وهرعت نحوي شقيقتي، وضمتني إلى صدرها، وقبلتني بحرارة، وأنا مستسلم بين يديها لا آتي حراكا، ولا أنطق بكلمة، وصاحت بفرح: رباه، إنه شاب يافع! .. إنه نسخة منك يا أماه!
ثم ضمني شقيقي إلى صدره وقبلني وهو يقول بسرور: يا له من شاب خجول!
ولم أكن حتى تلك اللحظة قد أنعمت النظر إلى وجه من وجوههم، وظللت غاضا بصري، والخجل يحرق جبيني وخدي. ثم مضوا بنا إلى حجرة الجلوس، فجلست أمي بين راضية ومدحت، وجلس جدي لصق زوج أختي، وأقعدتني شقيقتي إلى جانبها، وقالت أمي وهي تجفف دمعها: يا رحمتاه! وجدتكما شابين بعد أن انتزعتما مني طفلين، الحمد لله والشكر لله!
فقال زوج أختي بتأثر: يا لها من حياة هي بالمأساة أشبه! وإني لأشكر الله على أن جعلني الفرصة التي هيأت لكم هذا اللقاء!
وسالت الأشواق القديمة حديثا فياضا لا ينضب معينه، وانثالت عليهم الذكريات والخواطر، وشكا كل بثه وهمه، وامتزجت الدموع بالبسمات. وكانت تلوح في عيني أمي بين الحين والحين نظرة دهشة كأنها لا تصدق أن الله قد جمع شمل الأسرة بعد تفرق ونوى. ولما شغلوا بأنفسهم عني أخذت أفيق من الخجل، وأسترد أنفاسي، وشعرت بأني - لدرجة كبيرة - وحدي، فداخلني ارتياح، ولكن سرعان ما انتابني قلق وضيق، وجعلت أسترق النظر إلى راضية ومدحت. بهرني جمال أختي، رأيتها أقصر من أمي قليلا ولكنها ممتلئة بضة، ميالة للبياض، أما وجهها فصورة من وجه أمي، وصورة من وجهي أيضا، بعينيه الخضراوين الصافيتين وأنفه الدقيق المستقيم. أما مدحت فأنموذج من نوع آخر، بدين في غير إفراط، مستدير الوجه والرأس، أبيض الوجه مشرب بحمرة، أسود العينين، ينم مظهره عن الفحولة والقوة وإن لم يجاوز الثامنة عشرة. وكان يقهقه ضاحكا لأتفه الأسباب، ويبدو فرحا صحيحا معافى. استرقت إليهما النظر باستطلاع واهتمام، وسرعان ما جذبني إليهما شعور بالحب والعطف، واستنمت إلى روحهما المرحة الباسمة. بيد أنني لم أنعم بشعور الوحدة طويلا، فربما اتجهت صوبي الأنظار وبذلت المحاولات لحملي على الكلام، واستدراجي لمشاركتهم سرورهم، ولكنني لم أنبس بكلمة قانعا برد الابتسام بالابتسام. ولئن كان كل شيء مما يكتنفني يدعو للغبطة؛ إلا أنني لم أخل من مشاعر قلق غامض رغبني أكثر من مرة في الرحيل، وقالت لي راضية باسمة: كان مولدك عسيرا، والله يعلم كم تألمت أمنا! ولبثنا أنا ومدحت في الحجرة المجاورة نبكي، ثم أدخلنا في النهاية ورأيناك في اللفة شيئا كقبضة اليد، فانهلنا عليك بالقبل.
وقهقه مدحت وقال: وأردت أن أطعمك قطعة من الشيكولاتة فحملوني إلى الخارج.
وقالت راضية برقة: وكنا نتخيلك في وحدتنا ببيت أبينا فنقول: لعله يحبو الآن، أو إنه يمشي ويلعب، أو هذا أوان المدرسة. وعلى فكرة أي سنة بلغت من دراستك؟
وشعرت بحرارة احمرار خدي، وانعقد لساني، فأجاب عني جدي قائلا بلهجة لا تخلو من تهكم: إنه يعيد السنة الأولى الابتدائية وهو في العاشرة من عمره.
فقال مدحت ضاحكا: الحال من بعضه، فقد التحقت بالزراعة المتوسطة بعد سقوط عامين بالثانوي!
وقالت أمي: إن جدك يريد أن يجعل منه ضابطا.
अज्ञात पृष्ठ