على أن أباها المرحوم حمدي باشا كان صديقا حميما لحامد باشا حسني أبي خليل بك وعزيز باشا منذ حداثتهما، وكان لحامد باشا الفضل الأكبر في تقريب حمدي باشا إلى الخديوي إسماعيل باشا، وأنت تعلم أن بيت حامد باشا عريق في المجد والجاه؛ ولهذا كان حمدي باشا أبو زينب يود أن يعطي يدها لعزيز ابن صديقه، ولكن زينب كانت تجاهر لأمها بأنها لا تريد عزيز، وأخيرا جاهرت بأنها لا تقبل غير شاكر بك نظمي حليلا، ولما كان أبوها يحبها ويجلها جدا لم يشأ أن يرغمها إرغاما على التزوج بعزيز وإنما أظهر لها استياءه من استقلالها برأيها.
وقد اتخذت حينئذ جميع الوسائل لإقناع زينب بأن تقبل عزيز زوجا فأبت بتاتا حتى ضاق الكل ذرعا في إقناعها، ولما قلت الحيل على عزيز وذوي قرباه صرفوا همهم إلى استنباط الطرق في إزاحة شاكر من السبيل، فاستعاروا ضمير إبليس وتلقنوا علومه ونصبوا لشاكر فخا مهلكا.
فقال حسن حينئذ: بالله، ماذا فعلوا؟ - كان عزيز باشا مجدي من الشبان المنغمسين بالرذائل فكانت له عشيقة أو قل: رفيقة أجنبية تدعى كارولين، وقد زعموا حينئذ أنها كانت ذات صلة بشاكر بك وأنها كانت تحبه، وأن عزيز كان يستاء منها جدا إذا اتصلت بشاكر لأقل أمر. على أني لم ألاحظ قط أن شاكرا كان يعرفها أو أنه كان يتصل بها لنكاية عزيز، وقد علمت أن أولئك الأشرار أشاعوا هذا الزعم؛ لأنه من جملة أدوات الفخ الذي نصبوه لشاكر.
وفي إبان الاشتغال بمسألة استرضاء زينب كنت يوما مارا وحدي بعد منتصف الليل أمام سراي حامد باشا حسني أبي عزيز وخليل، فسمعت السائس والحوذي من داخل الإسطبل - والباب مقفل - يتناقشان بالكلام تناقشا حادا، ولكنه خافت، وقد نبهني إليهما قول الحوذي: «لقد انقضى الأمر وقتلت، فالأفضل لك أن تتشجع وتصر على الإنكار لئلا تقع التهمة علينا.» والظاهر أنهما لم يسمعا وطء قدمي؛ لأن الأرض لم تكن محصوبة هناك فوقفت قرب الباب أتسمع ماذا يقولان؟ فقال السايس: إن ضميري يبكتني جدا يا محمد، وأود أن أهرب. - إنك «عبيط» يا علي. ألا تعلم أن فرارك يثبت عليك الجناية، وإلى أين تفر ولا تستطيع الحكومة أن تقبض عليك؟ - إني خايف جدا يا محمد. - لا تخف يا أخي فإن الجناية لاصقة بشاكر بك نظمي؛ فقد ربطنا رأسها بمنديله ووضعنا عقدته في فمها، فضلا عن التحرير الذي وضعناه في جيبها تقليد خطه، وكل الذين يعرفونه يعرفون أنه ينازع مولانا عزيز بك هذه الفتاة الكافرة، فماذا علينا نحن؟ يجب أن نفرح ونسر بالمكافأة العظيمة التي حصلنا عليها؛ فإن عشرة فدادين لكل منا تعد ثروة عظيمة. أطال الله عمر البك، وإياك وأن تتظاهر بأنك صرت ذا أطيان؛ لئلا تنبه الأنظار إليك.
