وبعدما سأل سعد باشا كلا من زائريه عن شئونه وأحواله، دار الحديث لمناسبة ما على أخلاق كبرائنا وعظمائنا، فقال أحدنا إن كثيرين منهم يعتقدون أنه يجب عليهم أن يعيشوا مترفعين عن الشعب منعزلين عنه، ولكن الحمد لله الذي أتاح لنا الآن وزارة شعبية يشعر أعضاؤها بأنهم من الشعب، ويشعر الشعب بأنهم من أفراده، ومن ذلك أنه بلغنا ونحن في بنها في طريقنا إلى مسجد وصيف أنه لما مر معالي علي الشمسي باشا (وكان يومئذ وزيرا للمعارف) في أوائل الشهر ببنها قاصدا مسجد وصيف أيضا، رأى الخفراء مصطفين على طول الطريق من بنها إلى مسجد وصيف، فلم يرتح معاليه إلى ذلك، وقال إنه من الحرام أن يكلف أولئك الخفراء أن يصطفوا تحت وهج الشمس ثلاث ساعات متواصلة بعدما سهروا الليل كله، وخصوصا أن الزيارة ليست زيارة رسمية، وأبلغ معاليه استياءه هذا إلى الذي أمر ببث الخفراء على طول الطريق.
فأعرب دولة الرئيس الجليل عن ارتياحه إلى مسلك علي باشا الشمسي، وقال إنه لا يفهم حقيقة الغاية من بث الخفراء والجنود على طول الطريق على هذا المنوال، وأنه لا يقدر الاحترام ومظاهر الإكرام التي لا تتجلى إلا بالبوليس والخفراء، وأنه يعتقد أن الاحترام الوحيد الذي يجدر أن يسمى احتراما، والإكرام الوحيد الذي ينبغي أن يسمى إكراما ؛ هما الاحترام والإكرام اللذان يبدران من القلوب عفوا نحو الذين اكتسبوا احترام الناس وإكرامهم بأعمالهم وأفعالهم لا بمظاهر القوة والضغط على النفوس والحرية الشخصية. وبعدما أفاض دولته في وصف الديمقراطية ووجوب اختلاط الحكام بالرعية، قص علينا أنه لما تقلد وزارة المعارف وذهب إلى ديوانه بالوزارة لأول مرة، سمع وهو ينزل من مركبته شاويشا ينادي «قرة قول سلاح»، ثم رأى جماعة من الجنود يصطفون ببندقياتهم ويؤدون له التحية العسكرية، فظن أنها عادة جري عليها في استقبال الوزراء الجدد، فسكت ولم يتكلم، غير أنه لم يكد يصل إلى باب الوزارة في اليوم التالي حتى سمع الشاويش ينادي «قرة قول سلاح» أيضا، وأبصر الجند يصطفون كالأمس ويؤدون له التحية العسكرية، فسأل عن الأمر فأجابوه بأن في وزارة المعارف خزنة يتولى أولئك الجنود حراستها، وأن العادة جرت حتى ذلك الحين بأن يستقبلوا الوزير كل يوم بهيئة «قرة قول شرف»، ويؤدوا له التحية العسكرية، فقال لهم دولته: «لا! فإما أن تنقلوا الخزنة من هنا أو تأمروا الجنود بألا يصطفوا كل يوم على هذا المنوال.» ومن ذلك اليوم لم يعد الجنود يصطفون بهيئة «قرة قول سلاح» لتحية الوزير.
ولما تقلد سعد باشا رئاسة الوزراء في سنة 1924، زاره ذات يوم وفد من الأقاليم وعلى رأسه مدير المديرية التي ينتمي إليها أعضاء ذلك الوفد، ولما دخلوا عليه شرع المدير في تقديمهم إلى دولته، فقاطعه رحمه الله قائلا: «لا تتعب نفسك يا فلان، فأنا أعرفهم وأعرف أسماءهم، ولست في حاجة إلى من يعرفني بهم أو يقدمهم إلي.» ثم كلف دولته من أبلغ جميع المديرين أنه يرجو منهم ألا يؤلفوا الوفود برئاستهم لتهنئته؛ لأن الذين يرغبون في مقابلته يعرفون كيف يصلون إليه.
