك احمرار الغروب فازداد توهج الكتابات المسطورة على المسلة والحيوانات المرسومة عليها حتى ظهرت للأعيان أجلى وأوضح كأنما قد لبست ثوب الحس والحياة، ثم سمعت بعد ذلك شبه غمغمة آتية من بعيد فأنصت فإذا هي تقول: «بلى، ما أنا في هذا الوسط سوى موضع الاستغراب والدهشة، وقليل أولئك الذين يعلمون أمري تماما ويعرفون أصلي ومنشئي وشأني حق العرفان. ولذا فأنا أعد نفسي في هذه العاصمة الكبرى وحيدة لا حول لي ولا قوة. تحتاط بي أنواع شتى من البهارج والزخارف إلا أنني لا أحفل بها ولا أجد لها طعما. فكل أنواع الحركة وضروب السرعة والدبدبة تهز أساسي وتضعف متانتي وتوقعني في دهشة وارتباك؛ لأنني لم أعتد على هذا النوع من العيش المضطرب، وإنما كانت نشأتي في وسط هادئ تحف به آيات الجلال والسكون. فأنا اليوم أقطع مراحل حياتي بلا أمل، فأحس وأتألم ولكن بدون لذة أو هناءة، فلا شاغل لي سوى عد سلسلة الأيام التي تمر بي، ولا يغرنك ارتفاعي فأنا متواضعة مع ما ترينه من طول قامتي.»
كانت تصل هذه التألمات إلى سمعي فيزداد بي الحزن والأسف إذ كانت تعوزني شجاعة كبيرة لسماع هذه الشكاوى والآلام.
واستمرت في حديثها تقول: «وقعت فريسة المرض منذ سنين عديدة وأصبحت أقاسي من جرائه آلاما نفسية شديدة، فأنا اليوم أقاسي كل أحوال الموت ولا يلحقني الفناء. أنا أعلم الدواء الناجع لدائي ولكن هيهات، فأين أنا منه الآن؟ سوف أظل أتجرع كئوس المتاعب والأشجان إلى أن يلحقني البلى والدمار؛ لأن داء الشوق لرؤية الأهل دواؤه الناجع ملاقاة الوطن ولكن آه.»
وما كادت تتم كلماتها هذه حتى ارتجت بنا الأرض على إثر مرور إحدى وسائل النقل السريعة من جانبنا، أعني سيارة ضخمة أحدث مرورها تزلزلا في الأرض حال دون سماع بقية كلماتها.
ثم نظرت حولي فرأيت كل شيء يؤذن بدخول ليل فاتر، يحف به موكب من النسيم العليل، تهتز لرقته دقائق الأثير، ثم رميت بطرفي إلى القبة الزرقاء فإذا «الزهرة»، تلك النجمة الساطعة، زينة السماء وأبهى عرائسها، قد ظهرت وابتدأت ترسل ابتساماتها الجذابة لبقية الكواكب التي أخذت تستعد لرد تحيتها.
كنت أرى العربات والسيارات وجماعات المشاة يهرولون جميعا بسرعة زائدة نحو غابة باريس، ليلتجئوا في حمى خضرتها المملوءة بالأسرار والأعاجيب، مؤملين وجود السعادة بين أحضان تلك البقعة الزمردية.
نظرت ثانية إلى المسلة فإذا هي غارقة في لجة عميقة من التأمل والتفكير، بعيدة كل البعد عن الضجيج المحيط بها فأخذت أهبتي للمسير فما كدت أتحرك حتى سمعتها تقول: «بربك قفي وأنصتي قليلا لحديثي.»
فعجبت من ذلك أشد العجب ووقفت مبهوتة أقول في نفسي: ما أعجب ذلك! إنها كانت شاعرة بأنني كنت صاغية لشكاتها، فلم يكن شكواها إلي مجرد هذيان. فأعرتها سمعي وانتباهي لأعي ما تقول تماما فإذا بها تقول: «أناشدك المروءة ألا تذهبي لأنه عندي ما أقوله لك فها أنا ذا أرى في عينيك الرغبة في سماع شكاتي وأشجاني، وأشعر بأنك تشاركينني فيها بقلبك وسمعك. فاصبري لم يبق إلا القليل ولا تمضي برهة صغيرة حتى أفيض بمكنونات صدري في قلبك الرقيق كما يفيض النيل على شاطئيه. فكوني أنيسة روحي ولو لمدة وجيزة وأشفقي علي لأجل الذكريات القديمة. ثم ارحميني لآلام الغربة التي أنوء بحملها الآن.
