सलाह उद्दीन अय्यूबी
صلاح الدين الأيوبي وعصره
शैलियों
وقد بدأ هدم المدينة بعد قليل وسط آلام الناس جميعا، وكان صلاح الدين يسرع بتدميرها قبل أن يعلم الفرنج بأمرها خوف أن يسرعوا إليها فيأخذوها قبل إتمام الغرض ويعيدوا حصونها فتكون لهم بها قوة ومنعة.
وكانت تلك الخطة في الحقيقة خير ما يمكن في تلك الظروف إذا نظرنا إلى ما كانت عليه النفوس في جيش صلاح الدين بعد صدمتي عكا وأرسوف. وقد اتبع صلاح الدين خطة التدمير والهدم نفسها في اللد وقلعة الرملة، وذهب في أثناء ذلك إلى القدس يزيد من تحصينه وتجديد أسواره، فكان غرضه ظاهرا من أعماله: وهو أن يدع الساحل للفرنج ويقوي الداخل عالما أن أعداءه أقوياء قرب البحر وأن فرصته إنما تكون إذا هم بعدوا عنه متوغلين في الداخل.
واستولى الفرنج فعلا بعد قليل على كل مدن الساحل، وحاولوا أن يعيدوا حصون عسقلان وسواها مما خربه السلطان، وبدءوا يفكرون في غزو الداخل، ولكن في هذه الأثناء دب خلاف جديد بين المركيش «كنراد دي منفرات» وبين الإنكتار «ريكارد»، وجعلت رسل كل منهما تفد إلى صلاح الدين أو إلى أخيه الوديع الملك العادل تطلب الصلح، وقد أدرك «ريكارد» أن الاستمرار في الحرب غير ممكن، وأنه إن أحرز نصرا مرة أو مرتين فلن يقدر على طول النضال؛ ولهذا أراد أن ينتهز فرصة ضعف الروح في الجيش الإسلامي ليفوز بشروط رابحة، فكانت رسل المركيش تأتي عارضة شروطا للصلح، ورسل الإنكتار تأتي عارضة شروطا أخرى كما يفعل المتنافسان، وكان الملك العادل هو السفير في المفاوضات في أكثر الأحيان.
وكانت شروط المركيش أن يكون له صيدا وبيروت على أن يكون حليفا للمسلمين ضد الفرنج.
ولكن صلاح الدين كان غير واثق من صدق نيته، فاشترط عليه أن يبدأ بحرب الفرنج ومهاجمة عكا قبل أن يصالحه.
وأما شروط الإنكتار فقد كانت الاستيلاء على القدس وإرجاع الصليب وأخذ البلاد التي بين نهر الأردن والساحل، وأن يكون تحالف بين الدولة الإسلامية والصليبيين، ويتزوج الملك العادل بأخت الإنكتار، ويكونا معا حاكمين على الدولة الجديدة بمقتضى المعاهدة، ولكن تلك الشروط لم ترق أحدا من الجانبين.
والظاهر أن الجنود الإسلامية بدأت تسترجع قواها بعد شهرين من سقوط عكا، وبدأت تقف ثابتة وتحرز بعض النصر في مواقف الحرب، وبدأ الإنكتار يرى الحقيقة التي كان انتصار عكا أخفاها عن عينه: وهي أنه ليس من الطبيعي أن ينتصر في بلاد بينها وبين مقر دولته سفر طويل في البحر، ويكون النصر على قوم في وسط بلادهم تتجدد قوتهم بعد حين إذا ضعفت، وتأتي إلى ميدان النضال فيها كتائب تحل محل من قتل ومن أسر؛ ولهذا بدأت المفاوضة من جديد وكانت الشروط هذه المرة ألين وأهون. ومما يسترعي النظر أن المفاوضة بين الجانبين كانت تتخللها فكاهات ومداعبات وهدايا ومجاملة، فيحمل الملك العادل من طعام المسلمين وتحفهم إلى الإنكتار، ويحمل الإنكتار من طعام الإنجليز وتحفهم. حتى إذا ما اجتمع الاثنان تجاذبا أطراف الحديث من سمر ودعابة وفكاهة ينسى الإنسان معها أن هذه مفاوضة في حرب مرة ثار لهيبها طول قرن لم يخب ولم ينطفئ، حتى لقد نشأت شبه محبة بين العادل وريكارد، واستمرت إلى أن انتهى الأمر بالصلح أخيرا.
