مرة أخرى رحت أفكر في التقابل الغريب بيننا وبين النجوم. إن قدرة الكون التي لا يمكن حسابها قد عززت على نحو غريب من أهمية تلك الومضة الخاطفة المتمثلة في رفقتنا، ومن مغامرة البشرية الخاطفة غير الأكيدة. وهاتان بدورهما، قد أسرعتا من حركة الكون.
جلست على الخلنج. العتمة من فوقي تتراجع الآن بالكامل. وفي مؤخرتها، بدأ شعب السماء المحرر الظهور من الاختباء، نجمة تلو النجمة.
على جميع الجوانب، امتدت التلال المبهمة، أو ما خمنت أنه البحر الرتيب، إلى ما وراء مدى البصر. غير أن الخيال الطائر طيران الصقر قد تبعها في انحنائها إلى الأسفل تحت الأفق. تخيلت أنني كنت على حبة صغيرة من الصخر والمعدن قد غلفتها المياه والهواء، وأنها تدور في ضوء الشمس والظلام. وعلى القشرة الخارجية من تلك الحبة الصغيرة، كانت حشود البشر تعيش جيلا بعد جيل في شقاء وعمى، مع دفقات متقطعة من البهجة وصفاء الروح. وكل تاريخهم بما فيه من ارتحال، وإمبراطوريات وفلسفات وعلوم شامخة، وثورات اجتماعية، وشغف متزايد للرفقة، لم يكن سوى ومضة في يوم واحد من حياة النجوم.
لو كان للمرء أن يعرف ما إذا كانت تلك المجموعات المتلألئة تضم حبات أخرى من الصخر والمعدن تسكنها الروح، وما إذا كان بحث البشر المتخبط عن الحكمة والحب هو محض اختلاجة تافهة، أم جزء من حركة كونية! (2) الأرض بين النجوم
في الأعلى، زالت العتمة. امتدت النجوم في السماء دون انقطاع من الأفق إلى الأفق. ظهر كوكبان دون أن يومضا. كانت المجموعات النجمية الأكثر بروزا تؤكد فرديتهما. مجموعة «الجبار» بكتفيها وقدميها الشامخة، وحزامها وسيفها، ومجموعة «بنات نعش الكبرى»، ومجموعة «ذات الكرسي» المتعرجة، ومجموعة «الثريا» التي تعكس الحميمية، كلها تشكلت مثلما ينبغي لها تماما في الظلام. وامتدت مجموعة «درب التبانة» عبر السماء كطوق مبهم من الضوء.
أكمل الخيال ما عجز البصر وحده عن بلوغه. حين نظرت إلى الأسفل، بدا أنني أستطيع أن أرى عبر كوكب شفاف، عبر الخلنج والصخر الصلب، وعبر مقابر الأنواع المندثرة، وعبر البازلت المنصهر المتدفق في الأسفل وصولا إلى لب الأرض من الحديد، ثم مرة أخرى يبدو أني كنت ما أزال أنظر في الأسفل، عبر الطبقات الجنوبية وصولا إلى المحيط الجنوبي والأراضي الجنوبية، وعبر جذور أشجار الصمغ وأقدام سكان الجانب الآخر من العالم المعكوسة أوضاعها، وعبر مظلاتهم الزرقاء التي ثقبتها الشمس، وصولا إلى الليل الأبدي حيث توجد الشمس والنجوم معا. وهناك في الأسفل على مسافة بعيدة للغاية بدرجة تبعث على الدوار، كانت تقبع المجموعات النجمية تحت الأرضية، كأنها أسماك في أعماق بحيرة. قبتا السماء قد امتزجتا في كرة جوفاء واحدة، سكانها من النجوم، وسوداء حتى بجوار الشمس الساطعة. القمر الصغير كان خطا منحنيا متوهجا. الطوق الكامل الخاص بدرب التبانة كان يحيط بالكون. في حالة غريبة من الدوار، نظرت إلى نوافذ بيتنا الصغيرة المتوهجة طلبا للاطمئنان. كانت ما تزال هناك، وكذلك الضاحية بأكملها والتلال. غير أن النجوم كانت تضيء عبرها كلها. بدا الأمر وكأن جميع الأشياء الأرضية قد صنعت من الزجاج أو من مادة بلورية أكثر شفافية ونقاء. بصوت خافت، دقت ساعة الكنيسة معلنة حلول منتصف الليل. قرعت الضربة الأولى وراحت تتلاشى إلى صوت خافت.
