هنا، وحتى نفهم ما قال سيادته، سنقوم بتحليل وتفصيص ما قال واحدة واحدة، في خطابه السياسي الإسلامي الجديد؛ ولنبدأ بالواحدة الأولى:
يقول سيادته: «إن البيعة من أبرز جوانب الفعل السياسي الذي تمارسه الأمة؛ إذ إنها في الرؤية الإسلامية هي التي تضفي الشرعية على نظام الحكم.»
وهكذا يكون أول الآية كفرا، واستئصالا وتكفيرا وتحريضا، بصيغة الجزم والتأكيد؛ فهو يصدر حكما على كل الحكومات الإسلامية القائمة بالكفر، ويسحب عنها الشرعية؛ فكلها قامت على نظام الدولة الحديثة، ولم يكن فيها كلها بيعة (عدا بضع منها)، ألا ترونه يصوغها مشروطة بقطع تأكيدي «إذ إنها» مما يعني أن كل حكومات المسلمين المعاصرة غير مشروعة، «إذ إنها (أي البيعة) في الرؤية الإسلامية هي التي تضفي الشرعية على نظام الحكم.»
الغريب في شأن سادتنا هؤلاء من مفكري التيار الإسلامي أنهم يبنون أبنية محكمة قوية البناء، لكن كلها على مستوى المخيلة وحدها وليس أبعد من ذلك. المشكلة أن هذا الكلام المتخيل يتم ترديده باستمرار حتى بات كما لو كان حقيقة، وأن علينا التصديق ثم السمع والطاعة.
لكن هل القواعد الدينية المفترض فيها السمو والبناء والتقدم، يمكن أن تصبح مهمتها إثارة الفتن وتدمير الأوطان بالحركات الدينية المسلحة، أو حتى الثورات الشعبية المتدينة؟ والأهم هو السؤال: ما هو مصدر هذه القاعدة التي تبدو صحيحة واضحة دينيا 100٪، في أي مكان هي موجودة بدين المسلمين؟ إن عبارة تحريضية من هذا النوع إنما تحرض الشعوب بالدين للفتن لأن حكوماتها لم تقم على نظام البيعة، رغم أنه إذا كان لا بد من الثورة، فهناك أسباب ومبررات أخرى كثيرة لا تدمر لكنها تبني. نحن بحاجة لمعرفة مدى صدق هذه العبارة التي بنى عليها موضوعه كله عن البيعة، وبحاجة إلى النصوص الصريحة التي يمكن أن تنبثق عنها مثل هذه القاعدة الدينية الدستورية؟
إن التحريض على التمرد الديني غير المعارضة البناءة، إن تحريض البسطاء وهم وقود كل الحركات الدينية عبر التاريخ، يحولهم عن الولاء لوطنهم إلى خيانة الولاء الوطني لصالح ما يقال لهم إنه شرع السماء، مما يعطي الضوء الأخضر لعمليات الإرهاب المسلح بحجج شرعية قالها الدكتور زيدان، المفترض أنه في طليعة الحداثيين الإسلاميين ليعطي الدافع لمزيد من دمار اقتصاد بلاد المسلمين وموت الأبرياء وتفجير السياح ودور العبادة ووسائل المواصلات وأنابيب البترول، فيضرب منتج د. زيدان في كل مكان دون هدف واضح سوى التخريب والتدمير؛ لأن الدكتور زيدان لم يضع بديلا حقيقيا واضحا يمكن تطبيقه اليوم للنظام الذي تقوم عليه الدول الإسلامية، وسنرى معا كيف أن وفاضه أخلى من عباراته الكبيرة، الأهم في كل هذا أنهم يشيعون بين المسلمين اتفاقا على عدم شرعية الحكومات القائمة، حتى يكونوا هم البديل الشرعي لأنهم هم من يفهم الإسلام وشروطه، وحتى يتم اتفاق الأمة على اختيارهم بديلا، فليس أمام المسلمين سوى الإرهاب والتخريب حتى تسقط هذه الأنظمة غير الشرعية بيد الجماعات الإرهابية الشرعية.
