जीवन का मार्ग
سبيل الحياة
शैलियों
وسارق المذكرة يستطيع وهو آمن أن يباهي بعلمه، وأن يتخذ من قدرته على مثله شهادة مزكية له، ووسيلة للرفع من شأنه. وكل صاحب جريدة يسمع بجريمته يتمنى لو أن أخانا المجرم كان يعمل له؛ بل يتمنى لو كان كل من يعمل في جريدته على مثاله. ولكن سارق الرغيف بماذا يباهي؟ أبفقره؟ أم بعجزه عن الكسب؟ أم بما وصمه به القانون؟ أم بما نزل من السجن؟ وكل صاحب عمل يزهد فيه ويخاف منه ويتقي أن يكون عند مثله، وقد يدركه عليه العطف، ولكنه لا يطمئن إليه. وإنه ليعلم أنه ما أرغاه بالسرقة إلا الجوع وقلة الحيلة وانقطاع الوسيلة؛ وإنه ما كان ليفعل ما فعل لولا ذاك؛ ولكن الشكوك مع ذلك تظل تساوره وتقاوم شعور العطف وتغالب رحمة القلب، بل منطق العقل.
وأحسب أن الصحافة مدرسة لتعليم هذا الضرب من السرقة، ولست أعرف صحفيا واحدا أتيحت له فرصة سرقة وأحجم عنها أو تردد. وما أبرئ نفسي ولا أنا أستثنيها. هذا وليس عملي في الصحافة - ولا كان قط - أن أستقي الأخبار، ولكن كل عمل في الصحافة رهن بالأخبار، فصلته بها أوثق مما يبدو للمرء، وإن خيلت غير ذلك. وإنك لترى الصحفي «حنبليا» في كل شيء إلا حين يحتاج إلى الوقوف إلى خبر، وإذا بالذمة تتسع، وإذ كل شيء جائز في سبيل الوصول إلى هذا المستور أو المكتوم، ثم لا أسف ولا ندم ولا توبة. وأكبر الظن أن تسقط الأخبار في الطباع، وأن الإنسان فضولي بفطرته. فإذا كان هذا هكذا فإن الصحافة لا تصنع أكثر من تنظيم الأمر وتوجيهه وجهة المصلحة العامة لخير الجماعة. والصحافة من ثمرات الحضارة، فهي تصنع كالحضارة - أعني أنها تعمد إلى الغرائز والفطر الساذجة فتصقلها وتهذبها وتنظمها وتجريها في مجار معينة فيصلح أمر الجماعة ويستقيم حالها. مثال ذلك أن الرجل كان يخطف المرأة التي كانت تروقه أو يسبيها، ثم يحتازها مادام راغبا فيها ويحارب دونها، وهوالآن يتزوجها، ولا يحتاج إلى الخطف أو الحرب دونها، وإن كان ربما احتاج أن يعانى متاعب المناقشة من الخاطبيها، أو الراغبين فيها غيره. ومثاله أيضا أن الأثرة والأنانية قد اتخذا مظهر الوطنية أو القومية، ولم تذهب الأثرة ولم يبرأ منها الفرد، ولكن المدنية استطاعت أن تنتفع بروحها في الفرد وتسخرها لخير الجماعة.
كذلك تفعل الصحافة، حين تستغل فضول الإنسان فتتولى جمع ما يعنيه وتنشره على الناس.وقد خرج الأمر عن أصله، حتى لصار يبدو كأنه منقطع الصلة به. ومن الذي يجرؤ أن يقول: إن الصحافة لا هم لها إلا إرضاء فضول الإنسان بعد أن أصبحت تسمى «السلطة الرابعة»؟ ومن ذا الذي يذمها من أجل أنها تصل إلى أخبارها بما يسع رجالها من حيل، ويدخل في طوقهم من وسائل وإن كان بينها السرقة، بل شراء الذمم بكل ما تشتري به من طيب وذميم، أي بالخداع، والملق، والمدح، والصداقة، وتبادل المنافع، لا بالمال وحده كما قد يتوهم البعض، فإن الرشوة الصريحة وسيلة يندر الالتجاء إليها ...
وهكذا جعلت الصحافة من السرقة عملا محمودا، ومن مرتكبها لصا شريفا! ولا عجب فإن خدمة الأمة تكلف أبناءها تعاطي ما يعده العرف رذائل وآثاما، وتحمد منهم ذلك، وتجزيهم عليه أحسن الجزاء.
الفصل السادس
في طريق الحياة
كانت عادتي - إلى بضع سنوات - ألا أبرح بيتي إلا وفي يدي كتاب، وكنت لا أكاد أستقر في «الترام» حتى أفتح الكتاب وأقبل عليه وأنصرف عن الدنيا التي حولي حين أخرج للرياضة. كنت أتخير الطرق المهجورة فأميل إليها ليتسنى لي أن أقرأ في كتابي وأنا آمن، وقلما كنت أقرأ مؤلفا حديثا، أو كتابا أو ديوانا لست على يقين جازم من جودته، فكان علمي بالدنيا ومعرفتي بالحياة قاصرين على ما يفيده المرء من الكتب، وكنت أشعر - من أجل ذلك - كأني مغرب عن الناس وأن الذي بيني وبينهم خراب لا عمار فيه.
وكنت أتصور الحياة معنى لا ألمس له حقيقة ولا أضع يدي على صور لها محسوسة، وكان فهمي للحياة وإحساسي بوقعها عن طريق النظر في جوانب نفسي، وذلك لأني اعتدت أن أرد عيني عن النظر إلى ما هو أمامي وأن أديرها في سريرتي، وكانت تجاربي هي ما تمثله الكتب لإحساسي وتحضره لذهني وتكشف لي عنه من وجوه الألم والحزن والخطأ والإثم.
وعشت خير عمري لا أعرف حقيقة الفزع والهول ولا السرور واللذة وإنما أعرف ما يوصف لي من وقعها، فكان قلبي أبدا يخفق بالوهم على جناح الخيال ولا يزال يفتنه سحر العواطف والخواطر المدونة، وكنت أزهى بذلك وأخادع نفسي فيه وأقول: وما حاجتي إلى التجريب الشخصي لتتحرك في هذه العواطف؟
وهبني جربت وجربت فهل أطمع أن أجرب كل شيء؟
अज्ञात पृष्ठ