فيفجر بعد ذهابه عاصفة من السخرية، وكان يدعو أصدقاء متفرنجين مثله ويجتمع بهم في منظرة البيت. وكان بينهم عازف بيانو يتقن عزف المقطوعات الإفرنجية، فكان يترك في نفوسنا أسوأ الأثر والغضب. أجل كنا نتطلع إلى الفرنجة في نواح أخرى فنقرأ الأدب الغربي المترجم، بل حاولنا أن نتعلم الرقص وخاصة الشارلستون والطانجو، أما الموسيقى فلم يكن من الميسور هضمها. وفي رمضان لم يكن عثمان يبالي أن يسير والسيجارة في فمه! وقالت لي أمي: كريمة هانم لا تصوم أيضا! - وجمال بك؟ - لا أدري ولكن المعقول أنه يصوم.
وتذكرت مساحة بطنه التي تشبه خريطة آسيا فلم أصدق أنه يصوم.
المهم أنه في أوائل الثلاثينيات - وكنا في ختام المرحلة الثانوية - سافر عثمان في بعثة إلى فرنسا، وبعد أشهر دهمنا خبر فظيع وهو أنه اضطر إلى إطلاق الرصاص ليسترد نقوده التي خسرها على مائدة قمار، وأنه ألقي القبض عليه. لم نستطع أن نتصور تطور تلك الشخصية البالغة الرقة والتهذيب من العذوبة اللانهائية إلى الجريمة. وخفق قلب شارعنا رغم كل شيء، ثم وردت الأخبار بأنه قضي عليه بالسجن عشر سنوات في جزيرة الشيطان. يا للهول! .. عثمان جمال إسماعيل في جزيرة الشيطان! إنها الجحيم كما رأيناها في فيلم بسينما أوليمبيا، فكيف يتحملها الفتى الهش الرقيق؟ ولم تعد كريمة هانم ترى في الطريق. أما جمال بك إسماعيل فقد غامت نظرة عينيه البراقتين وثقلت خطاه بالهوان. وقيل إنه استشفع بإسماعيل صدقي رئيس الوزراء، ولكن ماذا تجدي الشفاعة أمام القانون الفرنسي؟! وسمعت أمي تقول ذات يوم بتأثر شديد وهي راجعة من زيارة آل إسماعيل: عيني عليك يا كريمة هانم .. ذبلت عيناك من البكاء!
ولكن المأساة لم تستمر كالجرح الذي لا بد أن يذبل فبلغت ذروتها بوفاة البطل السجين. وغيرت المأساة من حياة الزوجين، فكانت الوداع لحياة السرور والضحك. وما ندري يوما إلا وهما يسافران معا إلى الحجاز لأداء فريضة الحج. وفي أثناء الحرب العظمى الثانية رأيت كريمة هانم في مخبأ الشارع الذي كان يجمع بين أهل الحي كل ليلة. رأيتها في ملابس البيت وقد تخلى عنها لحمها ورواؤها، وعلتها أمارات الكبر .. وعند نهاية الحرب هاجرت الأسرة إلى مصر الجديدة فلم تقع عيني على أحدهما بعد ذلك حتى اليوم. وتتابعت الهجرات من شارعنا إلى الأحياء الأرقى، وشق شارع أحمد سعيد وسط الحقول، فسرعان ما اختفت الخضرة والأزهار وحلت محلها في الأرض الفضاء الخردة ومخلفات الحرب. وفي الخمسينيات - وأنا موظف بالأوقاف - رأيت ذات يوم سامية تمضي بصحبة كهل نحو حجرة مدير الأوقاف الأهلية. رأيت أمامي صورة طبق الأصل من كريمة هانم على عهد النضارة والجمال. وقد التقت عينانا في نظرة خاطفة، وأعتقد أن التذكر تبادل حوارا صامتا بين عينينا، ولكنه كان كافيا من ناحيتي لإحياء عشرة طويلة من الماضي الجميل.