مضت علي مدة مديدة لم أشك بآلامي لإنسان ما، وما كدت أراك حتى انتهزت هذه الفرصة لإفراغ ما في النفس من الآلام والآمال. وها أنت الآن مصغية فشكرا لك، آه! ما ألذ أن تدار كئوس الحديث والمسامرة بين قلبين متآلفين! حدثيني بربك عن الأوطان وخبريني عن أخواتي المسلات الأخرى الباقيات هناك ، تلك البقية الباقية من آثار السلف الدالة على التفنن والإبداع، هل بقين مثلي في متانتهن وروائهن حتى اليوم؟ إنني ما زلت أحفظ لهن حبا كامنا في صدري، وأتذكر حسن جيرتهن وجميل عشرتهن. إن قلبي صخري متين، وكذلك حافظتي قوية لا تنسى شيئا يمر بها. فإن أنا نسيت فلا أنسى تلك الصحاري الذهبية والليالي المقمرة الفضية. آه! أين أنت الآن أيها النيل العذب؟ كم أنا مشتاقة لمنظر جريانك الجميل، ورؤيا القلوع البيضاء التي تحرك المراكب السائرة بين شاطئيك! إن مناظر الغروب الجميلة لا تزال مرسومة على لوح الخاطر، وسحر تلك الليالي الحارة الجذابة لا يمكن نسيانها أبد الدهر.»
ثم تضاءل صوتها بعد ذلك حتى أصبح غير مسموع، إلا أنني أجهدت نفسي فسمعتها تقول: «اذهبي الآن غير مأجورة يا أنيسة روحي في هذه الليلة واتركيني لهمومي وأشواقي، وإذا ما عدت إلى الأوطان فاذكريني عند أهلي، ودعيهم لا ينسوني أنا المسكينة المنفية إلى صميم هذا الميدان الفخم في وسط هذه العاصمة الكبرى، وأخبريهم بأنني على استعداد لأن أفدي كل هذه البهارج والزخارف تلقاء ساعة واحدة أجد فيها نفسي بين أحضان تربتي الأولى.»
وقد أثرت في كلماتها الأخيرة أيما تأثير، ونفذت إلى أعماق قلبي كأنها سهام نارية، فجمدت في مكاني مبهوتة حيرى، ولم أتحرك إلا أثر سماعي أصوات بعض القادمين لزيارتها، حيث سمعت بعضهم يقول: «ما أعجب أمر هذه المسلة، وما أبهى منظرها في الليل! انظروا إلى الكتابات المنقوشة عليها، كيف تتوهج كالتبر، ثم انظروا إلى جلال قامتها وامتزاج شكلها وائتلافه بهذا الميدان العظيم.
يقولون: إنها من أقدم الآثار وأجلها شأنا. بارك الله في همة «لويس فيليب» ناقلها إلى باريس، فقد تجشم في سبيل ذلك كثيرا من النفقات والمتاعب. آه! انظروا إلى عيون الطيور المرسومة عليها، كيف تنظر إلينا ببرود واحتقار، ولولا يقيني بأنها صور لا تحس ولا تشعر، لخيل لي أن مناقيرها الحادة تمتد إلينا بالأذى. حقا إن الإنسان لا يتمالك نفسه من ابتسامة يرسلها في الفضاء عندما يرى هيئتها. إن لهذه المسلة شخصية غريبة في وسط هذا الميدان الحديث؛ فهي قصيدة شعرية بقيت لنا منذ الأزل، بل أسطورة تاريخية تحدثنا، نحن الواقفين على أسرارها المطلعين على خفاياها، بوقائع الأزمنة السالفة فلتحيا مسلة باريس المصرية وهي موضع الدهشة والاستغراب بطيورها ورموزها، ولتدم سنين عديدة في مكانها، تلهب في النفوس نيران الغيظ والحسد بقدها المائس.»
