وتفكرت أمي طويلا، ثم قالت بصوت منخفض: بما لا يقل عن ستة جنيهات!
ثم استدركت كأنما لتخفف من وقع كلامها: سأرصد مالي لكسائنا وللحوائج الضرورية فيما يخرج عن المصروفات اليومية.
ولكني لم ألق بالا إلى قولها، ومضيت أفكر فيما يتبقى لي من مرتبي بعد تكاليف المعيشة؛ في الجنيه والنصف، وما ينفق منه على المواصلات، وما يبقى بعد ذلك للترفيه عن نفسي. فكرت بامتعاض واكتئاب، فتقبض قلبي جفولا من هذه الحياة السخيفة التي لا معنى لها. ألم أكن أنفق مرتبي كله في الشراب والطعام والعربات؟ ألم أكن مع ذلك شاكيا متبرما تعيسا؟! رباه ، كان الماضي عهدا غير منكور النعيم، ولكني لم أفطن إلى نعيمه إلا الآن حيث لم يبق منه إلا ذكريات! إني أعمى ما في ذلك من شك، تعميني الأحلام الطائشة عما بين يدي، ومن كان مثلي قضي عليه بألا يذوق للسعادة طعما في هذه الحياة. تجهم لي وجه الدنيا، وخارت عزيمتي، وامتلأت نفسي تشاؤما حتى توقعت شرا وراء كل خطوة أخطوها. أجل ألا يجوز أن تستغني عني الحكومة لسبب أو لآخر فأحرم حتى هذا المرتب الضئيل؟ .. ألا يحتمل أن يصادفني حادث في الطريق يقضي علي بعاهة تقعدني عن السعي من أجل الحياة؟! لماذا وجدنا على الأرض؟ ولعل هذه الأفكار السود التي جعلتني أسأل أمي قائلا: ماذا ينتظر أن أرث عن أبي بعد وفاته؟
ولم ترتح أمي لمجرد أفكاري وقالت باستياء: لا تبن آمالك في الحياة على موت إنسان .. الأعمار بيد الله، وإني أستحلفك بالله إلا ما طردت عن رأسك هذه الخواطر.
بيد أنني استخففت بمخاوفها وألححت عليها أن تجيبني على ما سألت، فقالت مذعنة لإلحاحي: لأبيك أوقاف تدر عليه أربعين جنيها كل شهر، غير البيت الذي يسكنه.
وقدرت بعملية حسابية ما يصيبني من هذا الميراث؛ فوجدته ستة عشر جنيها نصيبي من البيت، إذا أضيفت إلى مرتبي الصغير صار كبيرا بلا شك. واستسلمت للأحلام كالمعتاد، ولكنها لم تغير من الواقع شيئا. وسألتها مرة أخرى: ما عمر أبي؟
وأجابتني على كره: لا يقل عن السبعين.
ترى هل يعمر كجدي مثلا؟ ماذا يكون حالي لو عمر طويلا وحرمني ميراثي عشرة أعوام أو عشرين؟! وتذكرت ما قيل لي من أنه انتظر يوما على مضض موت أبيه، وكيف ساقه الجزع إلى الشروع في الجريمة التي قضت عليه بالحرمان من ثروة واسعة! إني أعاني نفس المشاعر التي عاناها قبل ثلاثين عاما، ولعله لو كان لي بعض قوته لسلكت الطريق الذي سلك!
ثم استدعت أمي الطاهي العجوز وأم زينب وأخبرتهما في استحياء وألم بأننا سننتقل إلى بيت شقيقي، «آثرت الكذب على الاعتراف بالفقر»، وأنها مضطرة إلى الاستغناء عنهما ، وذكرت عهد خدمتهما الطويل بالأسف، وأثنت عليهما الثناء الجميل، ودعت لهما بالتوفيق، ثم نفحتهما بما يستعينان به حتى يجدا عملا جديدا. وقد انتحبت المرأة باكية، ودمعت عينا الرجل العجوز، ودعا لجدي بالرحمة والعفو، وقال بصدق وإخلاص: وددت يا سيدتي لو مت قبل أن يغلق هذا البيت الكريم أبوابه!
ولم تتمالك أمي نفسها فبكت، وانتقلت العدوى إلي فبكيت، ومرت بي ساعة سوء كابدت فيها ألما وخزيا لم أشعر بمثلهما من قبل. وانتقلنا قبل ختام الشهر إلى شقة صغيرة في الدور الأوسط من بيت قديم ذي أدوار ثلاثة بشارع القاسم المتفرع من شارع المنيل. وكان البيت يقع في وسط الطريق ما بين شارع المنيل والنيل. أما الشقة فتتكون من ثلاث حجرات صغيرة فرشناها ببعض أثاثنا القديم، وبعنا بقيته بثمن بخس. وساءلت نفسي في وجوم: هل تستطيع أمي النهوض بأعباء الخدمة المنزلية بعد ذاك العمر الطويل من الراحة والدعة؟ إنها تهدف إلى منتصف الحلقة السادسة ولم يعد لها من معين إلا خادم صغير، فكيف تتحمل هذه الحياة؟ وزادت حياتي تنغيصا وداخلني سخط شامل على الوجود كله. على أن أمي أقبلت على العمل بروح عالية فيها مرح كثير، فنجحت في إيهامي بأنها مسرورة بالحياة الجديدة، وكأنما كانت تكبت طوال عمرها رغبة حارة في الخدمة والعمل. وقالت لي بارتياح لمسته في نبرات صوتها وابتسامة عينيها: إن خدمة بيتك هي السعادة التي ليس لي وراءها مأرب.
अज्ञात पृष्ठ