آل مراد
يقوم بيتهم في نهاية الشارع من ناحية بين الجناين في ذيل الجانب الآخر من الشارع، فهو يواجه بيت آل إسماعيل. صديقنا من هذه الأسرة هو آخر عنقودها عبد الخالق، وكان يقيم في البيت مع أخت وأخوين. أما الشيخ مراد أبوه وكذلك أمه فقد توفيا منذ سنوات وهو ما زال طفلا. وبترتيب السن كان محمود هو الأكبر، ورتيبة تليه ثم أحمد، وتفصل سنوات غير قليلة بين أحمد وصديقي عبد الخالق، وكانت رتيبة تقوم في البيت بوظيفة الأم خير قيام. وقال لي عبد الخالق إن أخويه موظفان وإنهما قررا ألا يتزوجا حتى تتزوج أختهم رتيبة. ورغم بساطة الحال والمظهر لم أعرف في حياتي شخصا فخورا مثل عبد الخالق. يحدثنا كثيرا عن أبيه الشيخ مراد وكيف كان من شيوخ الأزهر الخالدين، وأمه سليلة مجد عريق، وأن أباها مذكور في تاريخ الجبرتي، وكان يذكر أخويه محمود أفندي وأحمد أفندي باعتبارهما من موظفي الدولة المهمين. وعرفت الحقيقة بفضل بقية الأصدقاء والزمن والشارع، وعرفت أن فخره لم يكن على غير أساس دائما. أجل كانت أسرته الغصن الوحيد العاري في شجرة مورقة بالمجد والثراء. عمه كان يوما مفتي الديار المصرية، وما زال وقتذاك عضوا في هيئة كبار العلماء، إلى مواقف مشهودة تذكر له في ثورة 1919، وخاله كان في تلك الأيام النائب العام، وما أدراك ما النائب العام؟! وثمة خال آخر يعد في الصفوة المختارة من تجار البلد. إذن ففخره لم يكن بلا أساس يعتمد عليه، ولكنه كان يغالي فيه لدرجة جرت عليه بعض السخرية. وكان ينتهز فرصة نشر أي نعي خاص بأسرته لكي يتلوه علينا بالأسماء المدوية المذكورة فيه، ولكننا لم نشهد يوما أحدا من أولئك الرجال العظام وهو يزور بيت صديقنا المنعزل في شارع الرضوان. وعرفت بعد ذلك حقيقة أخويه الموظفين، فإذا بهما من صغار الموظفين، محمود أفندي بالابتدائية، وأحمد أفندي بالكفاءة. وكان عبد الخالق ذا وجه مستدير وشعر أسود عميق السواد، وأنف أفطس، وعينين مستديرتين صغيرتين، وكان هو ومحمود أفندي ورتيبة ثلاث صور متقاربة لا تمت للجمال بأي صلة، بخلاف أحمد أفندي الذي انطلق بقامة ممشوقة ولون ضارب للبياض وقسمات متناسقة جذابة. وكان طبيعيا أن يؤجل الأخوان زواجهما حتى تتزوج رتيبة، وحتى ينتهي عبد الخالق من مراحل تعليمه التي تعثرت خطاه فيه ولم تبشر بأي فلاح مرموق. كان الفقر يخيم على الأسرة ويطمس معالم مستقبلها، وربما كانت رتيبة مشكلتها الأساسية لفقرها وجهلها وحرمانها القاسي من الجاذبية والجمال. ورغم ذلك فهي لم تستسلم للانزواء والانطواء، وترددت على أسر الشارع في زيارات انفرادية - متجنبة أيام الزيارات المعروفة - لتتفادى الوجود في مجتمعات السيدات بملابسها البسيطة المتواضعة، ولتلقاهن كذلك في بيتها منفردات فلا تكلفها الزائرة أكثر من فنجان القهوة. وكانت محور الخدمة في بيتها، فلم يشعروا بفقد الأم ولا بافتقاد الزوجة، وراحت تتقدم في السن عاما بعد عام في جو من الصمت والقلق. لا شك أن أحمد كان أسعد أعضاء الأسرة، يسير بالشارع تياها بمنظره فيجذب أنظار البنات والنساء، ويوزع نظراته على النوافذ والشرفات مغلقة بالحذر الواجب. جعل من فن الحب مهنته ولم يخب مسعاه فحرره الحب من البيت الكئيب بما يشبه المعجزة. أحبته أرملة غنية تماثله في السن