وعند ذلك كنت أسمع نبضات قلبي بأذني من الجزع؛ ولا سيما إذ عرفت أن مكيدة منصوبة لصديقي شاكر، فذهبت في الحال إلى منزله وقرعت ففتح الباب، ولحسن الحظ لم ينتبه أحد من الجيران لي فسألت البواب: «هل عاد شاكر بك؟» فقال: «الآن صعد إلى غرفته.» فصعدت في الحال، وقرعت الباب قرعا خفيفا، ففتح، وإذا هو قد خلع ملابسه ولبس قميص النوم، فقال - باسما: أهلا ومرحبا، خير إن شاء الله؟
فحاولت في أول الأمر أن أتجنب مباغتته بما يقلقه، ولكنه لم يخف عليه قلقي واضطرابي وأنا أقول له: ليس إلا الخير. - بل أراك مكفهر الوجه، فقل ، ما الخبر؟ - أتيت لكي أنذرك بمكيدة منصوبة لك. - أية مكيدة؟ - اسمع فأقص عليك ما عرفته وما سمعته مصادفة.
وجعلت أقص عليه حديث السايس والحوذي بحروفه، فاضطرب وجزع، وقال: ماذا فهمت من كل ذلك؟ - فهمت أن عزيز وأهله دبروا مكيدة لقتل الفتاة كارولين بحيث تقع التهمة عليك. - ولكن عزيز يحب كارولين. - لا تحسبه يعرف معنى الحب، بل قل إنه قد استخدم هذا الحب الدنيء لغايته، وقد قتلها على أسلوب يوقع التهمة عليك؛ ليزيحك من سبيل زواجه من زينب. - يا الله! أين قتلوها يا ترى؟ - لم أقدر أن أفهم ذلك من حديث السايس والحوذي.
وكان شاكر ينتفض من الجزع، فقال لي: والآن ما رأيك؟ - رأيي أن تسافر غدا صباحا إلى الإسكندرية في أول قطار، وفي عصر الغد تبحر باخرة إفرنسية إلى أوروبا فانزل فيها كأحد المسافرين، فإن ثبتت التهمة عليك في التحقيق بقيت في أوروبا، وإلا عدت. - ولكن ألا تظن أن سفري يعد هربا، فيضرني أكثر مما ينفعني؟ - كلا؛ لأنه ليس بصورة الهرب، بل أنت مسافر كعادتك من جملة المسافرين الذين يصطافون، والوقت الآن وقت سفر الاصطياف فلا يدعو سفرك إلى الاشتباه بك؛ ما دمت تتظاهر خالي الذهن من هذه الحادثة. - صدقت، فأسافر كعادتي ومن حسن الحظ أن تذكرتي التي سافرت بها في العام الفائت لم يفت موعدها بعد - على ما أظن - فلأبحث عنها بين أوراقي، لعلي أجدها. - ابحث، ابحث عنها فإن وجدتها يكن الله قد دبر لك السفر خير وسيلة للخلاص من هذه الأحبولة المنصوبة لك.
وفي الحال نهض شاكر إلى طامور أوراقه، وبحث فيه فوجد التذكرة كأن الله سهل له طريق الفرار، فقلت له: ولك علي أن أشهد بأنك قلت لي منذ أسبوع إنك تنوي السفر؛ أشهد كذلك لكي يثبت أنك لم تسافر على حين فجأة هربا من التهمة، فإن قبض عليك قبل أن تبرح الباخرة بك فلا يضرك عزمك على السفر شيئا؛ لأنه ليس فيه صفة الفرار، وإن فزت بالهرب خلصت على أي حال. - ليس لي في بدء الأمر حيلة للخلاص من هذه المكيدة إلا ما تقول، فسأسافر غدا قبل أن تعرف أمي؛ لئلا يحدث بيني وبينها من الوداع غير المعتاد ما ينبه أنظار الخدم ويدعو إلى الشبهة، ولكن عليك أن تزورها في الصباح وتخبرها الأمر بكل حكمة وتسكن بالها وتحثها على أن تكون حكيمة في رواية خبر سفري، وأن تظهر أن لها سابق علم به.
وعند ذلك تركته والأفكار الهائلة المخيفة تقيمه وتقعده، ولا أظنه نام في ذلك الليل من توالي الهواجس عليه، وفي اليوم التالي الساعة الثامنة صباحا زرت أمه فوجدتها جاهلة خبر سفره، فحدثتها الحديث اللازم وحذرتها أن تفلت منها كلمة تؤيد الشبهة.
अज्ञात पृष्ठ