كان الخيال الآن قد حفز إلى نمط جديد غريب من الإدراك. عندما أخذت أنظر من نجمة إلى نجمة، لم أعد أرى السماء سقفا وأرضا مرصعين بالجواهر، بل عمقا يتجاوز عمق الشموس البراقة. وبالرغم من أن معظم الأضواء العظيمة والمألوفة في السماء قد سطعت وكأنها جيراننا القريبة، فقد بدت بعض النجوم اللامعة في حقيقة الأمر بعيدة وكبيرة، بينما كانت بعض المصابيح الخافتة ظاهرة فقط بسبب قربها الشديد. في كل جانب، كانت المسافة الواقعة في المنتصف محتشدة بجموع وتيارات من النجوم، لكن حتى هذه النجوم قد بدت الآن قريبة؛ إذ إن درب التبانة قد تراجعت إلى مسافة عظيمة للغاية. ومن بين الفجوات في أجزائها الأقرب، ظهر ممر تلو الممر من الضباب اللامع، وآفاق عميقة من التجمعات النجمية.
الكون الذي وضعني فيه القدر لم يكن غرفة لامعة، بل دوامة مدركة من تيارات النجوم. كلا! لقد كان أكثر من ذلك. حين حدقت بين النجوم في الظلمة الخارجية، رأيت أيضا دوامات أخرى من نفس النوع والتي بدت كمحض نقاط وبقع من الضوء؛ تلك المجرات التي تناثرت عن بعد في الفراغ إلى أعماق سحيقة لا يمكن سبر غورها، وامتدت إلى مسافات بعيدة للغاية حتى إن عين الخيال لم تجد حدا للمجرة الكونية الشاملة التي تضم جميع المجرات. بدا الكون لي الآن فراغا تطفو فيه رقاقات نادرة من الثلج، وكل منها يمثل كونا.
عند التحديق في أبعد وأخفت كون في سرب الأكوان، بدا أنني أراه بالخيال ذي القوة التلسكوبية الفائقة على أنه مجموعة من الشموس، وبالقرب من إحدى هذه الشموس، كان ثمة كوكب، وعلى الجانب المظلم من هذا الكوكب، كان ثمة تل، وقد كنت أنا على هذا التل. إن علماء الفضاء يؤكدون لنا أنه في هذا الكيان المتناهي الذي لا حدود له، والذي ندعوه بالكون، لا تؤدي خطوط الضوء المستقيمة إلى اللانهاية، وإنما إلى مصدرها. تذكرت بعد ذلك أنه إذا كان بصري يعتمد على الضوء المادي لا ضوء الخيال، فالأشعة التي تأتي إلي «من حول» الكون لا تظهرني، بل تظهر أحداثا قد توقفت منذ وقت طويل قبل تشكل الأرض، أو ربما حتى قبل تشكل الشمس.
متجاهلا الآن ثانية هذه الأبعاد الهائلة، رحت أبحث مرة أخرى عن النوافذ ذات الستائر المنسدلة لمنزلنا، والذي، بالرغم من أن النجوم كانت قد تخللته، بدا لي أكثر واقعية من كل المجرات. غير أن بيتنا كان قد اختفى مع الضاحية بأكملها والتلال أيضا وكذلك البحر. الأرض التي كنت أجلس عليها نفسها، كانت قد اختفت. وبدلا منها، كان يكمن تحتي بعيدا ظلام رقيق. أنا نفسي كنت على ما يبدو قد تحررت من جسدي؛ إذ لم أستطع أن أرى جسدي ولا أن ألمسه. وحين أردت تحريك أطرافي، لم يحدث شيء. لم يكن لدي أطراف. الإحساس الداخلي المألوف بجسدي، والصداع الذي كان قد تملكني منذ الصباح، قد حل محلهما خفة وابتهاج غامضان.
अज्ञात पृष्ठ