सलाह उद्दीन अय्यूबी
صلاح الدين الأيوبي وعصره
शैलियों
في أواخر القرن الحادي عشر وجه إمبراطور الدولة الرومانية الشرقية دعوة إلى البابا؛ ليدعو أمم الغرب من فرنجة وألمان وإنجليز إلى نصرة الصليب وتخليص بيت المقدس من أعدائه المسلمين، فوجه البابا دعوته إلى أوروبا فسارت في الشعوب كما تسير النيران في الهشيم، وقامت أوروبا كرجل واحد إلى الغرض الذي دعا إليه البابا؛ فكانت حروب دموية بين الشرق والغرب استمرت ثائرة مدة قرن، ثم خبا لهيبها تدريجا بعد ذلك ولو لم تنطفئ ناره جملة، فما الذي جعل إمبراطور القسطنطينية يرسل تلك الدعوة؟ وما الذي جعل البابا يقبلها رغم الحفيظة التي كانت في قلبه على الكنيسة الشرقية؟ وما الذي جعل أوروبا تجيب دعوة البابا بهذه الحماسة العجيبة التي بدت منها؟
لقد كان بين القسطنطينية ورومة - منذ قرون - منافسة ومشاحنة،
1
وها نحن نجد القسطنطينية تتناسى تلك الإحن القديمة، وها نحن نرى أوروبا تدوس تلك المنافسة تحت أقدامها وسنابك خيولها، ويتصافح المسيحيون من الشرق والغرب ويتحالفون على الإسلام.
لقد كان الخلاف الذي بين شقي العالم المسيحي خلافا يكاد يمس أساس العقيدة، فكان المسيحيون في الشرق يعتبرون المذهب الغربي خرافة، على حين كان الخليفة القديس بطرس في رومة (البابا) ينظر إلى الشرق أنه منشق عنه خارج عليه، ولكم كان بين الاثنين مواقف عاصفة وتراشق بالألقاب، بل لقد كان بينهما تنافس حربي. ومثل ذلك أن بوهمند «بيمند» بن روبير جيكار الملك النرماندي على جنوب إيطاليا وصقلية عبر البحر الأدرياتي وجعل يغزو أرض الدولة الشرقية بتحريض سيده البابا صاحب ولائه.
ولكن تلك الفروق وتلك المنازعات لم تقف أمام التيار الجارف الذي اجتاح أوروبا فنسيت كل العداوات القديمة، وسويت الحزون، وتعانق أبناء المذهبين، حتى إن بوهمند - ذلك الأمير الذي غزا أرض الدولة الرومانية الشرقية - صار أحد القواد الكبار الذين ذهبوا إلى القسطنطينية لنصرة كلمة المسيح.
أما هذا الانقلاب الذي طرأ على سياسة الدولة الشرقية وجعلها تطلب مساعدة البابا فيمكن كشفه من تتبع علاقة تلك الدولة بالدول الإسلامية إجمالا منذ القرن الثامن للميلاد؛ فقد كانت الدولة العباسية في القرن الثامن للميلاد في عنفوانها، فسلبت جارتها الرومانية كثيرا من أملاكها، فلما انشغل العباسيون في مشاغلهم الداخلية أمكن دولة الروم أن تبقى ثابتة الحدود عند شرق آسيا الصغرى، ثم مضت قوة الدولة العباسية وذهب أمثال المهدي والرشيد والمأمون، وتلا ذلك استبداد جنود الأتراك بالخلافة العباسية؛ فأخذت الدولة تضعف في نضالها الخارجي ، وزادها ضعفا أن انفصل عنها كثير من البلاد التي بدأت تستقل كالأغالبة والأدارسة في أفريقية، وأخيرا جاءت الضربة القاسية وهي استبداد بني بويه الشيعيين بأمر الخلافة، فأصبحوا وزراء في الاسم ولكنهم كانوا المسيطرين على الأمر كله، وكان الخليفة أحيانا يحاول أن يثبت لنفسه أمرا فكان يحدث من وراء ذلك تشاحن وتنازع بينه وبين الوزير، فاضطربت أمور الدولة الإسلامية وتفرقت كلمتها وانفجر جثمانها، فصار أجزاء متناثرة من إمارات في فارس وخراسان وأخرى في الشام وسواها في مصر. وهكذا وجدت الدولة الرومانية دونها فرصة سانحة فانتهزتها، وأثار أباطرتها حربا طاحنة لا سيما أيام نقفور «نيقفراس فوكاس» و«حنازيمس» «جون سيميسز» بين عامي 960-975 بعد ميلاد المسيح، فلم يستطع أمراء الحمدانيين - الذين كانوا على حدود دولة الروم - أن يثبتوا في ذلك النضال، بل أخذتهم كتائب الدولة الرومانية بما لا قبل لهم له، ثم فتحت سواحل الشام وعبرت جنود الروم نهر الفرات، وكانت على طريق بغداد، وذعر الخليفة المطيع حتى لقد باع عليه الأمير البويهي أثاث قصره ليستعد بثمنه للحرب، ولكن لحسن حظ دولة الإسلام رجعت عند ذلك جيوش الروم وانقضت تلك الموجة ولم تحطمها. كان هذا في القرن العاشر، ثم طلع القرن الحادي عشر بحظ غير هذا، وكان الأمر ككفتي ميزان إذا رجحت كفة شالت الأخرى.