وما دمت أتكلم عن ديمقراطية سعد باشا، فأرى أن المقام مناسب لأن أقص على القراء حكاية اتفقت لدولته في مسجد وصيف، وسمعتها من أحد المقربين منه؛ فإن دولته أمر يوما بإعداد سيارته، ولما أعدت له ركبها مع سكرتيره الخاص الأستاذ الجزيري وطلب من السائق أن يقلهما إلى زفتى ، وكان ينوي أن يزور يوسف بك الجندي في مكتبه، غير أنه لم تكد السيارة تبلغ باب البلد حتى لمح جماعة من أولادها دولة الرئيس، فعرفوه وأحاطوا بسيارته وأخذوا يهتفون بحياته، فخشي دولته إن هو واصل السير إلى داخل المدينة أن تقام له مظاهرة كبيرة، فأشار على السائق بأن يرجع القهقرى ويسير في الطريق الذي يؤدي إلى طنطا، فلما ابتعدت السيارة عن زفتى أمر بتوقيفها ثم التفت إلى الهاتفين، وكانوا قد تعقبوه، وقال لهم: «اللي شاطر فيكم يناديلي يوسف بك الجندي.» فأطلقوا لسيقانهم الريح؛ إذ أراد كل منهم أن يحوز قبل رفيقه فخر تلبية نداء سعد باشا. وبعد ربع ساعة أقبل عوض بك الجندي شقيق يوسف بك الجندي ووراءه «مظاهرة» كبيرة مؤلفة من جميع طبقات زفتى، فسأله سعد باشا عن أخيه، فأجابه بأنه غائب في المنصورة، فكلفه أن يبلغه تحياته ودعاه وإياه إلى تناول الغداء على مائدته في اليوم التالي، ثم شكر الجموع التي احتشدت لتحيته، وأمر السائق بالعودة إلى مسجد وصيف. •••
وفي نحو الساعة الواحدة بعد الظهر دعانا الرئيس الجليل إلى تناول الغداء معه كما يدعو كل يوم الذين يقصدونه لزيارته والسؤال عن صحته، فنهضنا إلى قاعة الطعام وترأس هو المائدة، وكان دولته يأكل تارة من الألوان التي تقدم إلينا، وطورا يؤتى له بألوان أخرى أخف من ألواننا وأسهل هضما منها مراعاة لصحته، وكان حفظه الله يتفقد ضيوفه من حين إلى آخر، فيقول لهذا إنه لا يأكل ما فيه الكفاية، ويسأل لماذا لم يأكل من اللون الفلاني، واتفق أن أحدنا أصيب قبيل الغداء بانحراف بسيط لم يمكنه من الجلوس معنا على المائدة، فسأل الرئيس عنه غير مرة واهتم بشأنه، وطلب من الدكتور حامد أن يعوده، ولما وافانا إلى المائدة عطف عليه دولته بعبارات لطيفه وأمر الخدم بأن يقدموا إليه طعاما خفيفا حتى لا يتعب من الأكل.
ولاحظنا في آخر الغداء أن دولة الرئيس الجليل تعب، فرجا منه أحدنا أن يدعنا ويصعد إلى غرفته ليأخذ قسطه من الراحة، ولكن دولته أبى أن يتركنا وحدنا وظل يحادثنا حتى فرغنا من أكل الفاكهة وشرب القهوة، فقال لنا: «أنتم في بيتكم، وأنا أشكركم جدا على زيارتكم، ولكن اسمحوا لي بأن أستريح قليلا.» ونهض فنهضنا وراءه وأقبلنا عليه فحييناه ودعونا له بالصحة والعافية وطول العمر، فغادرنا وهو يقول: «مرسي! مرسي! متشكر!»
وبعدما استرحنا قليلا ودعنا الأستاذ الجزيري الذي مكث عند الرئيس وركبنا السيارة وعدنا إلى العاصمة، فبلغناها بعد ساعتين وألسنتنا تلهج بما رأيناه من كرم سعد البلاد ومكارم أخلاقه. (5) سعد ومعيشته في مالطة
قصدنا إلى سعادة حمد الباسل باشا ورجونا منه أن يفضي إلينا بتفصيل ما جرى لسعد وصحبه الثلاثة عند نفيهم إلى مالطة في بدء الثورة المصرية، وبوصف معيشة الرئيس الجليل في منفاه، فقابلنا سعادته بما جبل عليه من الرقة والبشاشة وأجلسنا في قاعة تطل على الشرفة التي ألقى منها «سعد زغلول» خطابه الأول عن الوفد المصري والغاية من تأليفه، وهو الخطاب الذي نودي فيه لأول مرة باستقلال مصر وسقوط الحماية البريطانية عنها، وكأن ذكرى هذا الخطاب وذكرى «سعد» وهو يلقيه بصوته الجهوري الرنان حركتا في فؤاد «حمد» ما يكنه من الذكريات الوطنية، فانطلق يحدثنا عن حكاية نفيهم إلى مالطة بإفاضة وبلاغة كأنه يتلو علينا تلك الحوادث من كتاب نقش في أعماق القلوب وحفر بحروف ثابتة خالدة على لوحة الأذهان، فلم تمح على مر الأيام.
حدثني حمد باشا فقال: «قبيل غروب شمس يوم من الأيام اعتقلت السلطة العسكرية سعد باشا وصحبه الثلاثة، ونقلنا جندها إلى ثكنات قصر النيل، وهناك أبلغونا أننا سنسافر في صباح الغد، وأنه يحسن بنا أن نأخذ معنا من الثياب والملابس ما يكفينا لشهر على الأقل. فسألنا إلى أين سنسافر، فأجابونا بأننا سننقل إلى بقعة غير معلومة، فألححنا في معرفة هل تقع هذه البقعة في الأراضي المصرية، أو فيما يجاورها من الديار الفلسطينية، أم أننا سنجتاز البحار وننفى إلى غير بلاد الشرف من الأمصار، فكان الجواب أن الجهة التي سنرحل إليها يجب أن يبقى اسمها مجهولا عنا، فأذعنا للقوة واستسلمنا لمشيئة خالقنا، ورضي رجال السلطة بأن نجلب من منازلنا ما نحتاج إليه من الحاجيات في رحلتنا، كما أنهم سمحوا لكل منا بأن يستصحب معه خادمه.
وفي صباح اليوم التالي وضعت أمتعتنا في سيارة من سيارات الجيش الكبيرة، ودعينا نحن إلى ركوب سيارات صغيرة نقلتنا من ثكنات قصر النيل إلى محطة العاصمة، ووقفت بنا على رصيف القطار الذي أقلنا في الساعة الحادية عشرة إلى بورسعيد، وكان يحرسنا في ديواننا اثنان من الضباط وأربعة من جنود الشاكي السلاح.
अज्ञात पृष्ठ