وعندما فتحت عيني ونظرت فيما حولي كان الصباح قد لاح، وكانت الغزالة ترسل أشعتها الأولى من خلال النافذة إلى غرفتي. فما أغرب هذا الحلم!
باريس، 19 أغسطس سنة 1911
السحب والإحساس
إلى الأديبة الفاضلة خالدة هانم (معربة بتصرف)
قتام المساء كان يسدل على الأثير ستار الإبهام والغموض. وها هو الفضاء أخذت الحركة تظهر في أرجائه، بعد أن ظل طول يومه باهت اللون جامدا.
وها هي الألوان الفاترة، والأشكال اللطيفة المستترة في طيات السماء، بدأت تظهر في لباس مختلف من الصور والأشكال، حتى ليخيل للناظر أن هنالك رساما خفيا يظهر بريشته الساحرة شخصية تلك السحب اللطيفة التي كانت لا تستقر على حال.
كان بعض هذه السحب لا يكاد يأخذ لنفسه شكلا مخصوصا حتى تنحل أجزاؤه وتتناثر أقسامه في أطراف الجو، والبعض الآخر كان ينمو ويكبر إلى أن يشف فيصعد محلقا في طبقات الجو حتى يغيب عن الأبصار.
ما أشبه سطح هذه السحب بالأماني العذبة، والآمال الذهبية الواهية! وما أبهج شكل هذه اللوحة الحمراء؛ أعني صفحة السماء وقت الغروب!
إن جماع هذه المناظر المعنوية لتذكرنا على الدوام بدقائق العمر الفانية، تلك الدقائق اللذيذة المملوءة بالأشواق.
ما السحب إلا كتاب يحوي بين دفتيه صورا شتى من المشاعر والإحساسات، فبعض السحب تمثل بسرعتها وخفتها الأنفاس المتقطعة، وبعضها جميلة الشكل وسيمة الصورة كالآمال الحلوة، والبعض الآخر خلابة المنظر كالرغبات العذبة!
إن هذه اللعب الخفيفة المزينة ذات الألوان المتعددة والمشرفة علينا من السماء، لتمر وتنقضي كأزمان السعادة والصفاء.
فها هي الآمال والرغبات والأنفاس، وهاكم الخواطر القديمة والذكريات الماضية، متجسدة في شخص هالة السحب الملتفة بأردية بيضاء ناصعة كالزنابق، وحمراء صافية كالعقيق. وكنت أرى نسيم المغرب يدفعها جميعا إلى الأمام فتنساق ممتزجة ببعض، متدافعة تدافع الإحساسات الغارقة في أمواج خضم الحياة.
إن السحب لتمر وتغدو كالإحساسات، فيقف الإنسان أمامها مفتونا بالماضي مأخوذ اللب بالحاضر، وما أشد سعادته المعنوية وهو يراقبها ويناجيها في تلك الحالة، حينما تتمثل له أيامه الماضية متجسدة داخل ألوانها الزاهية، فيتذكر ساعات السرور والأشواق، وأوجاع الماضي وتأملاته!
هذه الأجسام المتماوجة المبرقشة المطلة على الأكوان من شرفتها العالية، تحتك بها ألوان الفجر الملتهب، وأضواء الشفق المذهب، تلك الأنوار التي نراها على مد البصر، فتشتد بهجتها ويزداد بهاؤها، كأنما جمعت في نفسها كل ما في الشرق والغرب من لطافة وملاحة، إلا أنها قلما تظل على حالة واحدة، فإنها لا تكاد تتجلى في عدة أثواب مختلفة من الزينة والبهرجة حتى تغيب عن الأنظار.
وكنت كلما راقبت سير هذه السحب، وتأملت مليا في معانيها الخفية تمتلئ جوانحي بالغبطة والسرور، ويخيل لي أني عائدة من حفلة سمر معقودة في قبة السماء؛ لأن النظر إلى هذه السحب الشفافة المنعكس عليها خيالات النفس وآمالها وأمانيها، يأخذ بيدي إلى عرش العواطف العلوية، وقمة الخيالات السامية، حيث يكون المرء بعيدا عن مشاغل وسفاسف هذا العالم المادي، وإن الاشتراك بالحس مع هذه السحب، والاتصال بها فكرا لمما يبعث الراحة والطمأنينة إلى قرارة النفوس المتعبة.
