وكان، رحمه الله، لا يكتب مذكراته القيمة إلا بخط يده، وكان من عادته أن يدونها دائما بالحبر كي لا يزول أثر الكتابة بالقلم الرصاص على مر الأيام، وقد كاد دفتر يحتوي على جزء من هذه المذكرات التاريخية النفيسة يفقد عقب وفاته بأيام؛ إذ رمى به أحدهم مع طائفة من الأوراق المهملة في الكناسة التي كانت ستحمل من حجرة المكتبة، غير أن أحد نجلي الأستاذ أمين يوسف السكرتير العام المساعد لمجلس الشيوخ كان مارا في تلك اللحظة أمام حجرة المكتبة، فوقعت عيناه على ذلك الدفتر، فالتقطه وتصفحه، وسرعان ما تبين أهميته، فحمله إلى أم المصريين التي اهتمت للأمر اهتماما عظيما، ومن تلك اللحظة استقر القرار على جمع مذكرات سعد باشا كلها وحفظها في أحد المصارف التي كان، رحمه الله، يتعامل معها خوفا عليها من الضياع، ويقول الذين أسمعهم الفقيد العظيم أبوابا من تلك المذكرات، التي سيكون لها شأن عند حلول يوم نشرها، أنها لا تتناول تاريخ الحركة الوطنية من أولها فقط، ولكنها تحتوي على تاريخ دقيق لجميع الحوادث الهامة التي حدثت في حياة سعد باشا منذ أن كان في سلك القضاء.
وقد أطلعنا مرة معالي فتح الله بركات باشا على كتاب تلقاه من خاله سعد باشا، فألفينا خطه من الخطوط التي يصعب على المرء فكها ما لم يكن متمرنا على قراءتها، غير أنه، رحمه الله، كان يعنى دائما بتوقيع إمضائه بدقة، وكان من عادته أن يخط «سعد» في سطر ثم يخط «زغلول» في سطر آخر تحته. وكان، طيب الله ثراه، يعترف لأصدقائه وأعوانه برداءة خطه، وكان كلما أشار إلى الصعوبة التي يجدها مساعدوه في فك معالمه يغرق في الضحك ثم يقول: «ولكن الحمد لله أن خط الجزيري
1
أحسن من خطي قليلا.»
ومن المأثور عن سعد باشا أنه كان برغم تبحره في اللغة العربية ووقوفه على كنهها وأسرارها يهتم كثيرا بأن تجيء عباراته صحيحة الأسلوب فصيحة الكلمات؛ ولذلك كان لا يجلس للكتابة إلا ومعجم «أقرب الموارد» موضوع على مكتبه بالقرب منه، وكان إذا أراد إعداد مقال هام أو نداء خطير يكثر من تبديل عباراته وتحديد ألفاظه، حتى إنه كان لا يجد غضاضة في تغيير معظم جمله ثلاث مرات أو أربعا. وكان إذا أملى على سكرتيره مقالا أو خطابا يأخذه منه بعد فراغه من إملائه عليه ويراجع عباراته وألفاظه بترو عظيم وهو يحمل القلم بيده ليرمج ما يرى وجوب ترميجه، أو ليحور ما يحكم بوجوب تحويره، أو ليضيف إليه ما يدعو المعنى إلى الإفاضة في البسط والإيضاح. ومما كان يبعث سعد باشا على الإكثار من مراجعة كتاباته وتحويلها وتبديلها، أنه كان يعلق على وزن الجمل واختيار مقاطع العبارات أهمية كبيرة. وكان إذا خامره شك في انسجام جملة من جمله، قرأها بصوت مرتفع ليتذوق نغمها في سمعه. وكان، رحمه الله، يميل إلى اطلاع أعضاء الوفد ومن يكون حاضرا في مجلسه من أصدقائه المقربين على ما يكتبه قبل إعطائه للنشر ليبدوا فيه ما يعن لهم إبداؤه من الملاحظات التي كان يتقبلها بصدر رحب ولو صدرت عن سكرتيره، ما دام يقتنع بصوابها وصحتها، وكان برغم سعة اطلاعه (كما أشرنا إلى ذلك آنفا ) لا ينفك عن الرجوع إلى كتب اللغة القديمة، فيطالع أبوابها بإمعان واهتمام كأنه طالب علم في العشرين من عمره، وكان يجد لذة خاصة في مطالعة الكتب القديمة التي أعادت مطبعة دار الكتب المصرية طبعها بإتقان في السنوات الأخيرة؛ وهي: كتاب نهاية الأرب، وكتاب التاج، وكتاب الأغاني.
وكان الرئيس الجليل يميل عادة إلى الكتابة بعد انتهائه من مطالعة الصحف المحلية، وكان يبدأ بمطالعة الصحف المعارضة منها، فيراجعها من أولها إلى آخرها منعما في كل خبر من أخبارها، وخصوصا الأخبار التي لها علاقة بالسياسة المصرية، ثم يتناول سائر الجرائد، فيقرأ أولا الأخبار الخاصة بالوفد المصري، ثم يطلع على الأخبار الأخرى، وإذا كان لديه متسع من الوقت قرأ الصفحات الأدبية والعلمية والمقالات السياسية عن أحوال البلدان الأجنبية. وكان، رحمه الله، يمضي أوقات فراغه بالمطالعة في الكتب الفرنسية التي تبحث في القانون والسياسة والتشريع، وهذا علاوة على ما كان يطالعه من الكتب الألمانية والإنجليزية على يد المدموازيل فريدا؛ وصيفته الألمانية. (2) سعد واللغة الفرنسية
كان سعد «بك» زغلول مستشارا في محكمة الاستئناف لما وقعت هذه الحكاية، وكان رئيس المحكمة يومئذ قاضيا يدعى بوند بك، وكان سعد بك لا يفقه حتى ذلك الحين من اللغة الفرنسية شيئا ما، لا كثيرا ولا يسيرا، فحدث مرة أن هيئة المحكمة خلت للمداولة في قضية هامة كانت تنظر، وكان بوند بك في تلك المرة رئيسا لهيئة المحكمة وكان سعد بك من أعضائها.
وفي سياق المناقشة والمداولة أدلى سعد بك برأي قانوني تشريعي على جانب عظيم من الأهمية والخطورة، فالتفت إليه بوند بك وقال له: «إن هذا الرأي خليق بأن يبدر عن قاسم أمين أو عن غيره من حملة الليسانس.»
فقاطعه سعد بك قائلا: «يعني ما ينفعش إلا حامل الليسانس؟»
فقال بوند بك: «طبعا.»
अज्ञात पृष्ठ