وعرضت عليه زواجا يناسب حاله؛ أي بدون تكاليف تذكر. وانزعج أخوه الأكبر محمود، وقال له إنه سيتركه وحيدا في السفينة الجانحة ولكنه طمأنه ووعده بأنه سيفيض على أسرته مما سيفيض به الله عليه، وتزوج من الأرملة، وانتقلت به إلى المعادي، كأنما لتستأثر به بعيدا عن أهله. والحق أنه لم يستطع أن ينجز وعدا من وعوده الخلابة، وكاد ينقطع تماما عن أسرته تحاشيا للمشاحنات ووجع الدماغ. وساءت حال الأسرة أكثر وبلغ اليأس أقصى مداه بمحمود ورتيبة، أما عبد الخالق فنتيجة لفشله المتكرر في الدراسة التحق بالتجارة المتوسطة بالابتدائية، وانتهى من دراسته المتواضعة قبل أي واحد منا، وبوساطة عمه أو خاله التحق بوظيفة صغيرة بالمعارف. وبحلول الثلاثينيات نبذ محمود أفندي فكرة الزواج تماما يأسا وعجزا، ومضى ينحدر نحو سن المعاش، ورتيبة جاوزت الثلاثين بخمس واستسلمت لليأس، وآمن عبد الخالق بأنه يسير في نفس الطريق، ولكن كان ثمة مفاجأة في الغيب فقد جاء أولاد الحلال بعريس لرتيبة. في الخمسين من عمره، كان وحيدا وعلى شيء من الثراء والمرض، ولعله كان في حاجة إلى الخدمة أكثر من أي شيء آخر. هكذا تزوجت رتيبة قافزة فوق اليأس والظنون، واستقرت أيضا في بيتها الجديد، وأنجبت قبل فوات الفرصة ولدين أتيح لي أن أرى الأكبر ضابط شرطة والآخر ضابط جيش، وصادفتهما كثيرا في أطوار من العمر في بيت عبد الخالق فكانا يناديانني بقولهما: «يا خالي.» أسوة بخالهما عبد الخالق. والحق أن صداقتنا مع عبد الخالق صمدت للزمن قوية رغم اختلاف المشارب والمذاهب، يحفظها الشارع والمقهى والذكريات. واستقبلنا الحرب العظمى معا، وجمعنا المخبأ كل ليلة، وطالما ناقشنا التغيرات النامية حولنا في الناس والأحوال والأسعار. وكان من السهل ملاحظة الحب الجامح الذي يكنه صديقي لأهله عامة ولابني أخته خاصة، شأن الأعزب المحروم من ممارسة العواطف الحميمة، وأيضا لتطلعه الطبيعي الساذج نحو نفوذ الشرطة والجيش يغطي به هوانه كموظف صغير ضائع بلا مستقبل يعتد به، ولكن سوء الحظ كان يرصده من حيث لا يدري؛ ففي الفترة الحرجة التي أعقبت الحرب استولت مبادئ الإخوان على ضابط الشرطة، وفي خضم الصراع بين الإخوان والسلطة انكشف أمره في مطاردة مثيرة وقتل برصاص الشرطة! قتل الجنود ضابطهم، ولم أعرف هذه الحقيقة إلا من عبد الخالق نفسه، بخلاف ما نشر في الجرائد من أنه قتل برصاص الإخوان في المعركة. وأرسل عبد الخالق لنا كلمة مكتوبة يحذرنا فيها من شهود سرادق المأتم خوفا أن نجر بسبب ذلك التحقيق.
وقال لي فيما تلا ذلك من أيام: حتى بيتنا فتشوه!
وراح يتمتم بنبرة باكية: إنه حظي الأسود!
لم أعرف بين أصدقائي من كان يقارب عبد الخالق في عمق أحزانه أمام الموت، وكان يفوق في ذلك النساء أنفسهن، كما لم أعرف أحدا يماثله في شدة تعلقه بأسرته. أما خاصيته الأخرى فهي إدمانه لشراء أوراق اليانصيب وبخاصة يانصيب المواساة أو سباق الدربي العالمي. وكانت أسعد أوقاته هي ما تمضي بين شراء الورقة وظهور النتيجة، حينما يستسلم لعذوبة الأحلام، في مباهجها الأساسية؛ الفيلا، والسيارة، والمائدة، والعروس. وأحيانا يقول لي متحسرا: يا لخسارة النظرات الضائعة في الهواء!
فأسأله عما يعني فيقول: الجميلات في النوافذ!
अज्ञात पृष्ठ