وتفكر قليلا ثم تواصل: ولكنها انتقمت من الرجل وهو لا يدري، فخانته كما يخونها. - ولكنها لا تغادر القلعة أبدا!
فتقول أم أحمد مقهقهة: لا يتعذر على اللبان أن يتنكر في زي امرأة ويندس إلى الحريم.
وفاخرت أم أحمد بأنها الوحيدة في الحي التي تصافح عبد الحميد بك سعادة، والتي يقول لها دون تأفف: كيف حالك يا أم أحمد؟
ولعلها الأسرة الوحيدة التي شهدت ثورة 1919 من بعيد، دون اشتراك من أي نوع كان.
وبعد أشهر من قيام الثورة توفي عبد الحميد بك، ولم يشيع جنازته سوى نفر من ذوي القربى وشيخ الحارة، ولم يشترك رجل أو امرأة من حارتنا في العزاء. ولمحت البنات الثلاث وهن يبكين في نافذة ففاضت دموعي، وسرت وراء المشيعين القلائل حتى جامع الحسين. ولم يكن شيء يثير خيالي وأفكاري مثل الجنازات، وشهدت جنازات معدودة لشبان الحارة الذين استشهدوا في أوائل الثورة، وصدقت حرفيا الهتاف المعروف: «فلان حي لم يمت.» وكنت أتوقع أن أراه يعمل ويسير كما كان يفعل من قبل، وتساءلت عن ذلك دون جدوى. وعلى أي حال، حل فاضل مكان أبيه، وما لبث أن هاجر إلى العباسية، ولكنا سمعنا أن الأسرة اشترت بيتا فوق المتوسط بغمرة ولم تشيد قلعة جديدة في العباسية الشرقية، فتبين لنا صدق رأي أم أحمد في درجة ثرائهم. انتقلت الحارة إلى العباسية ولكن لتعيش في دويلات مستقلة. ولولا أم أحمد ما عرفنا بزواج فاضل من كريمة وكيل الداخلية.
رضي به زوجا لابنته، بعد أن رفض يد طبيب فلاح!
وتزوجت كبرى البنات من صائغ غني بالصاغة، والوسطى من وكيل نيابة، أما الصغرى وهي أحبهن إلى قلبي فقد عشقت موظفا بسيطا وأصرت على الزواج منه رغم معارضة الأم والأخ وبقية الأسرة، وقد أقامت معه في بين الجناين لا يفصلهما عن بيتنا إلا خطوات، وهي الوحيدة التي كنت أصادفها في الطريق فنتبادل نظرة عابرة ولكن مترعة بذكريات الماضي .. وقدر لي أن أرى بكريها الجميل وهو يلعب في الشارع أو في الحدائق التي تكتنف الحي وتسكب عليه عبيرها، وطبعا لم أتصور المستقبل المثير الذي كان ينتظره بمنحنى التاريخ. ولما قامت ثورة يوليو مرت بآل سعادة بسلام، بل حل الوقف وأصبحوا أحرارا في التصرف في أملاكهم. وعلمت أن الصبي الصغير ابن البنت الجميلة الصغرى من الضباط الأحرار، بل والمقربين. واختير لوظيفة في المخابرات وسرعان ما جرى اسمه على كل لسان، واكتسب سمعة مخيفة لا تكون إلا لشيطان! وجعلت أقارن بين ما يقال عنه من حقائق وأساطير وبين صورة صباه الجميلة الوديعة، وأتساءل وأتعجب. ورحت أسأل أم أحمد عن رأيها في ذلك فأرسلت قهقهتها العظيمة، وقالت: صدق من قال: إن الأتراك فيهم عرق جنون.
وكانت أسرته قد انتقلت بعد الثورة من بين الجناين إلى المعادي، ولم أعد أرى من أفرادها أحدا، ولكن أم أحمد حدثتنا عن استقالة الأب من الحكومة ليشغل وظيفة في شركة، وأنهم يتوغلون في العز والجاه بسرعة الإكسبريس. وعلى أي حال فقد اندمج آل سعادة أخيرا في الوطنية المصرية ، بل الوطنية الثورية!
إلى يسار قلعة آل سعادة، وعلى مبعدة خمسين مترا تقوم سراي آل البنان. أرى علي بك البنان كل يوم في دوكاره وابنه الصغير محمد صديقي وزميلي وربة السراي فردوس هانم حبيبة أمي وأقرب الجميع إلى قلبها> وعلي بك طويل القامة، غامق السمرة، ذو مظهر جذاب في جبته وعمامته البيضاء، يمضي به الدوكار كل صباح من السراي إلى الطاحونة في مرجوش. هو أتقى الأغنياء بالحارة وأبرهم بالفقراء وأجودهم بالابتسامة، وفي سراياه يقام ذكر كل أسبوع يؤمه جمع من أهل الطريقة الشاذلية، وتقول عنه أم أحمد: علي بك غني وما غني إلا الله.
ثم ترجع إلى التاريخ بصوت منخفض قائلة: كان أبوه يسرح بالبن على باب الكريم، وفتح دكانا صغيرا في الخرنفش، وقامت الحرب، فأمر الله بالثراء ولا راد لأمره. ومات الأب فأنشأ سي علي الطابونة، وشيد السراي، وتزوج من فردوس هانم بنت أكبر حلواني في الحي، وأنجب البنات كالأقمار، ثم جبر الله بخاطره فأنجب محمد على كبر.
अज्ञात पृष्ठ