المثير هو أن زيدان يعلن يقينه هذا على المسلمين وهو يعلم أن الحال لم يكن كذلك في تاريخنا الميمون، لنقرأ معا «فصل في وجوب الإمامة وبيان طرقها، من كتاب الإمامة وقتال البغاة، في المجد الثالث من روضة الطالبين»؛ إذ يقول فصل: وأما الطريق الثالث (لتنصيب الإمام) «فإذا مات الإمام فتصدى للإمامة من جمع شرائطها، من غير استخلاف ولا بيعة، وقهر الناس بشوكته وجنوده، انعقدت خلافته، لينتظم شمل المسلمين، فإن لم يكن جامعا للشرائط بأن كان فاسقا أو جاهلا، فوجهان أصحهما انعقادها لما ذكرنا، وإن كان عاصيا بفعله.» وبعد تولي المتغلب توضع له الأحاديث في الصحاح، عن حذيفة بن اليمان: «اسمع لحاكمك وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك.» وكذلك عن الحسن البصري: «لا تعصوا أولي الأمر منكم فإن عدلوا فلهم الأجر وعليكم الشكر، وإن بغوا فعليهم الوزر وعليكم الصبر، فهو امتحان من الله يبتلي به من يشاء من عباده، فعليكم أن تتقبلوا امتحان الله بالصبر والأناة لا بالثورة والغيظ.» وعن أحمد بن حنبل عن رواية عبدوس العطار: «من غلب على المسلمين بالسيف حتى صار خليفة وسمي أمير المؤمنين، فلا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيت ولا يراه إماما، بارا كان أم فاجرا.» ويقول ابن عبد ربه في العقد الفريد (كتاب اللؤلؤة في السلطان): «السلطان زمام الأمور ونظام الحقوق وقوام الحدود، والقطب الذي عليه مدار الدنيا، وهو حمى الله في بلاده، وظله الممدود على عباده، به يمتنع حريمهم، وينتصر مظلومهم وينقمع ظالمهم ويأمن خائفهم. قالت الحكماء: إمام عادل خير من مطر وابل، وإمام غشوم خير من فتنة تدوم، ولما يزع الله بالسلطان أكثر مما يزع بالقرآن.» قال وهب بن منبه فيما أنزل على نبيه داود
صلى الله عليه وسلم : «إني أنا الله مالك الملوك، قلوب الملوك بيدي، فمن كان لي على طاعة جعلت الملوك عليهم نعمة، ومن كان لي على معصية جعلت الملوك عليهم نقمة.» وعن عبد الله بن عمر: «إذا كان الإمام عادلا فله الأجر وعليك الشكر، وإن كان جائرا فعليه الوزر وعليك الصبر.» ليوجز حذيفة بن اليمان نظرية الإسلام السياسي في الحكم فيقول عن النبي
صلى الله عليه وسلم : «ما مشى قوم قط إلى سلطان الله في الأرض ليذلوه إلا أذلهم الله.»
إنها بيعة المتغلب التي يتميز بتشريعها فقهنا الإسلامي عن غيره، في تسليمه بالأمر منعا للفتنة وانشقاق الأمة، فما بال زيدان يحرض على الفتنة وانشقاق الأمة، خاصة وهو يعلم أن بيعة المتغلب كانت هي المتغلب على تاريخ الخلافة الإسلامية بطولها وعرضها؟ فما باله لا يعترف بحكومات إسلامية ولو متغلبة منعا للفتن؟ أم تكون الفتن هنا مطلوبة في حالة وجود البديل الذي يزعم أنه الإسلامي الشرعي، في حالة وجود زيدان ورفاقه دون فلسفة حكم متكاملة واضحة بأيديهم؟ وإذا كانت البيعة هي التي تعطي الشرعية للحاكم، فماذا عن تأخر علي بن أبي طالب والهاشميين ومعظم جزيرة العرب عن بيعة أبي بكر، ومع ذلك فإن التيار السني يعتبر بيعة أبي بكر شرعية مائة بالمائة.
अज्ञात पृष्ठ