لقد بدا لي أنه تمعن النظر في من علياء ألوهيته بالاهتمام المتحفظ الشغوف الذي يوليه الفنان إذ يحكم على عمله النهائي؛ فيبتهج بإنجازه بهدوء، غير أنه يكتشف في النهاية ما يحتوي عليه تصوره المبدئي من عيوب غير قابلة للإصلاح؛ فيشتهي بالفعل خلقا جديدا.
حللتني نظرته ببراعة هادئة، ونحت جانبا عيوبي واستخلصت لثرائه الخاص جميع مظاهر التفوق القليلة التي حققتها في صراع العصور.
ومن ألمي، صرخت ثورة على صانعي القاسي. صرخت قائلا بأن المخلوق، في نهاية المطاف، أنبل من الخالق؛ فالمخلوق قد أحب واشتهى الحب حتى من النجم الذي كان هو صانع النجوم، لكن الخالق، صانع النجوم، لا هو أحب ولا كان في حاجة إلى الحب.
غير أنني بمجرد أن صرخت في تعاستي العمياء، أدركت بخزي حماقتي؛ إذ تجلى لي فجأة أن الفضيلة عند الخالق تختلف عن الفضيلة عند المخلوق. إن الخالق إن أحب مخلوقه، فإنما يكون بذلك يحب جزءا من نفسه فحسب، لكن المخلوق إن يمجد الخالق فهو يمجد كيانا غير محدود يتجاوزه. لقد رأيت أن الفضيلة عند المخلوق هي أن يحب ويعبد، أما الفضيلة عند الخالق فهي أن يخلق، وأن يكون هو الهدف اللامتناهي الذي يستعصي على إدراك مخلوقاته العابدة وفهمها.
ومجددا صرخت إلى صانعي، لكن في خزي وافتتان هذه المرة. وقلت: «يكفي، بل إن هذا أكثر مما يكفي بكثير، أن أكون مخلوقا لروح جميلة ورهيبة للغاية مثلك، روح لا متناهية القدرة تسمو طبيعتها على الإدراك، حتى وإن كان إدراك كون عاقل. يكفي أنني قد خلقت، وأنني للحظة قد جسدت الروح اللامتناهية العظيمة الإبداع. يكفي تماما أن أكون قد استخدمت، يكفي أنني كنت التخطيط المبدئي لنوع متقن من الخلق.»
بعد ذلك، حل بي سلام وبهجة غريبان.
حين نظرت إلى المستقبل، رأيت اضمحلالي وسقوطي، بنوع من الاهتمام الهادئ لا الحزن. رأيت شعوب العوالم النجمية تستنفد المزيد والمزيد من مواردها من أجل الحفاظ على حضاراتها المقتصدة. لقد استخدمت من المادة الموجودة في بواطن النجوم قدرا كبيرا للغاية حتى إنها قد تفككت؛ فتعرضت عوالمها إلى خطر الانهيار. وقد تحطمت بعض العوالم بالفعل إلى شظايا عند مراكزها الجوفاء؛ مما أدى إلى تدمير الشعوب المتوطنة فيها. كانت معظم العوالم تصنع من جديد قبل أن تصل إلى النقطة الحرجة، فكانت تقسم بصبر إلى أجزاء ويعاد بناؤها من جديد على نطاق أصغر. وواحدا تلو الآخر تحول كل نجم إلى عالم في الحجم الكوكبي فحسب، بل إن بعضها لم يكن يكبر عن حجم القمر. الشعوب نفسها قد تقلصت إلى محض واحد على مليون من أعدادها الأصلية، محتفظة داخل كل حبة جوفاء صغيرة بحضارة بسيطة في ظروف كانت تصبح أشد فقرا على نحو متزايد.
حين نظرت إلى الدهور المستقبلية من اللحظة الأسمى للكون، رأيت الشعوب ما تزال تحافظ بكل ما أوتيت من قوة على أساسيات ثقافتها القديمة، ولا تزال تعيش حيواتها الشخصية بحماس وابتكار لا نهائيين، ولا تزال تمارس الاتصال التخاطري بين العوالم، وكانت ما تزال تتشارك كل ما كان ذا قيمة من وجهة نظر أرواحها العالمية، وكانت ما تزال تدعم الاتحاد الكوني الحقيقي من خلال عقلها الكوني الوحيد. ورأيت نفسي ما أزال محتفظا بصفاء وعيي، لكن ذلك كان بصعوبة متزايدة، محاربا بداية الخمول والخرف. ولم يعد ذلك أملا في أن أرتقي إلى مرحلة أرقى مما قد وصلت إليها بالفعل، أو أن أضع أمام صانع النجوم جوهرة عبادة هي أليق بعض الشيء، وإنما كان ذلك بدافع الشغف بالتجربة والولاء للروح فحسب.
غير أن الانحلال قد تمكن مني في نهاية المطاف. واضطر العالم تلو العالم، في ضوء الصعوبات الاقتصادية المتزايدة، إلى تقليص شعبه إلى ما هو أقل من العدد اللازم لعمل عقليته المشتركة؛ ومن ثم، وكما هو الحال بالنسبة إلى مركز دماغي متحلل، لم تعد تلك العقلية قادرة على أداء دورها في التجربة الكونية.
وإذ رحت أتطلع للمستقبل من موقعي في اللحظة الكونية الأسمى، رأيت نفسي، أنا العقل الكوني، أهوي بثبات إلى الموت. بالرغم من ذلك، ففي عهدي الأخير هذا حين كانت جميع قواي آخذة في الضعف، وكان لعبء جسدي المتداعي وطأة شديدة على شجاعتي الواهنة، ثمة ذكرى مبهمة من صفاء الحقب الماضية كانت تعزيني. لقد كنت أعرف على نحو مبهم أن صانع النجوم كان لا يزال ينظر إلي، حتى في عصري الأخير المثير للشفقة هذا، نظرة تتسم بالشغف بالرغم من حياديتها.
अज्ञात पृष्ठ