إن لحظة واحدة يقضيها الإنسان مبتهجا برؤية قوافل هذه السحب التي تمر في ثياب مختلفة من الأضواء والألوان، لتكفي لتنقية الأمزجة من شوائبها وتأخذ بيد المرء إلى الغوص في نعومة الأحلام السارة.
فلو أننا فكرنا في قيمة الأيام الزاهية - التي تأخذ بيدنا إلى موارد الخيال وفي الرأس مال المعنوي التي تهبه لنا الليالي المنيرة - كم كنا نشكر السحب التي هي الملقن الأصلي والدافع الأقوى لإنجاز أعمالنا الروحية، والتي هي السبب في ظهور آمالنا وأحلامنا بمظهر بهيج ودواء حسن!
ذلك لأن كل إحساسات العالم تتجسم في أعماق السحب حين تشكلها وزوالها.
خاتمة
الرسالة الأخيرة مهداة إلى أشهر أديبات الترك في عصرنا الحاضر، ولما كنت في ترجمة هذه المقالات وغيرها من الرسائل المكتوبة بقلم صاحبة السمو أميرتنا الجليلة أرمي إلى الوساطة في تمكين المعرفة بين الأدبين التركي والعربي قدر الإمكان، فإنني لا أجد مندوحة من ختم هذا الكتاب بترجمة حياة الأديبة «خالدة هانم» سالفة الذكر نقلا عن مجلة الهلال الغراء التي طالما أفسحت صدرها للمواضيع الدالة على النهضة النسائية بمصر.
المعرب
الهلال، جزء 1 سنة 29
خالدة هانم أول امرأة تقلدت منصب الوزارة
لئن حق للشرقيين أن يفاخروا أهل الغرب بمن نبغ من رجالهم، فأحق بهم وأولى أن يفاخروهم بنبوغ نسائهم؛ ففي الشرق اليوم امرأة نابغة جمعت من السجايا والمواهب ما قلما يتفق للنوابغ رجالا كانوا أو نساء، وهي «خالدة هانم» التركية التي نالت بين أبناء جلدتها بفضل جرأتها وصدق عزيمتها وتوقد وطنيتها مقاما هو غاية ما يصبو إليه الإنسان بين قومه. وهي اليوم ركن من أركان الحركة الوطنية في تركيا، وقد أسندت إليها وزارة المعارف في الحكومة التركية التي أنشأها الوطنيون في الأناضول، ولم نسمع بإسناد منصب رفيع كهذا لامرأة قبلها.
ولا يزال السوريون عموما والبيروتيون خصوصا يتحدثون بإعجاب عن تلك المرأة التركية الجريئة، التي قدمت إلى بلادهم أثناء الحرب الأخيرة بمهمة فتح المدارس وإنشاء الملاجئ للأيتام والفقراء، فقد كانت «خالدة هانم» تسير مع زميلاتها في شوارع بيروت سافرة الوجه وعلامات العمل والنشاط بادية عليها، ولم يكن للبيروتيين عهد بتك الجرأة والحرية في المرأة المسلمة، فأصبحت مدار حديث الأهالي وموضع إعجابهم وقدوة لكثيرات من أخواتها المسلمات.
وقد فتحت «خالدة هانم» أبواب المدارس الفرنسية المقفلة وجعلتها مدارس أهلية وطنية؛ شعارها الاتحاد والوئام ونبذ فكرة التعصب، وكذلك أنشأت الملاجئ للأيتام والفقراء.
ولدت «خالدة هانم» من والدين متوسطي الحال، وكان والدها سكرتيرا في دائرة الخزنة السلطانية الخاصة، وقد بدت على «خالدة هانم» منذ أول حداثتها بوادر الذكاء والفطنة، وكانت تظهر رغبة في المطالعة وميلا للتبحر في العلوم والآداب، ولم يكن يؤذن للبنات الوطنيات في ذلك العهد بدخول المدارس الأجنبية، ولم تكن المدارس الوطنية لتفي بالحاجة. فتوسل والدها إلى السلطان عبد الحميد أن يأذن لابنته بدخول الكلية الأمريكية في الأستانة، فأذن له فدخلتها، ولم يمض زمن على ذلك حتى برزت على أقرانها، وتخرجت سنة 1901 بكالوريوس علوم، وهي في الغالب أول امرأة مسلمة نالت هذا اللقب.
