اعلم أن للسوقيين شهرة عظيمة في جميع الأقطار. وذلك أنهم احتكروا السلعة منذ القديم في مخازن لهم. وقالوا كل من لم يشتر من مخازننا أنزلنا به القصاص. ثم أنهم أخفوا دفتر أسعار البياعات عن المشترين وغالوا بثمن الأصناف وأشطوا. فكانوا يتقاضون من المشتري أضعاف القيمة. ثم اتخذوا لهم معامل ومخازن في جميع الأمصار وجعلوها مظلمة خالية عن الكوى ومنافذ النور. فكانوا يبيعون منها من غير أن يبدو حقيقة لون السلعة ورقعتها. وكانوا يجعلون ما يبيعونه من أصنافها ملفوفًا مظروفًا فيأخذه الشاري وينطلق به ولا يرى منه شيئا. وكان عندهم من النساجين والخياطين والرفائين والصباغين ما يفوق العدد. فكان هؤلاء يصنعون لهم كل ما يأمرونهم به. واتفق في بعض السنين أن وقع موات ذريع في الماشية وأمحلت البلاد فقلّ الصوف والحرير عندهم وكادت الانوال والمعامل تتعطل. فارتأى رجل منهم من أهل الحصافة والحذق أن يستعمل الشعر وبعض أصناف الحشيش بدل ما أعوزهم من الحرير وغيره. وجاء عمله هذا متقنا محكما حتى اشتبه على أكثر الناس. ثم أن نفرًا من المعسرين الذين حملهم الضنك في المعيشة على توسيع دائرة الفكر والنظر في الأمور والتمييز لها فإن جل العلماء والمستنبطين من الصعاليك ذهبوا يومًا إلى بعض المخازن لشراء ما لزم لهم وجاءوا بما اشتروه إلى منازلهم ملفوفا مصونًا على العادة. وكان أحدهم يهوى إمرأة يريد أن يتزوج بها وقد اشترى لها منديلًا. فلما أهداها إياه بحضرتهم وكانت ذات استشراف واستطلاع واستكشاف للمستور كما هو شأن سائر النساء. أخذت المنديل وقبل أن تشكره على معروفه أدنته من نور السراج إذ كانت زيارتها له في الليل. فرأت فيه خللًا كبيرًا مع أن النور كان طفيفًا يوشك أن ينطفئ. وإذا بها صرخت تقول بئس من باعك هذا أنه قد غبنك. إن فيه خللًا مثل الذي قد فتنك. فلما سمعوا ذلك تنبهوا فأخذ بعضهم ينسل حاجته. وصار الآخر يقيس ثوبه على قامته وهلمّ جرّا. فظهر لهم أن البضاعة ليست على وفق مرادهم. لأن من ذهب ليشتري حاجة بلون أحمر وجدها سوداء. ومن أراد ثوبًا طويلًا وجده قصيرًا. ومن أراد حريرًا وجده كرباسًا فرجعوا بها في الغد إلى الباعة وقالوا لهم قد بعتمونا ما لم نرده. وأوردوا لهم عللًا وأسبابًا للإقالة. فقال صاحب المنديل لقد كدتم تسودون وجهي عند محبوبتي البيضاء. وكادت تغاضبني لما أتحفتها من سقط المتاع لولا إنها طمعت فيما يكون خيرًا منه. فقالت لهم الباعة إنما بعناكم ما طلبتم ولكن على أبصاركم غشاوة فلستم تبصرون اللون ولا الرقعة ولا تعرفون المقادير ولا المقاييس. فقال من اشترى الثوب كيف يمكن أن يجهل الإنسان قامته ويعرفها آخر غيره. وقال صاحب اللون الأسود إنما أردت اللون الأحمر وها أن ثوبك أسود ورفيقاي هذان يشهدان لي وما هو واضح لكل ذي عينين. فقال له البائع أنت أعمى لا تميز الألوان ثم ذهب ليأتيه بلماك ليكحله به فأبى ذاك وقال لا بل أنت عمه أعمى. وقال من أشترى الكرباس بدل الحرير هب أن البصر يغش أفيخفي اللمس على الأعمى. فلج بينهم الجدال والعناد وملئوا المكان صخبًا وضجيجًا. وفيما هم على ذلك إذا برجل أقبل يسعى وهو يلهث بُهرًا وقد اندلع لسانه ووضع يديه على كشحيه. فما كاد يدخل الحانوت حتى سقط لا يستطيع حراكًا وغدا يئن ويقول آه امرأتي آه امرأتي. ثم غشي عليه ساعة. فلما أفاق أدار نظره يمينه ويسره فرأى غريمه. فلم يتمالك أن وثب من مجثمه وقال. يا أهل الفساد. ومروجي الكساد. ومسببي الفتن بين المرء وزوجته ومفرقي الأب عن ابنه وابنته. وغابني الأغرار من الشارين ومبرقعي وجوه المبصرين. كيف حلّ لكم من الله أن تغشوني وتبيعوني ما لا حاجة لي به. إني أتيتكم بالأمس أطلب منكم أن تبيعوني لحمًا لأتخذ منه مرقًا لزوجتي لأنها عليلة مذ أيام. فبعتموني كسر خبز وقلتم لي إنه لحم غريض. فلما أوقدت النار لأطبخه إذا به خبز فباتت امرأتي من غير أن تذوق شيئًا وقد أصبحت لا حراك بها بلسانها. فهي لا تزال تلعن تلك الساعة التي رأتني فيها قبل الزواجز وتسب القسيس الذي كان السبب فيه. وقد حلقت إنها إذا برئت من مرضها لتأمرن النساء جميعًا يكن مع أزواجي ضجعًا مفسلات مناشيص وكأنه لما قال ذلك فار دمه في دماغه فوثب من مكانه وكاد أن يبطش بالبائع. لولا أن تداركه بعض الصنّاع في الحانوت.
1 / 67