وكان صلاح الدين في أثناء كل هذا لا يرغب رغبة حقيقية في الصلح على تلك الشروط، فكان لا يرضى بدون خروج الفرنج من جميع البلاد، ولكنه كان يرضى بدخول أخيه في المفاوضة؛ لكي يضرب جانب المركيش بجانب الإنكتار ويحدث له من وراء ذلك الربح والفوز، ولعله كان أميل إلى المعاهدة مع المركيش؛ لأنه كان يرى أن شروطه أهون شرا، وأنه إذا بقي في بلاد الساحل فلن يكون شديد الخطر بل يسهل طرده منها بعد حين، ولكن الأمراء رأوا أن الصلح مع الملك (الإنكتار) أتم وأضمن للسلم لقوته وشجاعته.
وقد دخل شتاء سنة 1191م بغير أن يتم صلح مع أحد الجانبين، فرجع صلاح الدين إلى الداخل، وعاد الإنكتار إلى عكا. على أن المفاوضات لم تنقطع بين المسلمين وطائفتي المركيش من جهة والإنكتار من جهة أخرى. وقد أراد صلاح الدين أخيرا أن يبرم الأمر على ما يراه هو، وأن يصالح المركيش إذ رأى أن الصلح معه يضعف الفرنج، فإذا تم له النصر أخيرا على الإنكتار سهل عليه أمر المركيش، ولكن ما لبث أن سمع بنبأ قتل المركيش في صور: قتله اثنان من أصحابه على قول جماعة، ويقول آخرون: بل قتله اثنان من الفدائيين من طائفة الباطنية الإسماعيلية، ويعتقد الجميع أن قتله كان بدس من أعدائه، ولكن هناك خلافا؛ فتقول طائفة: إنه قتل بإيعاز صلاح الدين، ويقول آخرون: بل قتل بإيعاز الإنكتار، ولكن مهما يكن من الأمر فإن صلاح الدين لم يدس على المركيش من قتله؛ وذلك لعدة أسباب يكفي أحدها أن يكون برهانا قاطعا؛ فإن صلاح الدين لم يكن رجل الدسيسة والغدر . حقا كان يجاهد ويحارب ولكنه كان يحارب في الميدان المفتوح واثقا من النصر؛ إذ كان يرى الحق معه، ولم تكن في حياته شبهة من غدر أو خيانة. وكذلك لم يكن صلاح الدين على وفاق مع الإسماعيلية، بل إنه كان موتورا منهم لسابق اعتدائهم عليه. ولئن كان لصلاح الدين غرض في الغدر فكان الأولى به أن يغدر بعدوه الأكبر ريكارد، وكانت فرص الغدر به كثيرة لو شاء، وما كان أقرب إليه إذا كان رجل غدر أن يدس على «ريكارد» من يقتله أثناء اجتماعه بأخيه للمفاوضة، أو يدس له السم في الطعام الذي كان يأكله من يد المسلمين آمنا، وهل يتهم صلاح الدين - وهو الرجل الذي كان يرسل لعدوه الدواء وهو مريض - بأنه يدس على عدو آخر من يقتله؟!
وقد رأينا أن صلاح الدين كان أميل إلى مصالحة المركيش، وأنه كان يرى المصلحة في الاتفاق معه ليكون مساعدا له على الصليبيين، فكان من مصلحته أن يبقى حيا وليس أن يدس عليه من يقتله في الوقت الذي كان قد استقر رأيه فيه على مصالحته وتفضيل التعاهد معه على مصالحة ملك الإنجليز.
अज्ञात पृष्ठ