قلنا: إن «خالدة هانم» برعت في جميع العلوم، إلا أن الهندسة كانت حجر عثرة في سبيل تقدمها، فأحضر لها والدها أستاذا خاصا من أساتذة الجامعة السلطانية ليلقنها في المنزل ما أشكل عليها فهمه من هذا العلم، فلم يلبث بعد زمن أن علق بها فخطبها من والدها، ثم اقترن بها عن رضاها وهي لا تعلم أن لزوجها امرأة وأولادا في باريس، على أنها لم تكن لتجد لها خلاصا من تلك الحالة، فاضطرت إلى ملازمة خدرها، فكانت تصرف الأيام والليالي في مطالعة ما حوته مكتبة زوجها من التآليف النفيسة، ولا سيما الفرنسية منها، فكان لما طالعته تأثير شديد في نفسها الكبيرة، فلم تزدها هذه المعيشة الهادئة إلا رغبة في العمل واتساعا في المطامع، ولم تلبث أن سنحت لها الفرصة المنشودة؛ إذ طلقها زوجها وأصبحت حرة في تكريس حياتها للجد والعمل، وكان ذلك قبل إعلان الدستور في تركيا.
فلما أعلن الدستور وأطلقت الحرية للأفكار والمطبوعات نشرت «خالدة هانم» قصيدة حماسية تخاطب فيها رجال الفرقة الرابعة (وهي التي تم على يدها قلب الحكومة الاستبدادية) بلسان مؤسس الدولة العثمانية.
فكان لقصيدتها وقع عظيم في النفوس فعرفها الناس وانتشر اسمها بين الجميع، ثم جعلت تنشر في الصحف روايات اجتماعية، كانت قد ألفتها في زمن تقييد المطبوعات، فصار الناس يطالعون كتاباتها بلهفة وشوق، ولكنها لم تقتصر على ذلك، بل جعلت تنشر في «طنين» مقالات اجتماعية سياسية فاشتهرت بسداد الرأي واعتدال الهمة.
وكانت «خالدة هانم» تجتمع دائما برجال تركيا الفتاة، ولا سيما أنور وطلعت وجمال، فتبدي لهم رأيها في شئون الدولة، وهم لا يستنكفون من الإصغاء إليها والعمل بآرائها. ولما قلب عبد الحميد الحكومة الدستورية سنة 1909 ورد اسمها في قائمة المحكوم عليهم بالإعدام، فاضطرت إلى الفرار حرصا على حياتها، فشخصت إلى القطر المصري ومكثت فيه إلى أن استعاد الوطنيون سلطتهم.
وقد تغير مركز المرأة في تركيا بعد إعلان الدستور تغييرا عظيما. فأصبحت ترفع صوتها الضعيف على المنابر، وتسعى لرفع شأنها بإنشاء الأندية والجمعيات، إلى غير ذلك من دلائل النهوض، ومعظم الفضل فيما تم من هذا القبيل عائد إلى «خالدة هانم». وقد تدرجت المرأة التركية في سلم الرقي، حتى أصبحت تعنى بالشئون الوطنية، والمسائل السياسية، ولما نشبت الحرب البلقانية انخرطت كثيرات من النساء في سلك جمعية الهلال الأحمر، وجعلن يكتبن ويخطبن ويحرضن على الجهاد في سبيل الوطن. وقد احتشد منهن يوما عدد غفير يربو على خمسة آلاف في دار الجامعة السلطانية، فوقفت «خالدة هانم» تخطب فيهن بحماس عظيم، فكان لكلامها أشد وقع في نفوس السامعات. ولما فرغت من خطابها كان العرق يتصبب من جبينها من شدة التأثر والانفعال، فنزعت مصاغاتها الثمينة وألقت بها في صندوق أمامها لإعانة الوطن، فاقتدت بها سائر النساء وجعلن الواحدة بعد الأخرى يقدمن حليهن لهذه الغاية الشريفة.
अज्ञात पृष्ठ