هذه أول كلمة غزل أتفوه بها في حياتي! .. وقد سددت بصرها نحو صورتي الماثلة في المرآة وابتسمت، ثم غضت بصرها، وشبكت ذراعيها على صدرها. لم يعد يجدي التظاهر بتسوية الشعر فشبكت ذراعيها في استسلام المنتظر. وازددت حرجا، وعضضت على شفتي قهرا وغيظا. وبدا لي تغيير ملابسنا كأكبر مشكلة في الوجود، فهل نبقى على هذه الحال الأليم حتى مطلع الصبح؟ .. لماذا لا أمضي نحوها فأضمها إلى صدري حتى تحل المسألة نفسها بنفسها؟ .. ولكن كيف أقدم على هذه الخطوة العظيمة؟! إني أستطيع أن أتخيل، وأن أحادث نفسي؛ أما الإقدام على عمل فهو المحال. وامتلأ قلبي غيظا وألما، وازددت إحساسا بالعجز والخزي، فصممت أن أخرج من صمتي على الأقل، فقلت: هلا بدلت ملابسك يا عزيزتي؟
فقالت بعد تردد: ليس أمامك.
لعلها توقعت دعابة أو مغازلة ردا على قولها، ولكني لم أفكر في شيء من هذا وتركز تفكيري في إيجاد مكان أتوارى فيه ريثما تخلع هي فستان العرس. وتراجعت قليلا جاعلا الفراش بيني وبينها، ثم جلست على أرض الغرفة مختفيا عن عينيها وأنا أقول: بدلي ملابسك يا عزيزتي!
وحسبتني قد ظفرت بالحل السعيد. وانتهزت الفرصة فمضيت أخلع ملابسي في هدوء محاذرا أن يبدو مني شيء، ووضعت البدلة على الفراش، وتناولت البيجاما وكانت ملقاة على المقعد الطويل، وحشرت فيها نفسي وأنا لا أزال ملازما موضعي على الأرض. وانتظرت مليا ثم سألتها برقة: هل انتهيت يا عزيزتي؟
فأجابتني بصوت مهموس: أجل!
فنهضت قائما .. وهنا وقع بصري على صورتي في المرآة، فرأيت الطربوش ما يزال على رأسي فنزعته مبتسما! ونظرت صوبها في حياء فوجدتها بمجلسها السابق وقد التفت في روب من الحرير الأبيض، وأدارت المقعد مستقبلة به الحجرة. وعدت إلى موقفي مرتفقا حافة الفراش، رانيا إليها في غبطة وهيام، وكلما رفعت إلي عينيها غضضت بصري في حياء. انتهينا من تغيير ملابسنا، لكن ليس هذا كل شيء! .. بدت الليلة وكأن لا نهاية لمشاكلها .. بيد أن قلبي يرغب أن يضمها إليه، فماذا يغلني؟!
إن هي إلا خطوة أقطعها، فهل تكلف خطوة واحدة كل هذا العناء؟ كان قلبي متلهفا متعطشا، وكان خجلي حارا محيرا؛ أما جسمي فكان ميتا لا حراك به! أأظل هكذا أبدا؟ .. لماذا لا أداري موتي بالحديث؟ .. ولكن ما عسى أن أقول؟! .. لقد عقد الاضطراب لساني، وكل دقيقة تمر تتركني أشد ضعفا واضطرابا. وعلى حين بغتة انحرف ذهني إلى حجرة أمي دون داع، وتساءلت: ترى هل نامت؟ هل تتخيل ماذا أفعل الآن؟ وتضاعف اضطرام الخجل بنفسي، وشعرت بما يشبه الاختناق. سلمت من جانبي باليأس والعجز، وتساءلت: هل نبقى على هذا الوضع المضحك حتى الصباح؟ ووجدت في أعماقي نزوعا إلى الهرب، ولهفا عليه، وكدت أتمنى لو لم يكن ما كان! .. وأفقت من أشجاني على صوت حبيبتي وهي تقول: الجو حار!
وتحولت صوب النافذة لتفتحها، ووجدت فرصة مواتية فدفعت نفسي وراءها وأكملت عنها فتح المصراعين، وهمت حبيبتي بالعودة فقلت كالمستغيث: هلا وقفنا في النافذة قليلا!
ولبت حبيبتي نداء الاستغاثة، فوقفنا جنبا لجنب لا يفصل بيننا إلا قيراط. وكانت النافذة تطل على الناحية الخلفية للعمارة، وتقع تحتها مباشرة حديقة كنيسة تقوم بجنباتها أشجار عالية تتصاعد همسات حفيفها في صمت الليل. وهفت على وجهينا نسمة رطيبة أتطلع إليها كما يتطلع الطفل إلى القمر! ها هي ذي لا يفصلنا إلا قيراط. وملت بجسمي في تؤدة وحذر، فتماست ملابسنا، ثم شعرت رويدا بملمس طري، والتصق الجنبان، وندت عني تنهدة مسموعة أيقظت حيائي فتريثت قليلا، وخفت أن تصدني أو تبتعد عني حياء فأغلب على أمري ولا يعود ثمة أمل، ولكنها لبثت بمكانها وارتفقت حافة النافذة.
ودفعت بيسراي إلى الوراء قليلا، ووجهتها وراءها حتى رسمت خلف خاصرتها نصف دائرة، وجعلت أضيقها على مهل وحذر وخوف حتى مست ثنيات الروب الحريري، فسرت من مسها لقلبي رجفة وندت عني للمرة الثانية تنهدة مسموعة. ثم توثبت بمجامع قلبي وأحطت خاصرتها بذراعي .. ولم تبد حبيبتي لا معارضة ولا حراكا. ونفضت عني أفكار التردد والهزيمة، وشددتها نحوي مستعينا بذراعي اليمنى، وتلقيتها في حضني وأسندت جبينها إلى صدري، فهويت بشفتي على مفرق شعرها، وغمغمت وأنا لا أدري: أحبك.
अज्ञात पृष्ठ