لا أجادل في حق الفتاة في التعليم والعمل ولكني أفضل ست البيت، يحكم علي يوسف علي بأنني محافظ أكثر مما ينبغي، يقول: أنت مثل معدتك لا تتطلع إلى الحياة الجديدة!
فأقول: لا تغال، حسبي أن أصنع أسرة أفضل من أسرتي.
ونختم دراستنا في العام السابق لنشوب الحرب. صرنا أستاذين كما يقال، لم نبلغ الدرجات التي تؤهل للوظائف الممتازة؛ أنا بسبب اجتهادي المعتدل، وعلي يوسف لنشاطه السياسي. وكان علي قريبا للأستاذ جعفر برهام المحامي فألحقه بمكتبه، وداخ أبي حتى ألحقني بالإدارة العامة بوزارة المعارف، لولا أزمة فكرية وزينب لاعتبر رسالته في الحياة منتهية على أحسن وجه. على أي حال سعد بيتنا على قدر ما يستطيع، وسعد أكثر بيت بهاء أفندي عثمان، بيت ملك، زيارتي لها بعد الوظيفة حفلت بمعان جديدة، ودار الحديث فيها حول التدبير والمستقبل وتوارت المناجاة ورموز العشق، أقول كالمعتذر: الوظائف الممتازة نادرة جدا اليوم.
فتقول بمرح: مفهوم .. لا داعي للأسف! - ثمانية جنيهات فيها الكفاية. - وفوق الكفاية. - ولن يطول وقت الاستعداد بإذن الله.
وتحني رأسها بالموافقة موردة الخدين بالابتهاج. وأطالع قامتها الفارعة وهي تقدم لي القهوة فتسري رجفة في أعصابي كالإعصار، وأتساءل: ترى لو تعلن الخطوبة ألا أستحق مزيدا من العطاء؟ وتساءل حمادة الطرطوشي ساخرا: ما إن فرغنا من النرد حتى همت في وديان بعيدة، فيم تفكر؟ - أتابع الحاوي الذي يعرض ألعابه أمام المقهى وسط حلقة من الصبيان، وأنظر بتقزز إلى ثعبان حول عنقه.
ويسألني: أتحب الحواة؟ - أبدا.
يقول متنهدا: حفيدي مريض جدا. - ربنا يأخذ بيده. - هل تذكر بيت الشعر الذي يقول مطلعه وأولادنا مثل لا أدري ماذا؟
أتذكر أنني قرأته، ولكني لا أحفظ الشعر. - أنا اليوم أنسى ما يجب حفظه، وأتذكر ما لا فائدة فيه! - وأنا مثلك. - أحيانا أنسى بعض قواعد النحو الذي أنفقت عمري في تدريسه! - نسأله الستر. - يقول ضاحكا: أنت في حاجة إلى عروس مع الستر!
ارتجفت جذور قلبي بنغمة طالما ترددت على أوتارها منذ الزمان الأول. وأحيل أبي إلى التقاعد في نفس العام الذي التحقت فيه بخدمة الحكومة، قرأت في وجهه النحيل حيرة باهتة يداريها بابتسامة فاترة وما يشبه الحياء، فقلت لنفسي أبي حزين، وأصر على ألا يغير نظامه اليومي، ينام عند منتصف الليل، يستيقظ مبكرا، يغادر البيت في الثامنة - بدلا من السابعة - يعود ظهرا من مقهى الدواوين بدلا من الوزارة، يتغدى، ينام، يمضي مرة أخرى إلى المقهى، لكنه حزين. قررت أن أسري عنه وأدخل إلى قلبه البهجة، هو أبي وصديقي ولا حياء بيننا في الحق، سأقول له يدك على يدي لنذهب معا إلى بيت بهاء أفندي عثمان لنخطب ملك، هو يومي الموعود ويومك الموعود أيضا، لا جدوى من انتظار زواج فكرية وزينب ولو انتظرت إلى آخر الدهر. ولكنه مات فجأة، بلا مرض ودون توقع، في الصباح الباكر وهو يحتسي القهوة عقب الإفطار، إنه القلب كما قرر الطبيب فيما بعد. اشتعل البيت صواتا ولطما، بكيت مع النساء كالنساء، أحببته حبا لا يضاهيه حبي لأحد، وتحداني موته وأنا في سن يتعذر عليها الاقتناع بالموت. جاءت أيام بعد ذلك بأعوام وأعوام كنت أحزن لأنني لا أحزن، ويقول لي علي يوسف معزيا: القلب أرحم موتة للميت وأقسى موتة على ذويه!
وضرب لي مثلا بأبيه. ما تصورت أنني سأعرف العزاء أبدا. وبرزت لي من الغيب حقيقة جديدة رغم أنها كانت تعيش معي طوال الوقت؛ فلم أدرك مدى فقرنا إلا بعد وفاة أبي. عشت دهرا في نعيم من الآمال الكاذبة، أذهلني أن أبي لم يخلف ثروة من أي نوع كان، سوى أربعين جنيها عهد بها إلى أمي هي تكاليف جنازته ودفنه. إذن ما سر البحبوحة التي سبح فيها بيتنا؟، المسألة بكل بساطة أن الدنيا كانت مطحونة بأزمة عالمية مررت بها في الصحف دون اكتراث، وتميز أصحاب المرتبات الثابتة بدخل ثابت أصبح محور الحياة الاقتصادية على تفاهته. السلع رخيصة ولا تجد من يقبل عليها إلا الموظفون، بفضل ذلك أكلنا وشربنا ولبسنا وركبتنا الخيلاء ونحن نمرح في القاهرة. وبنشوب الحرب مضى كل شيء يتغير؛ جاء الرواج، ومضت الأسعار ترتفع درجة بعد درجة، واسترد الملاك أنفاسهم، وانتفخت جيوب فئات ممن عرفوا بأغنياء الحرب، وتجهمت الدنيا للموظفين الذين تراءى لهم المستقبل طريقا مسدودة. وهكذا وجد الفتى المدلل نفسه رب أسرة بلا أسرة، مسئولا عن أم وأختين مزمنتين، لهم معاش ضئيل يفي بالكاد بكسائهن المتواضع، وله مرتب تضعف قيمته الشرائية يوما بعد يوم، كيف يمكن أن أتحدث عن موضوع خطوبتي؟ ومتى أستطيع أن أتزوج؟ وتم أول لقاء بيننا في بيتها بعد أربعين أبي، أنذر جوه بالإحباط والمتاعب، ما زال الحزن يصهرني فاحترمت حزني، لكنني لم أرها كسيفة البال كما أراها الآنز أقول بوجوم: كانت صدمة في ألا يخلف أبي شيئا!
अज्ञात पृष्ठ