في القرن الحادي عشر استولى على بغداد قوم من الترك، وهم السلاجقة، وكان أميرهم طغرل بك رجلا من أهل السنة شجاعا غير مأخوذ بالألقاب كما كان ملوك البويهيين؛ فحفظ على الخليفة جلاله وهيبته ظاهرا، وأخذ في يده أمر الدنيا يتحكم فيها بسيفه وإرادته فعلا. وباستيلاء السلاجقة على بغداد سنة 1055 بعد الميلاد/447 للهجرة دخلت الدولة الإسلامية في دور غير ذلك الدور الذي مر بها في أواخر القرن العاشر.
فقد استعادت على يدهم قوة شبابها، أو إن لم يكن ذلك فقد عاد جيشها - على الأقل - إلى سيرة الفتح والانتصار الذي نسيته الدولة في آخر أيام بني بويه، وقد توالى على أمر الدولة العباسية ملوك ثلاثة عظام من السلاجقة وهم: طغرل بك وألب أرسلان وملك شاه ما بين سنتي: 1055 و1092م/447-485 هجرية. وكانوا في سياستهم الداخلية مع الخلافة قانعين بالسلطان الدنيوي الفعلي تاركين كل مظاهر الرياسة والسيادة الاسمية للخلفاء من البيت المبجل الذي له المكانة السامية في قلوب المسلمين وهو بيت بني العباس.
وأما في سياستهم الخارجية مع من جاورهم - ولا سيما دولة الروم الشرقية - فقد كانوا لا يقنعون بسوى السيطرة والغلبة، فبدأت جيوشهم من جبال طوروس وأرضروم، وما زالت تنحدر إلى الغرب في وديان آسيا الصغرى وهضابها، وهناك شهدت مدينة قيصرية جيوشهم الغالبة، ثم خضعت بلاد أرمينية والقوقاز بعد دفاع لم تستطع الثبات عليه، ثم كانت بعد ذلك موقعة «ملاذ كرد» بين أرضروم و«وان» سنة 1072، وكان هناك الانتصار الذي لا يزال يذكر للسلطان ألب أرسلان، وأخذ الإمبراطور الشرقي «رومانوس» أسيرا وهو جريح بعد دفاع بطل مستميت، وقد سار ملك شاه بن ألب أرسلان على سنة أبيه بعد مقتله، وزاد على الحرب مع الروم حروبا أخرى مع ما يليه من البلاد، وكان من بينها بلاد الشام التي كانت لا تزال فيها بقية من حكم الفواطم. وما كان عام 1090م حتى كان ملك شاه يطأ بحدوده الشرقية أكتاف الصين ويدوس بحدوده الغربية عواصم الفواطم والرومان من قبل الشام وآسيا الصغرى، وتكونت دولة للسلاجقة في أحشاء هضبة الأناضول، وأملى ملك شاه إرادته على من يليه، وكان من بين من يرتجفون من خوفه الإمبراطور ألكسيوس إمبراطور الدولة الرومانية الشرقية.
अज्ञात पृष्ठ