لا يقال أن القارئ يضيع وقته في تمييز البارد والحميم من هذه الفصول. إذ لا يستوعب مضمونها إلا إذا أتى على آخرها. بخلاف سائر الكتب فإنه لا يتعمّد فيها الكلام البارد فهي على منهاج واحد. فإني أقول أن كل فصل من تلك الفصول له عنوان يدل عليه دلالة قطعية كدلالة الدخان على النار. فمن درى العنوان فقد درى الفصل كله. مثال ذلك إذا مرّ بك في أحد الفصول ترجمة البالوعة أو البلوعة أو البلاعة أو البربخ أو الاردبة فلا بدّ لك من أن تفطن إلى أن حمارًا من حُمَر الدير قد غطس فيها للتعريب أو الترجمة. إلا أنه لا ينبغي للقارئ إذا درى مَغْزَى الفصل من العنوان أن يضرب عن قراءته. ثم يقول متبجحا بين أقرانه وإخوانه قد قرأت كتاب الساق على الساق وفهمت معانيه كلها. فإن ذلك يكون كقول مقنس قد رأيت اليوم الأمير أعزه الله وكلمته مع أنه لم يكن رأى منه إلا قذاله عن بعد. ولم يتح له يده الشريفة. أو كان ذلك الأمير قد سأله عن شيء فتلعثم في الجواب أو تروي فيه فسب أباه وأجداده ولعنه وتهدده بالصلب أو بسمل عينيه. أو كقول هبنقع المزهو الأحمق المحب لمحادثة النساء قد رأيت اليوم فلانة. ولما أن واجهتني وقفت وتنفست الصعداء. مع أنها تكون قد وقفت لتبصق أو أنها تنفست الصعداء بهرًا. بل الأولى أن ينوي القارئ عند افتتاحه هذا الكتاب أن يتصفحه كله من أوله إلى آخره حتى حواشيه وعدد صفحاته. ويعتقد أن لكل مؤلف أسلوبًا. وأنه لا يمكن لأحد أن يعجب الناس كلهم. إذ الأهواء متفاوتة والآراء مختلفة. ومن الأسرار التي بقيت مكتومة عني إنك تجد بعض المؤلفين فاتر الحركة غير ذي نشاط ولا مرح. قليل الارتياح إلى ما يبعث على التهاوش والتناوش. متقاعس الهمة عن السبح والحركة. ناظر إلى الحوادث كلها نظر المتوقع لها. وهو مع ذلك إذا أخذ القلم أنبض كل عرق في القارئ وحرك كل ساكن. ومنهم من تراه نزقًا حركا ذا تترع وتسرع وحفد وصميان وأقبال وأديار وسعي وتهافت. ومعاجلة ومبادرة ومزاحمة ومزاهمة ومسابقة ومحاشرة ثم هو أن قال شيئًا سقط من رأسه على ذهن القارئ سقوط الثلج حتى يكاد أن يخمد منه ذكاه. فلما تأملت في ذلك وتحققته ارتبت في كون سقط الثلج ناشئًا عن فرط برودة متكونة في الهواء وقلت بل لعل سببه فرط حرارة حزت في صدر الجو على سكان هذه الأرض. ووافر وغر تكون في حشاه فلفظه عليهم ثلجًا انتقامًا منهم عما يأتونه في الليالي الباردة من المنكرات وذلك أن بعضهم يحاول عكس الطبيعة فيسخن فراشه بأداة فيها نار. وبعضهم بأداة فيها ماء حميم. وبعضهم بأداة فيها ماء شراب. فمن أجل ذلك أسقط الجوّ عليهم الثلج المتراكم منعًا لهم من الخروج من ديارهم لاستعمال هذه الأدوات لكي يستريح من فسادهم ولو يومين. إلا أنه قد أن كثيرًا من هؤلاء الناس يتخذون أداة للأداة أو أداة للأداة الأدوات. مثال الأول ما إذا تربع الغني في دسته وتدثر بفروته وقال لغلامه سرْ يا غلام إلى محل كذا وائتني منه بأداة لتسخين فراشي هذه الليلة. فيذهب الغلام يطأ الوحول والثلوج ورجل سيده نظيفة. ومثال الثاني ما إذا كان السيد جوادًا سخيًا فيبعث غلامه في موكب له أو في آخر مما يستأجر من الطرق. أو إذا كان ذا سيادة وإمارة ويريد أن يكتم سره عن غلامه. لأن لذة الخادم إنما هي القلب في عرض مخدومه وجعل نفسه أولى بالخدومية منه فيستعمل ذلك السيد آخر أو آخرين أو آخر في مكان غلامه. ويكون قد بعث إليهم من قبل بهدية على يد خادمه إظهارًا لمكارمه. أو إنه أعطاهم إياها من بعد. فيكون سقوط الثلج على أي حال كان سببًا في التسخين والحرارة.
1 / 52